تحليل

لماذا تهرب الصين من الدولار وتذهب إلى الذهب؟

الصين القوة الاقتصادية رقم (2) عالميًا، وتلقّب بـ “مصنع العالم” ورغم التباطؤ الذي حصل في السنوات الأخيرة، لا تزال تشكِّل الرقم الصعب بالنسبة لنمو الطلب العالمي.

ومنذ أن بدأت رحلتها الاقتصادية في عام 2000م بطريقة أذهلت المراقبين، مع توسع اقتصادها على مدار كل هذه الفترة واستطاعت فيها أن تتفوق على اقتصادات الدول الصناعية المتقدمة مثل اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، واحتلالها في النهاية المركز ثاني كأكبر اقتصاد في العالم، لا بل أيضًا كل التقديرات تقول بأنها بعد سنوات قليلة ستزيح أيضًا الولايات المتحدة عن المركز الأول.

نستعرض هنا التطورات المتسارعة التي تحدث مع الصين بالنسبة لحيازتها لسندات الخزانة الأمريكية، وأيضًا بداية ابتعادها عن الدولار وعمليات الشراء الكثيفة التي تحصل على الذهب لتنويع احتياطاتها.

 

لطالما كانت الصين على رأس الدول التي تمتلك سندات الخزانة الأمريكية وكانت قيمة ما تحوز عليه لا تقل دائمًا عن 1 تريليون دولار، وكان هناك تنافس شديد مع اليابان على المركز الأول، ووصلت ما تملكه الدولتان إلى حوالي 2.5 تريليون دولار، إلا أن تطورات كبيرة حصلت في السنوات الأخيرة منذ فترة جائحة كورونا، شهدنا فيها موجات بيع متواصلة على هذه السندات من قبل الصين وصلت إلى حوالي 400 مليار دولار أي حوالي %40.

وكانت الصين في وقت من الأوقات تملك 1.3 تريليون دولار من هذه السندات وهذا كان أكثر مستوى سجلته في تاريخها ومع عمليات البيع المتواصلة وصل الرقم إلى 782 مليار دولار، وكان أقل مستوى في 15 عامًا، بالإضافة إلى أن حصتها لم تعد تتجاوز أكثر من %3 من المجموع العام، وهو الأقل في الـ 22 عامًا بعدما كان وصل إلى %14 في عام 2011م.

معروف عن السندات هو نوع من الاستثمار القائم على الديون مقابل معدل فائدة، وبما أن الولايات المتحدة تتبوأ مركزًا اقتصاديًا كبيرًا في العالم، ومع التصنيف المعتمد من قبل كبرى شركات التصنيف الائتماني لذلك تُعدُّ هذه السندات من أكثر أدوات الاستثمار أمانًا في العالم، ويبقى السؤال المهم هنا، لماذا قامت الصين بتقليص مئات المليارات من هذه السندات من محفظتها؟

ومع نشوء الحرب التجارية بين البلدين، ومرحلة كورونا، والتباين الكبير في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة وخروج عشرات المليارات من الدولارات من السوق والاقتصاد الصيني من قبل المستثمرين الأمريكيين اتخذت الصين بعض الخطوات، واتجهت أيضًا أكثر وأكثر إلى الاستثمار في القطاع الخاص وتقليص استثماراتها في القطاعات الحكومية للدول.

الجدير بالذكر هنا أن الصين كانت على الجبهة المقابلة تزيد من احتياطاتها من الذهب، ففي عام 2023م مثلاً اشترت 225 طنًا متريًا، وهو ما يمثل ربع مشتريات البنوك المركزية في العالم، الذي كان أكثر بقليل من 1000 طن متري حسب مجلس الذهب العالمي، ووصلت حيازات الصين من الذهب إلى 2257 طنًا ورغم هذه الزيادات، إلا أنها لا تشكِّل سوى %4 فقط من إجمالي احتياطاتها، وبالتالي لديها مجال واسع في المستقبل لمزيد من عمليات الشراء ويبدو  أنها لن تتوقف عن ذلك، إذ إن المعطيات تُشير  إلى استمرارها على هذا النهج.

ولم يقتصر شراء الذهب في الصين على الحكومة فقط، بل ارتفعت شهية الأفراد الصينيين أيضًا فتم شراء أكثر من 600 طن من المجوهرات في عام 2023م بارتفاع %10 عن العام السابق، هذه الشهية الكبيرة لدى المواطنين كانت بسبب عامل التحوط من المشكلة الكبرى التي تواجه الصين حاليًا، وهي أزمة القطاع العقاري هناك، وتعثر كبرى شركات التطوير مع حجم الديون الكبيرة عليها، وخصوصًا أن القطاع العقاري وبما يمثل في الاقتصاد الصيني، يُعدُّ قنبلة موقوتة إذا لم يتم التعامل بحزم مع هذه الشركات ومعالجة الوضع دون أن يحصل امتدادات إلى القطاعات الأخرى وخصوصًا القطاع المالي وتجنب أي هزة للمصارف الصينية الكبيرة.

عدا التعثر في القطاع العقاري هناك التراجع الذي سجله سوق الأسهم الصيني مخالفًا الارتفاعات القياسية للأسواق العالمية، بالإضافة أيضًا إلى تراجع العملة الصينية في آخر سنتين، باعتباره عاملًا مهمًا يدخل أيضًا في قرارات الصين الكبيرة وهو بداية الهروب من الدولار قدر المستطاع بعدما ظهر تأثير ذلك على روسيا، خصوصًا أن الدولار يُعدُّ من أهم الأسلحة في الصراعات، وقد رأينا فعالية ذلك من خلال استعماله في مجال العقوبات الاقتصادية والمالية والتي أثرت بقوة خصوصًا أن الدولار هو عملة العالم، وبالتالي تأثيره بدون شك سيكون قاسيًا على الدول الأخرى.

هذا أيضًا تريد الصين أن تقوم بدعم مجموعة بريكس التي تضم الصين الهند روسيا البرازيل وجنوب أفريقيا وبداية الابتعاد تدريجيًا عن الولايات المتحدة من خلال رفع التجارة البينية بين دول المجموعة وزيادة حجم التبادل التجاري من خلال التبادل بين عملات هذه الدول عن طريقة الدفع من دون المرور بالدولار وبالتالي طبيعي أن تزيد حيازات الدول من عملات هذه الدول وشاهدنا ذلك مع التبادل التجاري الحاصل بين الصين وروسيا بعملاتهم المحلية وارتفاع نسبة العملتين في احتياطات البلدين.

ختامًا يمكن القول إن الطلب على المعدن الأصفر في العالم وصل إلى مستويات قياسية في العام الماضي مدعومًا بالحروب العسكرية والتباطؤ في الاقتصاد الصيني، وأدى ذلك إلى تحليق الأسعار وتسجيلها أرقامًا تاريخية جديدة.