توقعات باستمرار التضخم العالمي إلى بدايات العام القادم
تراجع التضخم في منطقة اليورو متذبذب قد لا يدوم طويلاً
الاتجاه إلى (قطاعات الضرورة). هو المخرج من أزمة التضخم العالمية
أين تستثمر أموالك؟ ماهي القطاعات الأفضل أو الأكثر آمنًا للاستثمار في ظل حالة التضخم المستمرة؟
سؤال يبحث عن إجابته المستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال من مختلف بقاع الأرض في ظل استمرارية تصدّر التضخم للمشهد على ساحة الاقتصاد العالمي، وسط مؤشرات ركود قد تجتاح الأسواق تدريجيًا، وقراءات تفيد بأنه تضخم ليس بمؤقتٍ أو عارضٍ، وإنما قد يُصاحب العالم لفترة ليســت بالقصيــرة، ربما تمتد إلى بدايات العام المقبل 2024م.
تراجع دون المستهدف
فعلى الرغم من جهود البنوك المركزية لمعظم الاقتصادات المتقدمة في العمل على خفض معدلات التضخم من خلال تشديد السياسات النقدية برفع معدّلات الفائدة بوتيرة غير مسبوقة، والتي أظهرت تقدمًا ملحوظًا ـ لا يمكن إغفاله ـ بتراجع تدريجي لمعدلات التضخم منذ شهر أكتوبر 2022م؛ إذ تفيد البيانات الرسمية أن تضخم أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة الأمريكية تراجع خلال يناير الفائت إلى ما نسبته %6.4 مقارنة بأعلى مستوى له بلغه منذ 41 عامًا وهو %9.1 في يونيو 2022م، ولكنه يظل بعيدًا عن المستهدف وهو %2. كما تراجع معدل التضخم بصورة طفيفة في المملكة المتحدة مرتبطًا بانخفاض تكاليف النقل، ليصل إلى ما نسبته %10.1، مقارنة بمعدل %11 في أكتوبر 2022م، وهو كذلك لا يزال بعيدًا عن أهداف البنك المركزي البريطاني بأكثر من خمس مرات تقريبًا.
و في منطقة اليورو، تراجع التضخم خلال يناير الماضي قليلاً إلى ما نسبته %9.2 مقابل %10.1 أواخر العام الماضي، ويعد تراجعًا متذبذبًا قد لا يدوم طويلاً، لأنه جاء نتيجة انخفاض أسعار الطاقة الناجم بدوره عن تراجع معدل الطلب الصيني المؤقت عليها، والذي قد يعاود الارتفاع من جديد مع رفع الإغلاق وانتهاء الإجازة الصينية السنوية، هذا فضلاً عن أن مؤشر الأسعار الاستهلاكي في الاتحاد الأوروبي يظهر زيادة في أسعار جميع المكونات الرئيسية للتضخم الأساسي في العديد من السلع لايزال مرتفعًا، فأسعار العديد من المواد الغذائية تواصل مسلسل ارتفاعها، ففي هنغاريا مثلاً بلغ معدل ارتفاعها %50 ولتوانيا نحو %33.5 واستوينا ما نسبته %30.8.
ومن الواضح أن معدلات التضخم ـ رغم تراجعها ـ لا تزال مرتفعة، ولم تُحقق المستهدف ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لكنّها ـ وكما يقول المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي، الدكتور محمود محي الدين ـ قد بلغت ما نسبته %40 في مجمل الاقتصادات المتقدمة، وتزيد عن %70 بالأسواق الناشئة والدول النامية، ما يؤكد فرضية أن التضخم سيظل باقيًا خلال العام الجاري، وربما يمتد إلى بدايات العام القادم، لاسيما وأن هذا التضخم الحاصل هو نتاج أزمة صحية صاحبتها أزمة اقتصادية، وليس مثل أزمات التضخم السابقة التي كانت اقتصادية تأثّرت بها القطاعات الأُخرى كأزمة الرهون العقارية وغيرها من الأزمات المماثلة.
