“رأسمالية البيانات” ستحل محل “الرأسمالية المالية” كمبدأ حاكم للاقتصاد العالمي
القرصنة والهجمات الالكترونية تعكس الأهمية المتزايدة للبيانات والدول تلجأ لـ “توطين البيانات“
يزداد حجم البيانات في العالم زيادة مطردة، ففي عام 2020م تم إنشاء 64.2 زيتابايت من البيانات، أي بزيادة قدرها 314% عن عام 2015م، والزيتابايت هو مقياس لسعة التخزين الرقمية والذي غالبًا ما يرمز له بالرمز ZB وهو ما يعادل 1000 اكسابايت.
وقد ساهمت زيادة الطلب على المعلومات جراء أزمة كورونا وما بعدها في نمو أعلى من المتوقع، وبدأ العالم الدخول في نوع جديد من الصراعات تُغذيها ثورة رقمية تجتاح الجميع، وذكاء اصطناعي في تصاعد مستمر، وهو صراع البيانات، الذي يطلق عليها “النفط الرقمي”، وأخذ يطفو على السطح بين الدول مجددًا، كونه المورد الجيوسياسي الأكثر أهمية حاليًا، لاسيما مع قدرتها على التأثير في مختلف القرارات وتشكيل العلاقات الدولية بشكل كبير.
رأسمالية البيانات
ونبهت دراسات عديدة إلى تزايد أهمية المعلومات، بفضل التطورات الأخيرة في التقنيات المعتمدة على البيانات، وأبرزها الذكاء الاصطناعي، حيث حلت محل النفط باعتبارها المورد الأكثر قيمة في العالم، تساعد الدول على خلق القوة والازدهار، بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، واعتبروا أن “رأسمالية البيانات” ستحل محل “الرأسمالية المالية” كمبدأ حاكم للاقتصاد العالمي، وأن الصراع الدائر بين دول العالم في الوقت الراهن، لا تتجلى صوره في الحصول على البيانات والمعلومات فحسب، بل أيضًا تقويض قدرة الدول الأُخرى على الوصول إليها، ومن ثم نجد العديد من الدول تسن قوانين للحفاظ على أمنها السيبراني والمعلومات التجارية والاقتصادية للشركات والأفراد فيها، ما يؤشر بأن تكون البيانات هي المحرّك الأكثر أهمية للنمو الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين.
وثمة ثلاثة أنواع من البيانات وهي: البيانات الخاصة، ويطلق عليها أحيانًا المعلومات الحرّة التي يتخلى عنها الأفراد طوعًا عبر التفاعلات على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، والبيانات التجارية، المرتبطة بعالم المال والأعمال، والبيانات الاستراتيجية المرتبطة بالدول والأنظمة السياسية، وهي التي تتحكم في الصراع بين الدول وتحركه في الوقت الحالي.
ويُمكِّن السيطرة على البيانات الدول من زيادة التأثير والقوة العابرة للحدود، فمثلاً التقدم المتزايد للصين في مجالات الذكاء الاصطناعي، لن يضمن فقط أن “يميل ميزان القوى الاقتصادي لصالحها، بل سيمتد إلى نفوذها السياسي وقوتها الناعمة في العالم، ومن الأمثلة الأبرز على ذلك أيضًا، ما يتردد من تدخل روسيا في السياسية الأمريكية عبر الشبكات الرقمية، وهو ما يتسق مع ما أعلنه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين عام 2017م، حيث قال “كل من سيصبح رائدًا في تكنولوجيا المعلومات، سيصبح حاكمًا للعالم”.
الحروب الإلكترونية
وقد أصبحت الصراعات الإلكترونية من أبرز مظاهر التنافس بين الدول حول البيانات والمعلومات، وثمة الآلاف من وراء الشاشات مهمتهم اختراق المنصات الإلكترونية أو الترويج لمعلومات مُضللة، وما قد ينتج عن ذلك من خسائر اقتصادية فادحة، فخلال العام الماضي، على سبيل المثال، بلغت التكلفة الإجمالية للهجمات الإلكترونية نحو 8.4 تريليون دولار، مقارنةً مع حوالي 6 تريليونات دولار في 2021م، بمعدل نمو بلغ 40%، وسط توقعات بأن تصل كلفتها إلى 11.5 تريليون دولار في 2023م، وهو ما يدفع الدول إلى إنفاق ميزانيات ضخمة على أمنها السيبراني.
وثمة تقديرات تشير إلى أن العام 2023م من المتوقع أن يشهد سرقة أكثر من 33 مليار سجل حول العالم، وذلك على الرغم من أن حجم الانفاق العالمي على الأمن السيبراني، من المقدر له أن يصل إلى 162 مليار دولار، وذلك لحماية المؤسسات والشركات التجارية من الهجمات السيبرانية.
