منظمة التعاون الاقتصادي: %14 من الوظائف في بلدان المنظمة معرضة لخطر كبير، و%32 معرضة لخطرٍ أقل
يرى المفكر والعالم الأمريكي في عالم المستقبليات، ألفين توفلير، في كتابه صدمات المستقبل، أن الأميين في القرن الجاري لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، ولكن أولئك الذين لا يستطيعون التعلم، أو لا يستطيعون التخلي عما تعلموه، أو لا يستطيعون إعادة أو ضبط بوصلة تعلمهم، بخاصة وأن العالم اليوم بصدد ثورة تكنولوجية يختفى على أثرها وظائف وتظهر أُخرى وتتغير الطريقة التي يعيش ويعمل بها البشر، وتزيد من ارتباطهم بالشبكة الإلكترونية، وتصبح التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ ليس فقط من حياتهم ولكن حتى من أبدانهم، وهو ما عبر عنه المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي، كلاوس شواب، بقوله: إن (حجم التحوُّل ونطاقه وتعقيداته، سيكون مختلفًا عما شهدته البشرية من قبل).
الأبعاد ومسارات التحوُّل
وقبل التطرق لتأثير الثورة التكنولوجية أو ما يطلق عليه الثورة الصناعية الرابعة على سوق العمل، من المهم أولاً إدراك أبعاد هذه الثورة ومسارات التحوُّل، التي ستحدثها وركائزها وتأثيراتها، فمن المتوقع أن تؤثر هذه الثورة الجديدة ــ والتي تقوم على دمج التقنيات، وطمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية ــ على جميع القطاعات الاقتصادية؛ إذ ستزيد تلك الثورة الصناعية من فوائد الاقتصاد المحلي المستند إلى الاقتصاد الرقمي من ناحية، كما ستسهم في التنمية الاقتصادية للدولة وتقليل التكلفة وتحسين الإنتاجية وجودة العمل وزيادة الضرائب والأرباح والإيرادات، كما أن استخدام التكنولوجيا سيؤدي إلى جذب الاستثمارات وتحقيق تنافسية الاستثمار بين الدول المحيطة، وتوسعة الشراكات بين الشركات العالمية.
ومن المخاوف المشروعة لتأثيرات هذه الثورة مخاطر الأمن السيبراني واحتمالات زيادة البطالة وعدم المساواة بسبب اختفاء بعض المهن وفرص العمل والاعتماد على المنصات الرقمية، واحتمالية الانقسام الحاد في سوق العمل بين: تخصص منخفض المهارة (منخفض الأجر) وتخصص عالي المهارة (مرتفع الأجر)، وهو ما قد يسبب اضطرابات اجتماعية.
إعادة صقل مهاراتهم
ومن أهم تأثيرات الثورة الصناعية الرابعة أنها ستقلل من حاجة الموظفين للعمل في المهام المتكررة، باستخدام تقنيات الأتمتة (والتي يُقصد بها تطبيق الآلات للمهام أو التشغيل الآلي أو الذاتي بدون تدخل بشري)، كما تُحول نسبة كبيرة من الوظائف إلى نظام العمل عن بعد، وهو ما قد ينعكس إيجابًا على تعزيز التفكير الإبداعي وتحسين إنتاجية الموظفين واستقرارهم النفسي والمادي، لابتعادهم عن ضغوط بيئة العمل، ومن جهة أخرى، فإن تأثير هذه الثورة سيؤثر على طبيعة العمل نفسه، وليس على خيارات الوظائف فقط، فمثلاً من المتوقع أن تنخفض عدد ساعات العمل.
في الوقت ذاته، فإن هناك قلقًا من اختفاء الوظائف لصالح الروبوتات والذكاء الاصطناعي؛ حيث ذكرت دراسة أُجريت في جامعة أكسفورد عام 2013م، وشملـت أكثر من 700 وظيفة مختلفة في أمريكا، أن الآلات ستستطيع القيام بنحو %47 منها في العقد أو العقدين المقبلين، وفي دراسة أُخرى أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي في عام 2015م، وشملت 34 دولة معظمها من الدول الغنية، فإن هناك %14 من الوظائف في بلدان المنظمة معرضة لخطر كبير، و%32 معرضة لخطرٍ أقل، كما كشف تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي، تم نشره عام 2019م أن التأثير المزدوج للأتمتة، وجائحة كورونا سيؤدي إلى اختفاء 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025م، كما أن %50 من الوظائف التي ستبقى تحتاج من العاملين إعادة صقل مهاراتهم.
وظائف تتقلص
وبناءً على الكثير من الدراسات، فإن نصف الوظائف ستختفي خلال الـ 20 أو 30 سنة القادمة، بل وبعضها لم يكن من المتصور الاستغناء عنها، فوظائف قيادة سيارات الأجرة أو الشاحنات سوف تبدأ بالتقلص مع صعود السيارات ذاتية القيادة وشوارع المدن المتطورة، والعاملين في مجال النظافة ومخازن البضائع، وستكون هناك روبوتات قادرة على أداء هذه الوظائف، وحتى الوظائف ذات المهارات العلمية العالية، مثل تحليل البيانات المالية والاستشارات القانونية والترجمة اللغوية ستتقلص مع تطور البرامج والتطبيقات الذكية.
ومن المهم أن نذكر هنا، أن نسبة الوظائف التي اختفت من الصناعة والزراعة، خلال الثورة الصناعية الثالثة، استوعبها قطاع الخدمات، وهو ما يعني أن ظهور قطاعات جديدة تستوعب اختفاء بعض الوظائف من سوق العمل مستقبلاً هو أمر وارد، ومن المتوقع على سبيل المثال أن يؤدي نشر التقنيات الرقمية والروبوتات إلى اختفاء بعض الوظائف لكنه سيؤدي إلى خلق وظائف جديدة في نفس الوقت.
