أسواق الأسهم بدأت دورة اقتصادية جديدة قد تستمر 10 سنوات بفضل نمو الإنتاجية ودعم الذكاء الاصطناعي.
انخفاض أسعار الفائدة واستمرار مرونة الاقتصاد والتطورات التكنولوجية المتصاعدة، كلها عوامل تعزز نمو الأسهم في 2024م.
بلومبيرج: منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط أصبحت نقطة محورية لنشاط الاكتتابات العامة الأولية.
برغم ما شهده العالم من تحديات اقتصادية عام 2023م، التي أثرت على مختلف الاقتصادات، فإنه كان أفضل من العام الذي سبقه، إذ كان عام 2022م عامًا صعبًا، خاصةً بالنسبة لبورصات وأسواق المال العالمية، ويمكن القول إن عام 2023م كان أفضل عام للأسهم العالمية لما قبل الجائحة.
فقد أنهت معظم أسواق الأسهم العالمية تداولات العام الماضي بتسجيل مكاسب كبيرة، بعد أن تجاوز المستثمرون الصعوبات الناجمة عن ارتفاع معدلات التضخم، وتشديد السياسات النقدية للبنوك المركزية، وتقلبات أسواق النفط واحتمالية الركود.
انتعاش الأسواق
وقد انتعشت أسواق الأسهم خلال العام الماضي، وشهدت أسواق المال في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والهند، ارتفاعات قوية، بتسجيل مؤشر “مورجان ستانلي كابيتال إنترناشيونال” ارتفاعًا بلغ %21 على مدار السنة، بعد خسائر في حدود الـ %20 عام 2022م، وبشكلٍ عام ارتفعت المؤشرات الرئيسة الثلاثة في الولايات المتحدة إلى ذروة 2021م، وجاءت المؤشرات الأمريكية في مركز الصدارة، بتسجيلها أعلى مكاسب على مستوى الأسهم العالمية عام 2023م في ظل معنويات متفائلة تجاه قدرة الاقتصاد على تجاوز سياسات التشديد النقدي واحتمالات الركود، وفي ظل ارتفاع أسهم التكنولوجيا بدرجات متسارعة، وفي حين سجلت بورصات فرانكفورت وباريس ارتفاعًا، فإن بورصة ميلانو سجلت أعلى مستوياتها منذ 2008م وسجلت بورصة مدريد أعلى مستوياتها منذ 2018م، أما في آسيا، فقد وصلت طوكيو إلى أعلى مستوياتها منذ 30 عامًا.
وكان انخفاض التضخم هو أحد أسباب انتعاش الأسهم، وكذلك التوقعات الإيجابية بخفض البنوك المركزية على مستوى العالم لأسعار الفائدة قريبًا، فضلاً عن العوائد الكبيرة المتوقعة لإمكانية تحقيق الذكاء الاصطناعي عوائد كبيرة للشركات.
خسائر في الصين
وعلى خلاف العديد من الأسواق العالمية، التي حققت نتائج إيجابية عام 2023م فقد عانت أسواق الأسهم بالصين، واستمرت هجرة المستثمرين، وخسر مؤشر مورجان ستانلي للصين أكثر من %10 للسنة الثالثة على التوالي.
وعلى الرغم من أن الصين تخلت عن سياسة الإغلاق التي انتهجتها في إطار السعي لاحتواء تداعيات جائحة كورونا، إلا أن اقتصاد الصين لم يسجل الانتعاش المأمول من قبل المستثمرين، وأدى تباطؤ الطلب إلى كبح أسعار المستهلكين، وهو ما هدد الاقتصاد الصيني بالانكماش، وجعل الشركات الأجنبية أكثر حذرًا.
