أسواق المانجروف

أسواق المانجروف.. تتوسع

تستهدف المملكة زراعة 100 مليون شجرة مانجروف على طول سواحلها خلال الأعوام المقبلة.

خبير إيطالي: جهود الحفاظ على المانجروف تمثل استثناءً خاصًا في المشهد النباتي السعودي.

 

في أعقاب زلزال المحيط الهندي وتسونامي عام 2004م، كشفت مقارنة بين قريتين في سريلانكا أن القرية التي تحميها أشجار المانجروف لم تتكبد سوى حالتي وفاة، في حين تكبدت القرية الخالية منها 6000 حالة وفاة، ولعل هذه الحادثة قد حفَّزت كافة دول العالم على الاهتمام بغابات المانجروف.

 

ويؤكد مختصون أن فوائد هذه الشجرة “العجيبة” لا تنتهي، حيث يُطلق عليها العلماء “بالوعات الكربون”، نظرًا لدورها الحاسم في عزل وتخزين ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، إذ تمتلك عديدًا من الآليات التي تسهم في قدرتها على احتجاز الكربون، بما في ذلك التمثيل الضوئي، ومحاصرة الرواسب، فضلاً عن فوائدها الاقتصادية العديدة..

الكربون الأزرق

وتعد أشجار المانجروف أو (القرم)، من أقدم الأشجار الساحلية في عالمنا العربي، وتتميز بأعلى نسبة امتصاص لثاني أكسيد الكربون مقارنة بأنواع الأشجار الأُخرى، كما أن لديها القدرة على تخزين كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون المشتق من الغلاف الجوي (حوالي 200 إلى 2000 طن متري للهكتار الواحد على مدى 50 عامًا)، كما يؤكد الخبراء أنها قادرة على عزل الكربون بمعدلات أعلى مرتين إلى أربع مرات من الغابات الاستوائية المطيرة، وبالتالي تعزيز التنوع البيولوجي، وغالبًا ما تصبح موطنًا للسلاحف والأسماك والقواقع والطيور، فضلاً عن أشكال الحياة البحرية المختلفة.

وتولي مشروعات استعادة الكربون الأزرق (يقصد به الكربون الذي تعزله الأنظمة الإيكولوجية الشاطئية والبحرية)، في شتى دول العالم اهتمامًا بأشجار المانجروف، ليس فقط لتخزين الكربون، ولكن أيضًا بسبب فوائد النظام البيئي الأُخرى التي توفرها، مثل منع تآكل السواحل، ففي قارة آسيا، على سبيل المثال، تتسبب هذه الأشجار في دفن ما يزيد على 900 طن من الكربون عن كل هكتار تحت الأرض، وهو عدد أكبر كثيرًا من الغابات الموجودة على الكرة الأرضية..

ولا تتوقف فوائد المانجروف عند حدود تخزين الكربون؛ إذ تتعدد فوائد الشجرة العجيبة ما بين دعم المخزون السمكي والأحياء البحرية، باعتبارها مخزنًا غذائيًا لها، وبين استخدام أخشابها وأوراقها وبذورها لأغراض صناعة الأثاث والألياف والورق ومواد البناء، فضلاً عن إنتاج عديد من المنتجات كالأدوات اليدوية والحِرف اليدوية، والمستحضرات الطبية، والعطور، والمنظفات..

وتستحوذ دولة إندونيسيا وحدها على %26 (42 ألف شجرة) من إجمالي أشجار المانجروف في العالم، تليها البرازيل %10.5 (17 ألف شجرة)، ثم ماليزيا وفنزويلا بنسبة %4.6 (7.6 ألف شجرة) و%4.5 (7.5 ألف شجرة) على الترتيب.

خطوات خليجية مُتسارعة

وتعمل دول مجلس التعاون الخليجي بخطى متسارعة نحو استعادة أشجار المانجروف وزراعتها في مناطق جديدة، في إطار مساعيها لخفض الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وتحقيق فوائد اقتصادية من خلال “أرصدة الكربون”..