ويأتي ذلك متوافقًا مع تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي الذي رغم تحذيره من أن هناك وظائف ستختفي فإنه أكد أن 133 مليون وظيفة جديدة ستُطرح، وأن ملايين الفرص الوظيفية ستوفرها المهن الناشئة على مستوى العالم مستقبلاً، إلا أن رفائيل رايف رئيس جامعة إم أي تي الأمريكية، رغم تأكيده أن كل موجة تكنولوجية سابقة أنتجت وظائف أكثر مما دمرت، وحققت مكاسب مهمة على صعيد المعيشة ومتوسط العمر المتوقع، وإنتاجية عالية ونموًا اقتصاديًا كبيرًا، إلا أنه أبدى قلقه بشأن الوظائف مستقبلاً.
مواكبة موجة الثورة
وفي استطلاع أجرته مؤسسة ديلويت، شمل 1600 مدير تنفيذي من 19 بلدًا حول استعدادهم للتعامل مع الثورة الحادثة، قال %25 فقط أن لديهم القوى العاملة والمهارات المطلوبة، على الرغم من أن معظمهم يقولون إنهم يبذلون قصارى جهدهم لتدريب قوى عاملة مناسبة.
وكشفت دراسة استقصائية عالمية أجرتها شركة Qlik أن %21 فقط من الشباب (الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا) يعرفون البيانات، وهو ما يعني أن التعليم الذي تلقوه لا يؤهلهم لتلك الوظائف التي تعتمد على البيانات.
ولا شك أن مواكبة موجة الثورة الصناعية الرابعة تتطلب امتلاك مهارات أساسية مختلفة، منها، المهارات الشخصية، وعلى رأسها القدرة على التفاعل والتواصل مع زملاء العمل والعملاء، وامتلاك مهارات القيادة وإدارة الأفراد والإبداع، وحل المشكلات المعقدة، والتفكير النقدي، والذكاء العاطفي والاجتماعي، وكلها مهارات لا يمكن للروبوتات أن تتفوق فيها على الإنسان، على الأقل في المستقبل القريب.
وبمعنى آخر، فإن وظائف المستقبل ستكون تلك التي لا تستطيع الآلة القيام بها، ولذلك يمكن الإشارة إلى عدة مجالات رئيسية، يمكن من خلالها أتمتة العمل وأنسنة الوظائف، مثل مجالات العمل الخلاقة المرتبطة بالابتكار، كالاكتشافات العلمية والكتابة الإبداعية وريادة الأعمال، وكذلك مجال العلاقات الاجتماعية التفاعلية، والتي تتطلب ذكاءً عاطفيًا واجتماعيًا لا يمكن للآلة امتلاكه.
وظائف المستقبل
أما فيما يتعلق بأهم الوظائف والتخصصات، التي من المتوقع أن تزدهر في المستقبل القريب، فأبرزها، خبراء علوم البيانات وتحليل البيانات، ومتخصصو الأمن السيبراني وإنترنت الأشياء (IOT) وعلم الذكاء الاصطناعي، وعلم البيئة السحابية، وبرمجة الكمبيوتر، والترميز، والتكنولوجيا المالية، والإدارة المالية، والتجارة الإلكترونية، والتسويق الرقمي والإلكتروني، وإدارة المشروعات، والإعلام الرقمي والمهام العلمية، والمهارات القائمة على التكنولوجيا، والرعاية الصحية، وهندسة الطاقة المتجددة والخدمات المصرفية وريادة الأعمال، وكلها تخصصات كشفت جائحة كورونا عن الحاجة الكبيرة لها.
وبشكل عام، يمكن الانتباه إلى عدد من التوصيات، المتعلقة بسوق العمل والوظائف خلال المستقبل القريب:
- التوازن في تطبيق التكنولوجيا لتفادي حدوث اضطرابات اجتماعية من خلال دمج التكنولوجيا بقطاع العمل عبر تصميم استراتيجيات توازِن بين البشر والتكنولوجيا.
- زيادة سياسات الحماية الاجتماعية للعــمــالـــــــة المتـضــــــررة من التـــطــــــور التكنولوجي.
- تطوير التعليم والتدريب والاستثمار في رأس المال البشري، باعتباره أحد سبل تعزيز إنتاجية العمل والكفاءة، والتعاون بين القطاع العام والخاص لمساعدة العمال والموظفين على تطوير مهاراتهم.
- تشجيع الجامعات والمدارس الفنية على إطلاق برامج وتخصصات تناسب سوق العمل مستقبلاً.
- إعادة التدريب وتطوير المهارات، في ظل تحولات سوق العمل نحو الوظائف المختلطة التي تجمع بين العديد من المهارات مثل التسويق وتحليل البيانات، أو التصميم والبرمجة.
- نشر الثقافة الرقمية من خلال المناهج التعليمية، واستيعاب الخدمات الالكترونية وتقبل استخدامها.
وأخيرًا، فإن مجتمع الموظفين أو الباحثين عن عمل، يحتاجون إلى صقل مهاراتهم باستمرار والتعلم والتدريب المستمر، والوعي بأن التغيرات الكبيرة في سوق العمل، ستؤدي إلى اختفاء وظائف وظهور أخرى، الأمر الذي يتطلب مواكبة ذلك بالتسلح بكافة الأدوات والمهارات والتأقلم على سوق عمل جديد تتزاحم فيه الآلة مع البشر في كثير من التخصصات.