ويرجع ما أصاب أسواق الأسهم الصينية، إلى عديد من الأسباب، كهشاشة سوق العقارات، وعدم قيام الحكومة الصينية بالتدخل بخطة لإنعاش السوق، وضعف الإنفاق الاستهلاكي، إذ شهدت الصين أكبر أزمة كبيرة في القطاع العقاري، نتج عنها خسائر ضخمة في القيمة السوقية للشركات الكبرى بالقطاع، وعلى رأسها، كانتري جاردن وإيفرجراند، بعد أن تجاوز المعروض معدلات الطلب، وزادت الأمور صعوبة، مع تراجع قدرة المشترين على السداد، الأمر الذي أثار المخاوف من حدوث ركود اقتصادي واسع، ودخول قطاع العقارات الصيني في فقاعة عقارية على غرار ماحدث في اليابان في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وهي الأزمة، التي تلقي بتأثيراتها، ليس فقط على المجالات الاقتصادية، ولكن أيضًا على الاستقرار الاجتماعي بالبلاد.
بورصات الشرق الأوسط
وبرغم البيئة العالمية الصعبة للاكتتابات العامة الأولية في عام 2023م، فقد برزت منطقة الشرق الأوسط كمركز حيوي لإدراجات البورصات فيه، ففيما اتجه سوق الاكتتابات العامة العالمية نحو أسوأ أداء سنوي منذ 2009م؛ إذ ارتفعت الأسهم في الشرق الأوسط ارتفاعًا متوسطًا بنحو %40 بعد الاكتتابات العامة.
ففي عام 2023م، أدت الاكتتابات الناجحة إلى رفع مستوى السيولة في أسواق دول الخليج، وخاصةً أسواق الرياض وأبو ظبي ودبي، إذ جمعت عمليات الإدراج في أسواق المنطقة خلال العام نحو 10.5 مليار دولار، وعلى الرغم من أن ذلك كان أقل من نصف ما تحقق عام 2022م، فإن ما حققته المنطقة كانت ثالث أفضل أداء سنوي منذ عام 2007م، واستحوذت منطقة الخليج على مايقرب من %45 من إجمالي حجم الطروحات العامة الأولية في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا لعام 2023م مقارنة بـ %51 في 2022م.
وتحديدًا شهدت المملكة عديدًا من التطورات خلال 2023م على رأسها الطروحات الجديدة، بدخول 7 شركات للسوق الرئيسة، بقيمة بلغت حوالي 11 مليار ريال، كما قامت 27 شركة مدرجة وصناديق برفع رأس أموالهم بقيمة تجاوزت الـ 54 مليار ريال، علاوة على ذلك شهدت السوق مجموعة من الإجراءات التنظيمية الجديدة، وتوقعت “بلومبيرج” في تقرير لها أن يستمر هذا النشاط بمنطقة الشرق الأوسط العام الجاري، بعد أن أصبحت تلك المنطقة الغنية بالنفط نقطة محورية لنشاط الاكتتابات العامة الأولية.
وفي السياق نفسه، يقول المسؤول البارز ببنك أوف أمريكا والمتخصص في أسواق المال بالشرق الأوسط وأفريقيا، “كريستيان كابان”، إن ثمَّة توقعات قوية لأداء الاكتتابات العامة الأولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2024م، وأنها ستشهد دخول مزيد من الشركات الخاصة إلى الأسواق.
كما يتوقع عديد من المحللين أن يكون عام 2024م إيجابيًا لبورصات الخليج وللمنطقة، إذ من الملاحظ أن أحد أسباب هذا النشاط في منطقة الشرق الأوسط هو توجهات الحكومات إلى تنويع اقتصاداتها وعدم الاعتماد على النفط، وبيع حصصها في الشركات المملوكة للدولة، كما يرتبط ذلك ببعض الأحداث الجيوسياسية واستبعاد روسيا من مؤشر MSCI للأسواق الناشئة وتباطؤ النمو الاقتصادي في الصين، وزيادة توجه المستثمرين إلى منطقة الخليج العربي تحديدًا، كما أن الترجيحات بعودة زيادة الطلب الصيني لها آثارها الإيجابية.
وثمَّة أيضًا عديد من المؤشرات الدولية المطمئنة للأسواق، ويشمل ذلك، اتجاهات تخفيف السياسات النقدية، والتوقعات بقيام الفيدرالي الأمريكي بتخفيض أسعار الفائدة، فضلاً عن التوقعات المرتبطة بأسعار النفط، وانتقاء الاكتتابات واستمرار الطروحات الأولية والعامة، وهو ما يسهم في إنعاش الأسواق وجذب السيولة.