ففي سلطنة عمان التي تعد موطنًا لنوع واحد فقط من هذه الأشجار يطلق عليها “المانجروف البحري”، والتي تمتد على طول الساحل من شمال الباطنة إلى ظفار، وتبلغ مساحة هذه المنطقة حوالي 1000 هكتار، حيث وقَّعت اتفاقًا من خلال هيئة البيئة مع شركة “إم إس إيه للمشاريع الخضراء”، لإطلاق مشروع “عمان للكربون الأزرق”، من خلال استزراع 100 مليون شجرة في البلاد خلال 4 سنوات، كما تسعى لتحقيق عوائد اقتصادية بقيمة 150 مليون دولار، وقامت بزراعة 3.5 مليون شجرة خلال العامين الماضيين.

وتسعى قطر إلى التوسع في زراعة مساحات أشجار المانجروف، حيث نجحت خلال الأعوام الماضية في زيادة المساحة المنزرعة من 9 كليو مترات إلى 15 كيلو مترًا، بمعدل توسع بلغ حوالي %57 خلال أقل من عامين، خاصة في منطقة الخور والذخيرة..

وأعلنت الكويت انضمامها إلى مبادرة (تحالف القرم من أجل المناخ)، التي أطلقت خلال فعاليات مؤتمر الأطراف السابع والعشرين (كوب 27) عام 2022م، وتستهدف استزراع 18 ألف شتلة من المانجروف بحلول عام 2035م، بمعدل احتجاز متوقع في حدود 221 ألف طن سنويًا من غاز ثاني أكسيد الكربون.

وتستهدف المملكة زراعة 100 مليون شجرة مانجروف على طول سواحلها خلال الأعوام المقبلة، وقام المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، بزراعة 6 ملايين شتلة على طول سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، وحصلت منطقة جازان على نصيب الأسد بأكثر من 3.3 مليون شتلة، تحقيقًا لمستهدفات مبادرة “السعودية الخضراء” ورؤية المملكة 2030م..

وأطلقت شركة البحر الأحمر العالمية، العام الماضي، مشروعًا طموحًا لزراعة 50 مليون شجرة مانجروف بحلول عام 2030م، وهو ما يعد جزءًا رئيسًا من رؤية المملكة لتعزيز الاستدامة والتنوع البيولوجي وتحقيق الحياد الكربوني، كما قامت شركة “أرامكو” بزراعة أكثر من 4.3 مليون شجرة على طول سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر، ومن أبرز مشروعات الشركة متنزه المانجروف البيئي بالقرب من رأس تنورة.

ووقَّعت شركة التعدين العربية السعودية “معادن” مذكرة تفاهم مع الهيئة الملكية للجبيل وينبع لإنشاء متنزه مانجروف يوفر 10 ملايين شجرة كمرحلة أولى في جزيرة القرمة بالجبيل التي تعد موطنًا طبيعيًا للمانجروف، على مساحة إجمالية تصل إلى 265 هكتارًا..

وأبرمت شركة “الحياد الصفري”، الرائدة في مجال الغابات وتشجير المدن في المملكة، شراكة مع شركة “بلو فورست” الإماراتية، تهدف إلى ترميم ما لا يقل عن 5000 هكتار من غابات المانجروف، وغرس حوالي 50 مليون شجرة في جميع أنحاء المملكة.

وفي هذا السياق، ذكر مستشار البيئة الساحلية والبحرية في المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي، أحمد المنسي، أن أشجار المانجروف تنمو بكثرة على طول سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، وهذا يوفر لنا حافزًا لزراعة مزيد منها. مشيرًا إلى أنها تمتص ما لا يقل عن 70 إلى %90 من طاقة الأمواج التي تولدها الرياح”، مضيفًا إنها قادرة أيضًا على تقليل شدة موجات تسونامي من خلال تخفيف الكمية الكارثية من طاقة الأمواج المرتبطة بها، مما يساعد على تقليل الخسائر في الأرواح والأضرار في الممتلكات..

كنوز طبيعية

ويُطلق الخبراء على أشجار المانجروف “حراس الطبيعة”، وهي أيضًا “حواجز خضراء” تعمل كخط دفاع أول للمجتمعات الساحلية، حيث تحميها من الأضرار الناجمة عن العواصف والأمواج، وتمنع التآكل وتساعد على استقرار الشواطئ، كما أنها تعمل كملاجئ وحاضنات لعديد من أنواع الأسماك والقشريات والطيور، مما يوفر لها مصدرًا جيدًا للتغذية، فهي توفر مواقع تعشيش واستراحة لعديد من أنواع الطيور المقيمة والمهاجرة، حيث تُعدُّ مجتمعاتها القوية مؤشرًا بيولوجيًا لجودة النظام البيئي.

