تأخير قرار تخفيض الفائدة غير منطقي وغير واقعي، ويضر بالاقتصاد العالمي.
الفيدرالي الأمريكي غير مستعجل على الخفض، كما كان عليه قبل ثلاثة أشهر.
لا يزال أغلبية صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي يتوقعون ثلاثة تخفيضات في أسعار الفائدة هذا العام.
للمرة الخامسة على التوالي يُبقي الفيدرالي الأمريكي الإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، لتظل عند مستوى يتراوح بين (5.25 و%5.5)، ما أثار التكهنات بمدى قرب قرار البدء بتخفيض معدلات الفائدة التي تسارعت بشكل كبير خلال العامين الماضيين، لتصل للمستوى الأعلى منذ 23 عامًا.
فبعد سلسلة من الارتفاعات بهدف الحد من التضخم قرر الاحتياطي الفيدرالي في سبتمبر عام 2023م الإبقاء على المعدلات دون تغيير، بعد زيادتها 11 مرة منذ مارس 2022م وعلى نهجه سار البنك المركزي السعودي وكثير من البنوك المركزية في المنطقة.
وبسبب ربط الريال بالدولار الأمريكي، بات البنك المركزي ملزمًا بمسايره الفيدرالي الأمريكي في معدلات الفائدة لتجنب الدخول في صراع عملات، ومع قرب انتهاء أزمة الارتفاع، ستنعكس قرارات الخفض المرتقبة في النصف الثاني من العام 2024م على اقتصاد المملكة بشكل إيجابي.
ويكتسب سعر الفائدة الطبيعي أهمية لكل من السياسة النقدية وسياسة المالية العامة نظرًا لدوره كمستوى مرجعي يقُاس على أساسه موقف السياسة النقدية وكعنصر أساسي في تحديد مدى استدامة القدرة على تحمل الدين العام.
وبحسب تقرير لصندوق النقد الدولي “آفاق الاقتصاد العالمي”، فإن الآفاق محفوفة مجددًا بعدم اليقين، والسيناريو الأساسي لا يُرجح عودة التضخم إلى مستواه المستهدف قبل عام 2025م في معظم الحالات، وذلك وسط اضطراب القطاع المالي وارتفاع التضخم والآثار المستمرة من الغزو الروسي لأوكرانيا وجائحة كوفيد التي امتدت لثلاث سنوات.
سعر الفائدة المحايد
ويشير الموقف الحالي لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى أن سعر الفائدة المحايد على الأموال الفيدرالية يبلغ %2.5، ما يؤشر بوجود مجال لخفض سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أساسية لتحقيق سعر فائدة “محايد”، بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يرتفع سعر الفائدة “الحقيقي”، المعدل حسب التضخم، مع اعتدال التضخم.
ويتوقع محللو بنك ING أن يختار بنك الاحتياطي الفيدرالي تأجيل خطوته الأولى حتى مايو 2024م، بالاعتماد على مؤشرات التضخم الأساسية المنخفضة باستمرار لتوفير الثقة لخفض سعر الفائدة إلى %4 بحلول نهاية العام، على عكس التوقعات المتفق عليها البالغة %4.5، وإلى %3 بحلول منتصف عام 2025م، وهذا من شأنه أن يجعل الأسعار قريبة من المنطقة المحايدة، مما يترك مجالاً لمزيد من التخفيضات الكبيرة إذا واجه الاقتصاد مزيدًا من التحديات ويستلزمه التحول إلى المنطقة “التحفيزية”.
ويقول الخبير المالي، على الجعفري، إن البحث عن القوى المحركة التاريخية لأسعار الفائدة الطبيعية من الأسئلة المهمة في سياق تحليل الانخفاضات المتزامنة السابقة في أسعار الفائدة الحقيقية، ويضيف: “لا تزال حالة عدم اليقين تخيم على الأسواق، حتى مع نبرة جيروم باول المتفائلة حول إمكانية تخفيض أسعار الفائدة، إلا أن أعضاء الفيدرالي لايزالون منقسمون حول عدد تخفيضات الفائدة في عام 2024م بين مرة إلى ثلاث مرات، كما أن بعض أعضاء الفيدرالي ينظرون إلى أن تخفيض الفائدة قد يكون مبكرًا وسيكون له ضرر وآلم كبير على الاقتصاد”.