وفي تعليقه على العوامل المؤثرة على أداء أسواق الخليج في العام 2023م يرى الخبير المالي والاقتصادي، وضاح الطه، أن هناك مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، التي ألقت بتأثيراها على أسواق الخليج، مثل معدلات النمو الاقتصادي، والعوامل المرتبطة بأسعار الفائدة، ونتائج الشركات المدرجة، والعوامل القطاعية المختلفة المرتبطة بكل قطاع على حدة، أما العوامل الخارجية فتمثلت في حركة الأسواق العالمية، وفي مقدمتها الأسواق الأمريكية، وأسعار النفط، وأسعار الفائدة، فضلاً عن العوامل الجيوسياسية.
مؤشرات التكنولوجيا
ومن الملاحظ فيما يتعلق بمؤشرات سوق الأوراق المالية، أن الشركات الأفضل أداءً في عام 2023 هي المؤشرات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، إذ ارتفعت قيمة شركة إنفيديا الأمريكية، التي تركز جهودها على تطوير الذكاء الاصطناعي، إلى أكثر من 3 أضعاف في سوق الأسهم لتصل إلى 1.2 تريليون دولار، لتصبح سادس أكبر شركة على مستوى العالم، ولتكون في مركز متميز وسط عمالقة التقنية والشركات العظمي ذات رؤوس الأموال الضخمة، مثل: جوجل وأمازون وفيسبوك وأبل ومايكروسوفت، فضلاً عن شركة تيسلا.
ويؤكد عديد من المؤسسات الاقتصادية أن السوق العالمي سيشهد تحولاً، بفضل الالتزام المتزايد بالممارسات المستدامة والاستفادة من الفرص الناشئة، والتقدم التقني، بعد أن سيطر الذكاء الاصطناعي على الخطط الإستراتيجية لكبريات شركات التقنية، وهو ما اعتبره “جيمس ديميرت” رئيس قسم الاستثمار في شركة “ماين ستريت ريسيرتش” لأبحاث السوق، دليلاً على بداية دورة جديدة وحقيقية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ودورة اقتصادية يمكن أن تستمر لعقد بفضل نمو الإنتاجية والرياح الداعمة للذكاء الاصطناعي.
وقبل التطرق للتوقعات المستقبلية لأسواق المال والأسهم، من المهم إلقاء الضوء على أبرز العوامل المؤثرة، إذ تتأثر أسواق المال بعديد من العوامل الداخلية والخارجية، الاقتصادية والجيوسياسية، ومن أبرز هذه العوامل، التغيرات في السياسات الاقتصادية والنقدية، وسياسات أسعار الفائدة من جانب البنوك المركزية الرئيسة، وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي، وكذلك التطورات الاقتصادية، المرتبطة بتلك السياسات، مثل النمو الاقتصادي والبطالة ومعدلات التضخم والتدابير الاقتصادية الحكومية، مثل الضرائب والإنفاق الحكومي، فضلاً عن تأثيرات أسعار النفط.
ومن العوامل المهمة أيضًا، التغيرات البيئية والطبيعية: ويشمل ذلك الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية، فضلاً عن التطورات التكنولوجية والابتكارات الجديدة في أداء الشركات، خاصةً تلك التي تعمل في الصناعات الرائدة والتكنولوجية.
كما تبرز العوامل الجيوسياسية، وعلى رأسها الحروب والصراعات، إذ تؤدي التداعيات السلبية إلى تخارج بعض الاستثمارات نتيجة العامل النفسي بالنسبة للمستثمرين، خاصةً الأجانب.
توقعات وتحديات
وعلى الرغم من المخاوف المستمرة بشأن التضخم وأسعار الفائدة ومستويات الديون المرتفعة وعدم الاستقرار في واشنطن بسبب قرب الانتخابات، فإن المستثمرين متفائلون باستمرار الاتجاهات الإيجابية للأسواق العالمية، إذ تشير “ناسداك” إلى أن انخفاض أسعار الفائدة وتحقيق النمو في الأرباح قد يخلقان أرضية إيجابية للأسهم في عام 2024م، كما أن الأسواق قد تشهد ارتفاعًا جديدًا هذا العام في ظل رهان المستثمرين على اتخاذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي سياسات التيسير الكمي، وهو ما يعزز الاتجاه الصعودي لسوق الأسهم.
