رأي

الموجة العالية

لا حديث أكثر جدلاً اليوم من أحاديث الذكاء الاصطناعي والبرامج الجديدة، والبرامج التنبوئية، أحاديث الحماس والخوف، الحماس لآلة جديدة، فهذه البرامج في النهاية تصدر عن الآلات، والخوف منها بنفس القدر.

على مر التاريخ كان كل تطور في الأدوات التي تساعد الإنسان على الإنتاج يُقسم الناس إلى نفس الفئتين، المتحمسون والذي يرون الفرص من خلاله، والخائفون الذين يتوخون الحذر من الآلة، أو من تأثيراتها على حياتهم، والمعضلة اليوم هي: هل نحن نتحدث عن أداة جديدة؟ شخصيًا أعتقد أنها في ذاتها ليست أداة كالمحرك البخاري أو السيارة والطائرة وخط الإنتاج الجماعي، لكن القلق ممن يريد أن يجعلها أداة في يده.

هذه المرة الأمر يتجاوز الحديث عن الأدوات، فنحن إزاء حديث عن بديل للعقل إلى حد ما، أي للعنصر الذي طالما جعل الإنسان سيِّد الأرض، فكل ما يبتكره عقله وتتفتق عنه حيلته هو دائمًا أما لزيادة الإنتاج، أو زيادة الحماية، وفي حالة الأشرار الفاسدين لزيادة الطغيان عن طريق السيطرة والمراقبة في الأرض.

هذه المرة الأمر يأخذ بعدًا فلسفيًا عميقًا، وهو لدى بعض المراقبين والمعلقين مرحلة صراع قد ينتج عنها تغييرات جذرية وعميقة في علاقات البشر، وأعمالهم، ولا يعرف أحد تحديدًا كيف ستكون النهاية.

البعض ممن تحمس في البداية، بدأت المخاوف تنتابه من أن هذا القادم الجديد من رحم عمالقة التقنية يدخل عالمه ليس مساعدًا فقط، بل أنه يحاول – أو يحاول من برمجه – أن يجعله يحل مكانه تدريجيًا، بدأ هذا ينطبق على كثير من الأعمال الإبداعية ككتاب السيناريو، والموسيقيين، وأهل السرد بأنواعه، والرسم، وغيرها كثير، وأصبح من يعتقدون أن الصناعات أو المجالات الإبداعية ستكون آخر من يتأثر يرونها اليوم أول أو من أوائل من تأثر.

الفضول عامل آخر مهم في جعل الاهتمام يتزايد، ومحاولات الاستخدام أو “التسخير” للذكاء الاصطناعي المعتاد أو “التوليدي” أو “التنبّوئي” أو غيرها مما لا أعرف حتى الآن تتم بالتدريج، وهو فضول “قد يقتل القطة” وقد يفتح لها آفاقًا ومصادر جديدة.

يسيل لعاب عمالقة التقنية للفرص الاستثمارية التي يعتقدون بها، ويسيل لعاب بعض أصحاب الأعمال في بعض مناطق العالم للقدر الذي يوعدون به من تقليص التكاليف، خاصة فيما يتعلق بالمورد البشري، حيث يمكنهم إحلال هذا الذكاء وبرمجياته تدريجيًا مكان البشر.

هناك أيضًا إشكالية بدأ الحديث عنها بجدية لمن بدأوا استخدام هذه البرمجيات، هي إشكالية دقة وصحة المعلومات التي تقدمها، فمن يضمن عدم ميل هذه البرمجيات أو من يقف وراءها إلى الكذب والتدليس؟ في الحقيقة لا يوجد ضمانات كافية إلى الآن.

المؤكد هو أن أدوات الذكاء الصناعي ستغير الطريقة التي يعمل بها البشر، وإذا تغيرت الطريقة التي يعمل بها البشر يبدأ – من دون وعيهم أحيانًا- التغير في طريقة تفكيرهم، رأينا ذلك مع وسائل التواصل الاجتماعي التي غيرت أُسس التواصل والاتصال والإعلام، وتغير مع كل ذلك النظر أو طريقة التفكير إلى وفي بعض الأمور.

البعض يلجأ لمواكبة ما يحدث أو يستخدم هذه الأدوات خشية من البقاء خارج هذه الموجة الجديدة، وهم محقون إلى حد كبير، ولكن المشكلة أن البعض سيستخدمه حتى ولو كان هذا الاستخدام لا يغير كثيرًا في منتجاته أو مستوى خدماته.

إنها مرحلة نعيشها، وسنرى كيف سنستفيد منها، وماذا سندفع مقابل هذه الاستفادة، فنحن جميعًا متفقون أن لكل شيء ثمنًا، يستحقه أحيانًا، وفي بعض الأحيان يكون الثمن أغلى كثيرًا مما دفع فيه.

إنها أمواج تتلاحم، وهذه الموجة بالذات عالية، فيجب ركوبها بحذر واحتراف، أو تعلم الانسياب أو “التزلج” بهدوء من تحتها.