وفي كثيرٍ من الأحيان، تلجأ الدول إلى شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة لاستغلال الكم الهائل من البيانات لديها، وسط صراع محتدم بين هذه الشركات في الحصول على المعلومات، والتي تلعب دورًا رئيسيًا في تطوير نماذج آلية قادرة على التنبؤ ودعم عملية صنع القرار، بما يعزّز نمو هذه الشركات وتطوّرها، وغالبًا ما تكافح لمعالجة كميات هائلة من البيانات الأولية غير المنظمة، بينما تسعى جاهدةً للاستفادة من قدرات الأتمتة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، لكن لكي يتمكن الذكاء الاصطناعي من إجراء تنبؤات دقيقة، لابد أن يتم إعداد وتحليل البيانات بشكل جيّد، حيث تمتلك الشركات العديد من الموظفين الذين يقومون بهذه المهمة، لتسهيل تدريب الخوارزميات وتحسينها، وفي هذا السياق، تشير تقديرات إلى وصول حجم سوق جمع وتحليل البيانات إلى 3.6 مليار دولار بحلول عام 2027م، بمعدل نمو سنوي مركب في حدود 33%، حيث بلغت قيمته 0.8 مليار دولار في عام 2022م.
صراع حول البيانات
ويمكن القول بأن التنافس التجاري الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين منذ سنوات، هو صراع على البيانات حيث تضع واشنطن قيودًا على أنشطة الشركات الناشئة الصينية في السوق الأمريكي، وفي المقابل تضع الصين ضوابط صارمة على شركاتها التكنولوجية المدرجة في الخارج، وخاصة فيما يتعلق بطبيعة ونوع البيانات والمعلومات التي تتداولها وتنقلها عبر الحدود.
ويؤكد أستاذ القانون في جامعة فيرجينيا، بول ستيفان، أن واشنطن وبكين من أكثر الدول في العالم استغلالاً للبيانات الضخمة لتحقيق مصالحهما التجارية، مشيرًا إلى أن قطاعات التمويل والنقل والسلامة العامة، تعتمد بشكل كبير على تحليل البيانات الضخمة عن اتجاهات السوق والمستهلكين، وساهمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحصول على تنبؤات دقيقة وفي أسرع وقت، فالاقتصاد القائم على البيانات يثير تحديات في النظام العالمي الحالي، حيث أن الصراعات التجارية والاقتصادية التي يشهدها العالم، يتفوق فيها من يمتلك رصيد أكبر من البيانات والمعلومات، ولم تحظى البيانات التجارية بقيمة كبيرة في الماضي مثل ما تحظى به الآن، خاصة أن القيمة الاقتصادية للبيانات حاليًا تعادل القيمة الاقتصادية للنفط، حيث أنها تعكس بشكل دقيق طبيعة المجتمعات في شتى المجالات وأنماط ممارسة الأعمال وتوجهات المواطنين، فإذا تم تحليلها بشكل جيد، تساعد الدول والشركات العابرة للحدود في صناعة قرارات فعالة.
توطين البيانات
وتعكس عمليات القرصنة والاختراق الإلكتروني وتسريب البيانات والمعلومات الشخصية للحسابات سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو مواقع الخدمات الحكومية وسلاسل الإمداد وكبرى شركات التكنولوجيا، الأهمية المتزايدة للبيانات، التي أضحت عصب الاقتصاد العالمي، فخلال عام 2022م، تم تسريب بيانات أكثر من ملياري شخص في أشهر عمليات اختراق تم الإعلان عنها، أبرزها تسريب بيانات مليار مواطن صيني وعرضها للبيع على أحد مواقع القرصنة، وكذا عرض بيانات 5.4 مليون حساب على “تويتر” للبيع مقابل 30 ألف دولار، وتسريب بيانات حساسة لعملاء شركة رعاية صحية كبرى في أستراليا، فضلاً عن تسريب أرقام هواتف حوالي 500 مليون مستخدم لتطبيق “واتساب” من 84 دولة.
وكان للمؤسسات الحكومية نصيب من الهجمات السيبرانية أيضًا، حيث تم اختراق قاعدة بيانات وزارة التعليم العالي المغربية، وتسريب بيانات عشرات الآلاف من الطلاب، كما تعرضت هيئة السكك الحديدية في الهند لهجوم سيبراني استهدف بيانات حوالي 30 مليون عميل، بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني وأرقام هواتف المتعاملين معها.
فإن الأهمية المتزايدة للبيانات، جعلت الدول تتبنى حزمًا من الإجراءات والتدابير لحماية سيادتها الوطنية، وتنظيم عملية انتقال البيانات عبر الحدود ومعالجتها في الخارج، وذلك بانتهاج سياسات يطلق عليها “توطين البيانات”، وبناء شبكات معلومات مستقلة داخلية يمكن فصلها عن الشبكة العنكبوتية.
وبعيدًا عن الجرائم الإلكترونية والهجمات السيبرانية، يمكن القول بأن البيانات، إذا تم تحليلها وتنقيتها واستغلالها بشكل أمثل، بمثابة فرصة ذهبية للشركات المحلية، وخاصة الناشئة ورواد الأعمال، للوصول إلى أسواق وعملاء جدد، وتتبع سلوكيات العملاء وتفضيلاتهم، وتقديم خدمات ومنتجات أفضل.