ووفقًا لبعض التوقعات، فإن أسهم الأسواق الناشئة، رغم أنها تتسم بأداء ضعيف إلا أنها قد تتخذ اتجاهات تصاعدية في عام 2024م خاصةً إذا ظهرت مؤشرات لتعافي الاقتصاد الصيني، فعلى الرغم من أن سوق الأسهم الصيني عانى عام 2023م، إلا أنه وفقًا، لصندوق النقد الدولي، فإن معدل النمو في الصين سيسير بمعدلات نمو معقولة.
وفي هذا الإطار، يقول الزميل البارز في معهد أميركان إنتربرايز، ديريك سكيسورس: “إن الناتج المحلي الإجمالي للصين، من المرجح أن يتجاوز %4.5 عام 2024م، وأن التحدي، الذي يواجه الاقتصاد الصيني، هو أن هذا النمو سيبدأ في الانخفاض”، إذ تشير التقديرات، إلى أنه سينخفض تدريجبًا من حوالي %5 عام 2023م، إلى %3.5 في عام 2028م، ومع أن هناك عديدًا من التوقعات الإيجابية والمتفائلة، فإن هناك بعض التحديات والصعوبات، التي تواجه الاقتصاد العالمي، وأسواق المال والأسهم، وهو ما يتطلب ضرورة اتباع استراتيجيات حذرة للمستثمرين في مواجهة ذلك.
وترى شركة “ستاندرد آند بورز ماركت إنتلجنس” المتخصصة في أبحاث السوق، والتي أصدرت مؤخرًا تقريرًا بعنوان “توقعات السوق الأوروبية لعام 2024م”، أن المشهد مليء بالتحديات مع عدم اليقين الاقتصادي، ووفقًا للتقرير، فإن نظرة أسواق رأس المال لعام 2024م، ستكون “ضبابية”، مع تزايد مضطرد في حالات الإفلاس، وتباطؤ حاد في نمو الائتمان عبر معظم قطاعات البنوك، ومع أن “تشديد الظروف الائتمانية المستمر سيساعد في خفض التضخم في 2024م، إلا أن ذلك سيتم بوتيرة متواضعة”، ومع أنه سيكون هناك تطور ملحوظ في إدارة الذكاء الاصطناعي، فإن هناك مخاوف في الاستدامة، والتحولات في ديناميكيات سلسلة التوريد وسياسات الطاقة.
وفي المنطقة العربية، ورغم التوقعات الإيجابية باستمرار الأداء النشط، قد يكون عاملاً إيجابياً لمؤشرات الأسهم الخليجية إلا أن حدوث أى خسائر في أسعار النفط والأسواق الأمريكية نتيجة أية أحداث طارئة، قد يؤدي إلى هبوط الأسواق الخليجية، التي تعتمد في أغلب مؤشراتها على أسهم البتروكيماويات، أما البورصات العربية الأخرى، وعلى رأسها البورصة المصرية، فسيكون التأثير الأكبر على أدائها مرتبطًا بمبيعات الأجانب المتوقعة.
كذلك، فإن هناك تحديات تتعلق بالتوترات الجيوسياسية، إذ شهد مؤشر “إم إس سي آي” لدول مجلس التعاون الخليجي تراجعًا بنسبة %3.2 مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023م.
وعلى الرغم من أن هذا المؤشر عاود الارتفاع مرة أخرى، إلا أن استمرار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية واحتمالية تصاعد الأحداث قد يؤدي إلى آثار سلبية وإحجام المستثمرين عن المنطقة.
وبشكلٍ عام، فإنه إذ كانت هناك بعض العقبات والصعوبات، مثل توقعات النمو غير الواضحة وتزايد عدم اليقين الجيوسياسي، إلا أن التعافي الاقتصادي وانحسار الرياح المعاكسة للتقدم الاقتصادي، وانخفاض أسعار الفائدة، واستمرار مرونة الاقتصاد والتطورات التكنولوجية المتصاعدة، كلها عوامل تعزز نمو الأسهم في 2024م.