أظهرت النتائج البحثية أن الأسمنت الصديق للبيئة بخلاف التقليدي يتميز بمقاومته العوامل الطبيعية والأملاح الموجودة في التربة والمياه الجوفية، وكذلك قلة مساميته ونفاذيته ومقاومته التشققات الحرارية.
بلــغ حجـــم ســـوق الأسمنــــت الأخضر العالمي 31.1م مليار دولار عام 2022م، وقرابة الـ 34.2 مليار دولار أمريكي في عام 2023، وثمة توقعات أن تصل قيمته السوقية إلى نحو الـ 63.3 مليار دولار بحلول عام 2028م.
على ضفاف بحر المانش الفاصل بين فرنسا وبريطانيا وتحديدًا على شبه جزيرة بورتلاند الغنية بأحجار البناء عالية الجودة، اكتشف العالم البريطاني “جوزيف أسبدين” عام 1824م، ما سمَّاه بالأسمنت البورتلاندي، عن طريق حرقه للحجر الجيري (الطباشير أو الطبشور) مع مواد طينية مقطعة لأجزاء صغيرة في فرن جيري حتى ينبعث غاز ثاني أكسيد الكربون للخارج، ومن ثم تنوعت أنواعه إلى أكثر من 42 نوعًا، وتطورت صناعته بشكل كبير، فمن استغراق أربعين ساعة في إنتاج الطن الواحد من الأسمنت إلى ثلاث دقائق الآن.
ورغم ما أحدثه اختراع الأسمنت البورتلاندي من توسع كبير في عمليات البناء والتشييد وانعكاساته الإيجابية على تطوير البلدان وازدهار حركة العمران، فإنه إنتاجه في الأفران يتطلب حرارة عالية حتى تتم عملية الحرق، ونتيجة لذك هناك كميات عالية من الوقود الأحفوري تستخدم لحرق المواد الخام للأسمنت ليخرج بالشكل المطلوب، ويتسبب حرق الوقود الأحفوري لإنتاج الأسمنت في انبعاث كميات كبيرة من الغازات الضارة، ومن أهمها ثاني أكسيد الكربون؛ فحسب تقارير للأمم المتحدة، فإنه المسؤول عن انبعاث %8 من مجموع غاز ثاني أكسيد الكربون عالميًا، في حين كامل حركة الطيران في العالم مسؤولة عن %3 من مجموع الغاز المنبعث، وينبعث ثلاثة أرباع الطن من غاز ثاني أكسيد الكربون عند إنتاج واستخدام طن واحد من الأسمنت، ونصف هذه الكمية من الغاز ينبعث أثناء عملية التحضير بحرارة عالية..
أصعب الصناعات
وتأتي مصانع الأسمنت عالميًا كثاني مسبب للوفيات بسرطان الرئة بعد التدخين، كما أنها من بين أصعب الصناعات في إزالة الكربون، وتتخذ عديد من الشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم مبادرات مختلفة لتقليل انبعاثات الكربون الناتجة عن صناعة الأسمنت، كما يتخذ عديد من كبار مصنعي الأسمنت في الاتحاد الأوروبي خطوات مختلفة لتقليل بصمتهم الكربونية بنسبة %30 بحلول عام 2030م، علاوة على ذلك، اتخذت حكومة الولايات المتحدة مبادرات مختلفة لتقليل بصمتها الكربونية..
وأخذت تتجه أبحاث العلماء لأجل إنتاج أنواع جديدة من الأسمنت الصديقة للبيئة أو الأسمنت الأخضر، حيث يبلغ الإنتاج العالمي من الأسمنت حوالي 2.2 مليار طن سنويًا، ويتوقع أن هذه الكمية سوف تتضاعف لتبلغ 4.2 مليار طن عام 2050م، وهذا يزيد من نسبة إسهام هذه الصناعة في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة %10، فكان إضافة مادة البوزلانا (رماد بركاني يمكن أن يستخدم كبديل للكلنكر) سواء الطبيعية أو الصناعية وهو الرماد المتطاير إلى الأسمنت، مما يقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي سوف تنجم عن توفير حرق الوقود للحصول على الكلنكر الأسمنتي، كما سيقلل من ماء الخلط اللازم لتكوين الخرسانة البوزلانية..
