الحوكمة ثروات

حوكمة الثروات!

التحــوُّل من الغنى إلى الثروة والحفاظ على هذه الثروة وتنميتها يتطلب امتلاك أدوات عدة واتباع عادات استراتيجية طويلة المدى تعتمد منهج الحوكمة

إدارة الثروة بشكل أُحادي أو عشوائي ليس وسيلة ناجعة للحفاظ عليها وتنميتها بخاصة في الأسواق الحالية بما تتسم به تقلبات متكررة

 

يتفق الجميع سواء مؤسسات أو أفراد من المتخصصين في الاستشارات المالية، بأن الوصول إلى الثروة ليس بالأمر الصعب؛ إذ ببعض الإرشادات والقواعد المتبعة والقليل من الصبر والالتزام تتكون الثروات، إلا أن الأصعب حقًا هو كيفية المحافظة على الثروة وتنميتها، نظرًا لما تتطلبه هذه المحافظة من مسارات منهجية تقرأ المستقبل وتغيراته، وتضع الخطط والحلول، وتدرك المخاطر وتعالجها، وهو ما يعبر عن المعنى الحقيقي للثروة، في حين تكوين الثروة أقرب ما يكون إلى “الغنى”.

وثمة خلط شائع بين مفهومي “الغنى” و”الثروة”؛ إذ يعتقد الكثيرون أن معناهما واحد أو يؤديان إلى نفس المضمون، في حين الفرق كبير بينهما؛ فالأول مصطلح سلوكي يعبر عن المسار السلوكي الذي يتبعه الأفراد لأجل تحسين جودة حياتهم أو بمعنى آخر أكثر دقة، فإنه يشير إلى المساعي اليومية للحفاظ على جودة الحياة دون الالتفات إلى حجم ما يمتلكونه من أموال، أما الثروة فتشكل القيمة النقدية المتراكمة من الأموال، والتي يتم تحقيقها من موارد ملموسة مثل: الأراضي والمنشآت أو موارد غير ملموسة مثل: العلامات التجارية وحقوق الملكية، فإنها الوفرة الناتجة من الأموال وتشير إلى ما يمتلكه الأفراد من أصول على أنواعها، وكذلك أموال في حساباتهم البنكية، فضلاً عن متطلبات وآليات بنائها التي تحتاج إلى اتباع العديد من الإجراءات.

رؤية لسياسات واضحة

ويقول تقرير كان قد نَشره موقع العربية يعود إلى شبكة “CNBC” الأمريكية، أن ثمة العديد من الطرق التي يمكن للأفراد من خلالها بناء الثروة، ابتداءً من تأسيس شركة ناجحة وحتى الحصول على ميراث ضخم أو الادخار أو غيرها من الطرق المشروعة في بناء الثروات، ولكن التحوُّل من الغنى إلى الثروة والحفاظ على هذه الثروة وتنميتها يتطلب امتلاك أدوات عدة واتباع إجراءات منهجية أو بالأحرى عادة استراتيجية طويلة المدى، تعتمد على منهج الحوكمة الذي أصبح ضرورة من أجل تنمية الثروة وتجنب فقدان قيمتها، فحوكمة الثروات هي مراجعة واتخاذ للقرارات بشأن الثروة حتى تحقيق الأهداف المالية المستدامة.

فقد ثبت أن إدارة الثروة بشكل أُحادي أو عشوائي ليس أنسب وسيلة للحفاظ عليها وتنميتها بخاصة في الأسواق الحالية بما تتسم به من تقلبات متكررة تعود إلى عدم اليقين في ظل متغيرات الأسواق الكثيرة، فضلاً عن التغيرات المتلاحقة في كثير من الصناعات والقطاعات التي كانت بمثابة الخيارات الآمنة في السابق، فأصبح قطاع التجزئة بشكله التقليدي – على سبيل المثال – لا يستطيع النمو في ظل تطبيقات التجارة الإلكترونية، وكذلك القطاع البنكي في ظل ظهور التكنولوجيا المالية، ومن هنا يأتي دور الحوكمة بما تتضمنه من تخطيط وتنظيم ورؤية لسياسات واضحة في الحفاظ على استدامة الثروة وتنميتها.

موكيش أمباني

نتيجة حتمية للانهيارات الاقتصادية

وللحوكمة جذورٍ محفورة في قيم وأخلاق الحضارات الإنسانية بإحقاق العدل وتعظيم حسن الأداء وتنظيم العمل وتحديد المهمات تحت ضوابط الرقابة والتدقيق، واتخاذ القرارات بناء على التشاركية وتبادل الآراء.

وتشير عدد من المصادر إلى أن أول استعمال للحوكمة بشكلها الحديث كان في عام 1960م وذلك للدلالة على هيكل وأداء نظام السياسات في المؤسسات العامة، إلا أن مفهوم (الحكومة في المؤسسات العامة) أقدم من هذا، فقد استُعمِل في كتب المالية بداية القرن العشرين.