يشدد الجعفري على أن من أحد أسباب الاعتقاد بأن تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى سياسة أكثر تشددًا قد يؤدي إلى الركود هو أنه تسبب بالفعل في انفجار فقاعات سوق الائتمان والأصول التي أنشأها العام الماضي، تراجعت أسعار الأسهم بنسبة %25 تقريبًا منذ بداية العام، وانخفضت أسعار السندات بنحو %11، وانهيار سوق العملات المشفرة، بحيث فقدت بيتكوين ربع قيمتها خلال أيام وخسرت عملة إيثريوم حوالي ثلث قيمتها.
توقعات بالتصحيح
وكان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، قد أبقى في منتصف مارس 2024م على سعر الفائدة الرئيسي ثابتًا، للاجتماع الخامس على التوالي، حيث ينتظر البنك المركزي مزيدًا من البيانات لتحديد موعد خفض أسعار الفائدة، بعد أن رفع أسعار الفائدة بقوة خلال العامين الماضيين في محاولة لمحاربة أعلى معدل تضخم منذ عقود.
ويتوقع تقرير لوول ستريت على أن التخفيض الأول لسعر الفائدة سيأتي هذا الصيف، في الوقت الذي يواجه فيه مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي مهمة صعبة تتمثل في الموازنة بين خطر التخفيض في وقت مبكر للغاية وخطر التخفيض في وقت متأخر للغاية – وكلاهما له عواقب، ويؤكد الخبير المالي والرئيس التنفيذي لشركة ريادة المالية، فيصل الشماس علي أن توقيت الخفض بالغ الأهمية، ويقول: “إما أن يؤدي إلى التراجع عن التقدم الذي شهده بنك الاحتياطي الفيدرالي، إذا خفض المسؤولون في وقت مبكر جدًا، أو قد يفشل في منع الاقتصاد من التدهور الحاد، إذا خفض المسؤولون سعر الفائدة في وقت متأخر جدًا”، ويقول إنه بسبب ربط الريال بالدولار فإن معدل الفائدة في البنك المركزي مرتبط هو الآخر بمعدلات الفائدة الأمريكية، ولكن يبدو أن الأمريكي غير مستعجل حاليًا، وما تُشير إليه تقارير توقعات الخفض حاليًا أقل مما كانت عليه قبل ثلاث أشهر.
وأشار الشماس إلى أنه بعد أن سجل مؤشر أسعار المستهلك الأمريكي في مارس الماضي نموًا بواقع %3.5 على أساس سنوي، حيث جاء أعلى من التوقعات عند %3.4 مما يجعل الفيدرالي الأمريكي يتروى قليلاً قبل البداء بعملية تخفيض أسعار الفائدة والتي كان متوقع أن تكون خلال شهر يونيو القادم، ويشدد على أن حركة التنمية و الاتساع في الإنفاق لا تأتي إلا بانخفاض معدلات الفائدة فمعدلاتها المرتفعة حاليًا ترفع تكلفة الاستثمار وتكلفة النقود، وهذا أصاب الأسواق بشح في السيولة، ولن نبدأ نلمس الحركة الاقتصادية النشطة وتنامي تدفق السيولة واتساع الإنفاق إلا مع بداية الخفض الفعلي والذي يتوقع أن نشهده خلال النصف الثاني من العام الحالي أو الربع الأول من العام القادم كحد أقصى.
وتتفق توقعات الشماس، مع تصريحات أطلقها رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، جيروم بأول، في أواخر مارس الماضي، كشف فيها أن البنك ليس في عجلة من أمره للبدء في خفض أسعار الفائدة، ونقلت وكالة “بلومبرغ” عن باول قوله: “لسنا بحاجة إلى أن نكون في عجلة من أمرنا لإجراء الخفض”، مضيفًا أن “بيانات التضخم الجديدة الصادرة في وقت سابق تتماشى إلى حد كبير مع توقعاتنا“.