قطاعات الضرورة
وأمام استمرارية ارتفاع التضخم ـ رغم التراجعات الطفيفة في معدلاته ـ وبقاء البنوك المركزية لاقتصادات الدول المتقدمة على اتباع سياسات رفع سعر الفائدة حتى ولو كانت بمعدلات أقل من السابق، وما يتبعها من تباطؤ في نمو الإقراض وعزوف الشركات عن التوسع، وتراجع لأسواق الأسهم ــ أمام كل ذلك يبقى البحث عن أفضل القطاعات (الآمنة) للاستثمار في ظل التضخم، بمثابة الشغل الشاغل لأغلب أصحاب رؤوس الأموال.
و قبل التطرّق لهذه القطاعات التي يمكن الاستثمار فيها خلال فترة التضخم يجب أن نضع في الاعتبار أن التضخم يندرج تحت نوعين الأول: هو تضخم الطلب، والثاني: تضخم التكلفة، فالأول يحدث نتيجة لارتفاع الطلب على السلع، والثاني يحدث في حالة تعطّل توريد السلع والخدمات، وبالتالي ندرة العرض مع ارتفاع الطلب، ويبدو أن الحالتين سائدتان خلال هذه الفترة، فجائحة كورونا كان لها علاقة كبيرة بارتفاع معدل التضخم، فمن حالة التوقف الاقتصادي إلى التشغيل، وعندما بدأ الاقتصاد في النمو مرة أخرى، واجهت العديد من البلدان تحديات مماثلة مع تعطّل مصادر العمالة وسلاسل التوريد والإمداد بسب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي لا يمكن التنبؤ بميعاد انتهائها، فتوفرت ـ بالتبعية ـ كل مسببات استمرارية التضخم، هذه الاستمرارية التي يتفق الاقتصاديون على أنها ـ وكما تؤثر سلبًا على تكاليف المعيشة لدى الأفراد ـ تضع المستثمرين في حيرة حول أي القطاعات التي ينبغي أن يتجهوا للاستثمار فيها في ظل بيئة تضخم عالية مستمرة وارتفاع لأسعار الفائدة.
من هنا يتأكد تطبيق فلسفة الاتجاه إلى “قطاعات الضرورة” فإنها المخرج بالنسبة للمستثمرين، كونها تُظهر بجلاء قدرة على مكافحة التضخم، ذلك لأنها القطاعات الأكثر احتياجًا، سواء للمستهلكين من الأفراد أو الفاعلين من الدول، كقطاعات: الطاقة، والرعاية الصحية، والزراعة، وغيرها من القطاعات التي تنطوي تحت فلسفة الضرورة.
أصول الطاقة الأعلى
فالطاقة بمختلف أنواعها (أحفورية كانت أو متجددة)، تعد ملاذًا آمنا للاستثمار في كافة الظروف، وليس فقط في ظل حالة التضخم المستمر التي يمر بها العالم، إذ يُنظر إلى الطاقة باعتبارها ضرورة للحياة البشرية كالماء والغذاء، فلا يمكن لنا أن نتصور كيف ستكون الحياة بدونها، لأن غيابها قد يتسبب بتبعات كارثية تهدّد الحياة البشرية برمّتها، وفي ظل التزايد السريع في عدد السكان وارتفاع الطلب يلحظ تنامي التوجه و زيادة الدعم من قبل الحكومات والمنظمات الكبرى في شتى أرجاء العالم للاستثمار في الطاقة، النظيفة منها على وجه الخصوص.
والمراقب لفئات الأصول وحركتها في سوق الأسهم على مدار العقدين الماضيين وما تخلّلها من فترات تضخمية، يلحظ أن أفضل أداء لفئات الأصول ـ بحسب تقرير لشركة ولز فارجو آند كومباني، وهي شركة خدمات مالية أمريكية كُبرى ـ كان أداء النفط بعائد %41، فضلاً عن اكتساب الطاقة النظيفة زخمًا في سوق الأسهم، إذ تبرز قائمة متزايدة من الشركات التي تُسهم خدماتها في مكافحة تغير المناخ، وباتت أسهم الطاقة النظيفة أفضل الاختيارات في سوق الأسهم، فمثلاً: أسهم شركة إنفايز إنرجي الأمريكية المتخصصة في توفير حلول الطاقة النظيفة التي تعتمد على الطاقة الشمسية للمستهلكين شهدت مكاسب تزيد على %75 خلال عام 2021م، وشركة فيرست سولار المصنعة للألواح الشمسية أظهرت بياناتها المالية للربع الأخير من عام 2021م مبيعات صافية قدرها 584 مليون دولار، وسجلت صافي دخل لكل سهم قدره 0.42 دولار أميركي، وأنهت الربع بمبلغ 1.9 مليار دولار نقدًا.