ويبدو أن الحاجة للحوكمة كانت نتيجة حتمية لحالة الانهيارات الاقتصادية التي تعرضت لها بعض المؤسسات والشركات ما سبب اندثارًا وضياعًا لرؤوس الأموال؛ ففي عام 1997م وعقب الأزمة المالية الآسيوية وظهور أزمة الثقة في المؤسسات والتشريعات التي تنظم النشاط بين منشآت الأعمال والحكومات وخاصة تلاعب الموظفين الداخليين والأقرباء بأموال المستثمرين، وكذلك حصول الشركات على ديون قصيرة الأجل وإخفاء ذلك عن المساهمين، والإهمال في حماية مصالح الشركة وخاصة في مرحلة التفاوض للمحافظة على سرية المعلومات، وتلاعب الشركات في حركة نقل رؤوس الأموال التي تتم من خلال نظم المحاسبة قوائمها المالية بما أدى إلى ضياع ثروات الكثيرين وتكبد المساهمين بخاصة الصغار خسائر مالية فادحة نتيجة سوء الإدارة والفجوة الكبيرة بين مرتبات ومكافآت المديرين التنفيذين في الشركات وبين أداء تلك الشركات، كل هذا أدى إلى ضرورة وجود قوانين فعالة تقوم على الإفصاح والشفافية، فكانت الحوكمة بمعاييرها وضوابطها الحاكمة للثروة واستدامتها.

برنار أرنو

تحفظ الثروات في الأزمات

ولعبت الحوكمة بالفعل لاسيما في الآونة الأخيرة وما يشهده العالم من تقلبات وأزمات عدة، وبما تحمله من جملة إيجابيات تنطوي عليها، دورًا مهمًا في الحفاظ على الثروات، بل وتنميتها بتحويل هذه الأزمات إلى فرص وفقًا للقاعدة الاقتصادية التي تقول إنه في كثير من الأحيان تتيح الأزمات أفضل الفرص لصنع الثروات؛ فقد استطاع أصحاب الثروات ممن يمتلكون بنية حوكمة متكاملة بحماية ثرواتهم من هذه الأزمات وتبعاتها؛ إذ تقتضي الحوكمة بناء سجل واضح للمخاطر المتوقعة، وبناء إجراءات معتمدة لمواجهتها، فإذا جاء وقت الأزمة، تصبح متوقعة وهناك قرارات ونماذج للقرار جاهزة للعمل لحماية الأصول والحد من القرارات المتهورة، وعلى سبيل المثال، حافظ برنار أرنو، على المرتبة الثالثة من بين الأعلى ثروة في العالم، وضاعف ثروة مجموعته التي تمتلك علامات تجارية هامة في الأزياء لتصبح 150 مليار دولار، وكذلك عائلة أمباني الهندية التي تقدر ثروتها بـ81 مليار دولار ويقودها موكيش أمباني وقد أسس الشركة العائلية والده وذلك عام 1957م، وغيرهم ممن جاء تصنيفهم ضمن الأكبر ثروة عالميًا.

فهم شامل للأوضاع المالية

فإن حوكمة الثروات ليس مجرّد مصطلحًا يُنصح به، بل يتخطى المفهوم إلى أسلوب شامل، يتضمن وضع استراتيجيّات تراعي كافة العوامل والمتغيرات الداخلية والخارجية، والتي تبدأ بالفهم الشامل للوضع المالي لصاحب الثروة ومبتغاه منها هل هو العيش “غنيًا” بما يتضمنه من مخاطر مستقبلية جمة أم الحفاظ على أمواله وتنميتها، وباختلاف الأهداف والاحتياجات من فرد إلى آخر، تأتي الحوكمة التي تأخذ في الاعتبار كل عوامل الداعمة لاستدامة الثروات.

فالوصول إلى استدامة الثروات يكمن في تجاوز التقليدية في إدارتها، لتتسنى لها مناقشة مجمل الأسئلة المتعلقة بتطبيقات الحوكمة، إذ تساعد الحوكمة بتضمين معاييرها مثل: (الإفصاح والشفافية والمساءلة) وكذلك والضوابط المطلوبة لتنفيذ هذه المعايير والالتزام بها وآلية تنفيذها وفقًا لصياغة واضحة في لائحة عامة، وهذه اللائحة، تعد بمثابة الوثيقة القانونية الأساسية المنظمة لمبادئ الحوكمة في الشركة المعنية، في استباق الأحداث ومراجعة المخاطر وعوائد الاستثمار وتحديد الحاجة لأي إجراءات لمواجهة المخاطر الناشئة، وبالتالي الحفاظ على الثروة وتنميتها وتراجع معدلات تأكلها وهو الأمر الأكثر تهديدًا مع تعاقب الأجيال على امتلاكها، حيث العديد ممن تأكلت ثرواتهم وأضاعوها بسبب إدارتهم الأُحادية والارتجالية وعدم التفكير في المستقبل .

وأخيرًا فإن الحل الأمثل لاستدامة الثروات وتنميتها يكّمن في الأخذ بإجراءات الحوكمة، التي تُحقق التوازن بين إدارة الشركات والتغيرات الحاصلة داخليًا كانت أو خارجية، وتأخذ الشركات ــ مهما بلغ حجمها ــ إلى استدامة النمو والتقدم والنجاح، فهي تؤسس هيكلية تهدف إلى تنمية الثروة على مدى عقود عدة، ويتم ذلك من خلال تحديد المخاطر والعائدات المستهدفة على المدى الطويل، مع أنها تأخذ في الحسبان كافة العوامل المختلفة، مثل الأهداف الفردية والمهنية، وعدم الركون إلى أفكار إدارة الاستثمارات بالأساليب الفردية.