مؤشرات بالخفض
في العام الماضي، شعر بنك الاحتياطي الفيدرالي بالذعر من التضخم المرتفع الذي ساعد على تأجيجه بأفعاله، وهو الآن يضغط بقوة على مكابح السياسة النقدية بالطريقة نفسها التي أبقى بها قدمه على دواسة البنزين لفترة طويلة جدًا في العام الماضي.
غير أنه وعلى الرغم من بعض التقارير السلبية، لا يزال أغلبية صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي يتوقعون ثلاث تخفيضات في أسعار الفائدة هذا العام، لكنهم يتوقعون الآن خفضًا أقل في عامي (2025م و2026م)، وأن تكون أسعار الفائدة على المدى الطويل أعلى قليلاً مما توقعوه في ديسمبر الماضي، ولكن في المقابل يتوقعون أيضًا أن يكون النمو الاقتصادي أعلى بكثير هذا العام مما توقعه المسؤولون.
وسيكون سوق السندات، أكبر المستفيدين في حال عدم تخفيض الفائدة ما قد يعطي الأسواق إمكانية إيجاد اتساع في انقلاب منحنى العوائد بين عامين وعشرة أعوام، إضافة لذلك ستتحسن سوق الرهون العقارية، وبطاقات الائتمان، والسيارات، وفي المقابل قد ينخفض الطلب على أصول المخاطرة كالعملات الرقمية والأسهم ما قد يواجهان بعض التصحيحات السعرية.
انعكاسات إيجابية
وقد أشار مجلس الاحتياطي الفيدرالي مع بداية العام الجاري إلى إمكانية خفض أسعار الفائدة، بعد وصول معدل التضخم إلى مستويات قريبة من النسب المستهدفة، نزولاً من أعلى مستويات سجلها لأكثر من 40 عامًا عند %9.1 في يونيو 2022م.
ولكن الخوف من عودة “الرياح التضخمية” عكرت صفو هذه المداولات في ظل ارتفاع تكلفة المعيشة والبنزين وارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين إلى %3.2 على أساس سنوي في فبراير 2024م، بعكس توقعات بأن يظل دون تغيير عن مستواه في يناير عند %3.1.
والسؤال الأهم الآن، هل تعكس هذه المكاسب القياسية الثقة بأداء الاقتصادات أو مجرد شراء للوقت؟، يجيب الجعفري ويقول: “هذه المكاسب تعكس فرضيتين مهمتين، الأولى: أن تخفيض الفائدة سيحصل في النصف الثاني من العام الجاري في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والخليج العربي، وهذا بدوره سيكون لصالح الاقتصاد بشكل عام وخاصة أسواق الأسهم، أما الثانية: فتتجلى في أن الاقتصاد الأمريكي لايزال يظهر أداءً ممتازًا ومرونة فاجأت الجميع، وهذا يبرر بعض الارتفاعات وليس جميعها وخاصةً الارتفاعات القياسية غير المبررة في قطاع التكنولوجيا، ويشدد على أن تأخير قرار تخفيض الفائدة غير منطقي وغير واقعي لأن التضخم فعلاً تراجع ووصل إلى %3 في الولايات المتحدة، متراجعًا من مستويات قياسية في منتصف عام 2022م، ما يعني أن بعضًا من تصريحات الفيدرالي الأمريكي بشأن التضخم المؤقت كان صحيحًا إلى حد ما، ولكنه في الوقت نفسه لن يغامر بإرسال الاقتصاد البلاد إلى الركود في حال الإبقاء على أسعار فائدة مرتفعة، إذ لا يحتاج الاقتصاد الأمريكي لفائدة مرتفعة أعلى من %5 في وقت يستمر فيه الدين الأمريكي بالارتفاع لمستويات قياسية جديدة (34 تريليون دولار وخدمة هذا الدين من فوائد تتجاوز تريليون دولار سنويًا، وهو ما يعني مزيدًا من الصعوبات مستقبلًا).