وقد حدد المركز الوطني 125 نوعًا تستخدم موائل أشجار المانجروف في مرحلة ما من دورات حياتها، فضلًا عن استفادة الحيوانات البرية من مستنقعات المانجروف، فهي توفر مراعي للإبل في جزر البحر الأحمر، وتوفر تغذية عالية الجودة للإبل في المواقع الساحلية خلال فصل الشتاء..

ويؤكد مختصون أنه على الرغم من فوائدها البيئية الواضحة، فإن أشجار المانجروف معرضة للتهديد على مستوى العالم بسبب التحضر، والتعدي، والرعي الجائر، والتلوث، واستخدام الأسمدة والمبيدات الحشرية، والتخلص غير السليم من النفايات، لكن الجهود التي تُبذل في المملكة تستهدف الحفاظ على هذا المورد الطبيعي الثمين وتعزيزه، واستغلال مزاياه الاقتصادية العديدة..

وفي هذا السياق، أشاد الخبير البيئي الإيطالي، ماتيو كافاليتو، بالخطوات التي تتخذها المملكة للحفاظ على التنوع البيولوجي، والتوسع في زراعة واستغلال أشجار المانجروف، من أكثر من 6 ملايين شجرة في الوقت الحالي إلى 100 مليون خلال السنوات المقبلة، مشيرًا إلى أنها تمثل استثناءً خاصًا في المشهد النباتي السعودي، مؤكدًا أن المبادرات التي تتبناها المملكة تعد رائدة مقارنة بغيرها في مختلف دول العالم، لافتًا إلى أن أشجار المانجروف على الكوكب تمنع انبعاثات تزيد على 21 مليار طن سنويًا من ثاني أكسيد الكربون..

عسل المانجروف

وسلَّطت تقارير على الفوائد الاقتصادية لأشجار المانجروف، معتبرة أنها “كنوز طبيعية” في المملكة، حيث يتم استخدامها كمصدر لكثير من الصناعات، لافتة إلى بدء إصدار تراخيص للنحالين لإنتاج عسل المانجروف النادر.

وعند سواحل المملكة، تتوزع خلايا نحل تابعة لشركة “أمير النحل” العائلية لإنتاج العسل من زهور أشجار المانجروف، وقال مدير الشركة، علي عبدالله السلطان، إن كثيرين يعتقدون أن عسل المانجروف يتمتع بطعم مالح لتشرب الأشجار المياه المالحة، ولكنه العكس تمامًا، مشيرًا إلى أن أشجار المانجروف تقوم بامتصاص الماء المالح من التربة، ولكن تتركز الملوحة في جذورها، وأوراقها القديمة، وبالتالي يكون رحيق الأزهار نقيًا، وعسله حلو المذاق..

وأقام فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة الشرقية، العام الماضي، فعالية “إنتاج عسل المانجروف” للمرة الأولى في الدمام، وذلك بعد النجاح الذي حققته الفعالية في القطيف خلال السنوات السابقة، بمشاركة 20 نحالاً وعدد من النحالين في دول الخليج.

ويمكن التأكيد على أن الجهود التي تبذلها المملكة للتوسع في زراعة واستغلال غابات المانجروف، تعد نموذجًا لغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي والدول الساحلية في العالم، إذ تسعى إلى الحفاظ على البيئة وخفض انبعابات الكربون بصورة كبيرة من ناحية، والاستغلال الأمثل لهذه الكنوز الطبيعية، سواءً في تنمية الثرورة الحيوانية والسمكية أو الصناعات الغذائية المختلفة من ناحية أخرى، فضلًا عن كونها متنفسات طبيعية خضراء، كما هو الحال في جزيرة تاروت بمحافظة القطيف التي تحتضن غابة من أشجار المانجروف على مساحة 2.5 كم، والتي تحولت إلى متنفس للأهالي ومقصد سياحي متميز.