الرعاية الصحية في المقدمة
ويأتي كذلك قطاع الرعاية الصحية، باعتباره من القطاعات الأفضل استثمارًا في ظل التضخم، فالناس في احتياج دائم إلى البقاء بصحة جيدة، وقد أصبح هذا القطاع موضع تركيز أكثر من أي وقت مضى لاسيما بعد جائحة الكورونا وارتفاع معدلات انفاق الحكومات على مكافحتها، إذ تشكل الحاجة المستمرة لتلقي خدمات الرعاية الصحية مصدرًا لزيادة الطلب على مزوّديها، فبحسب تقرير لمجموعة (deVere) المتخصصة في تقديم الحلول المالية العالمية فإن ثمة إمكانات قوية للأرباح في هذا القطاع خلال فترات التضخم بسبب شيخوخة السكان والتغيرات الديموغرافية، وانخراط القطاع في اعتماده على التكنولوجيا بشكل متزايد، وبالتالي فتح الآفاق لفرص استثمارية عدة، ووفقًا لتحركات الأسهم الأوروبية نحو الارتفاع خلال يناير 2023م لوحظ أن هذا الارتفاع كان مصحوبًا بدعم من مكاسب قطاع الرعاية الصحية التي ساعدت المؤشر الرئيسي على مواصلة مكاسبه الكبيرة، إذ ارتفع مؤشر ستوكس 600 الأوروبي بنسبة %0.1 مدعومًا بصعود أسهم قطاع الرعاية الصحية %0.8، حيث صعدت أسهم شركات أدوية مثل: كونينكليكي فيليبس ونوفو نورديسك أكثر من %2 لكل منهما؛ ولنا مثال آخر هنا في الإطار المحلي، فقد تراوحت مكرّرات الربحية أواخر العام الماضي في ذروة ارتفاع معدلات التضخم لأسهم قطاع الرعاية الصحية المتداولة في سوق الأسهم السعودي ما بين (20 و45 مرة)، بمتوسط يبلغ 31 مرة، متجاوزًا متوسط المكرّرات لأسهم القطاعات الأخرى.
قطاع قليل الصدمات
فيما يمثل القطاع الزراعي نوعًا آخر من القطاعات التي تندرج تحت قطاعات الضرورة، حيث أن السكان في العالم وبخاصة في الأسواق الناشئة في احتياج للمزيد من الحبوب، وأن ثمة مساعي من مختلف الحكومات حول العالم لإعادة النظر في استراتيجية التنمية الزراعية محليًا، وتطوير السياسات التي تسهم في دعم الإنتاج والعمليات الزراعية والاهتمام بالأبحاث المتعلقة بنقل التقنيات التنافسية وتطويرها لخدمات التنمية الزراعية المستدامة.
ويتصف هذا القطاع المرتبط بالأمن الغذائي بأنه من فئات الأصول قليلة الصدمات، وأن عوائده أكبر مقارنة بالمخاطر التي تكاد تكون قليلة للغاية، فهو القطاع الذي يتأثر إيجابًا بالتضخم بارتفاع أسعار المنتجات الغذائية، ويذكر أنه وفي وقت كان يئنُّ الاقتصاد العالمي جرّاء جائحة كورونا كانت دولة مثل تركيا تصدّر منتجات غذائية لنحو 205 دول حول العالم خلال عام 2020م حيث صدّرت أكثر من 980 منتجًا زراعيا، بقيمة عائدات بلغت 20.7 مليار دولار أمريكي، وأمام توجه الحكومات ـ في ظل أزمات سلاسل الإمداد وإحلال المدخلات الأكثر كفاءة واستدامة والتي يأتي على رأسها القطاع الزراعي ـ يبيت هذا القطاع موطنًا للأموال من قبل المستثمرين.