الصديق للبيئة
ويُعرف الأسمنت الأخضر أيضًا بالأسمنت الصديق للبيئة، وهو نوع من الأسمنت المصنوع من النفايات الصناعية مثل نفايات محطات توليد الطاقة، والخرسانة المستصلحة، والنفايات الناتجة عن التعدين والمحاجر، والطين المحروق، والخبث، ويتمتع بالقدرة على تقليل انبعاثات الكربون بنسبة %40 إلى %50، ويستهلك طاقة أقل أثناء إنتاجه مقارنة بالأسمنت التقليدي، وأصبح في الفترات الأخيرة شائعًا على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم لأنه يوفر فوائد استخدام منتجات النفايات وتقليل انبعاثات الكربون، ومن خلال دمج الرماد المتطاير، وهو بقايا محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، في خليط الأسمنت، يتم تقليل كمية الكلنكر المستخدمة، مما يؤدي إلى انخفاض البصمة الكربونية الإجمالية في إنتاج الأسمنت، فضلاً عما أظهرته النتائج البحثية من أن هذا النوع من الأسمنت الصديق للبيئة يتميز بمقاومته العوامل الطبيعية والأملاح الموجودة في التربة والمياه الجوفية، وكذلك قلة مساميته ونفاذيته ومقاومته التشققات الحرارية بعكس الأسمنت التقليدي، فضلاً عن خصائصه المتأصلة والمتمثلة في المتانة المحسنة، وقوة الشد الفائقة والمرونة الميكانيكية المتزايدة، وبالتالي يقدم بديلاً مستدامًا لمواد البناء التقليدية وخيارًا مفضلاً لممارسات البناء المستدامة..
عوامل حاسمة
وتعد صناعة البناء دائمة الازدهار والمخاوف البيئية المتزايدة وما تبعها من اتجاه متزايد على إزالة الكربون، من بين العوامل الحاسمة، التي دفعت بنمو مسار سوق الأسمنت الأخضر، إذ إن التفضيل المتزايد للأسمنت المستدام على المتغيرات التقليدية له دور فعال في تعزيز ديناميكيات السوق، حيث يتم الحصول على الأسمنت الأخضر من المنتجات الثانوية الصناعية مثل: الخبث والرماد المتطاير، مما يعالج بشكل فعال مخاوف إدارة النفايات الصناعية مع تخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري المتأصل في عمليات إنتاج الأسمنت التقليدية، ما كان له أكبر الأثر في “طفرة سوق الأسمنت الأخضر عالميًا”، الذي بلغ حجم سوقه العالمي31.1م مليار دولار عام 2022م، وقرابة الـ 34.2 مليار دولار أمريكي في عام 2023م، وثمة توقعات أن تصل قيمته السوقية إلى نحو 63.3 مليار دولار بحلول عام 2028م، ونحو 86.49 مليار دولار بحلول عام 2031م، وأن يسجل السوق معدل نمو سنوي مركب قدره %10.65 في أعوام ما بين ( 2023م إلى 2031م).
نمو السوق
ويشهد سوق الأسمنت الأخضر عالميًا نموًا كبيرًا؛ إذ تُهيمن أمريكا الشمالية على سوق الأسمنت الأخضر بحصة تزيد على %45، تليها منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، ومن المتوقع أن تصبح أمريكا اللاتينية ثاني أكبر سوق للأسمنت والخرسانة الخضراء، وتشير التقديرات إلى أن أوروبا تمثل حصة كبيرة، ومن المتوقع أن تكون منطقة آسيا والمحيط الهادئ السوق الأسرع نموًا للأسمنت والخرسانة الخضراء، ومع ذلك، من المرجح أن تنمو منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا بوتيرة سريعة خلال الفترة المتوقعة لعام 2029م، وذلك نظرًا لارتفاع تطوير البنية التحتية في المنطقة؛ التي بلغ فيها قيمة سوق الأسمنت الأخضر عام 2022م، قرابة 1,416.9 مليون دولار، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل نمو سنوي مركب قوي يبلغ حوالي %13.4 حتى عام 2030م، وذلك بسبب زيادة أنشطة البناء والتشييد، ومن المتوقع أن يتبع السوق توقعات مماثلة خلال الفترة المتوقعة، وتشمل العوامل الرئيسة التي تحرك السوق في المنطقة، السياسات الحكومية المواتية للمباني الخضراء وزيادة القلق بشأن انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن إنتاج الأسمنت التقليدي..
وتستثمر دول مثل: المملكة، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، والكويت بكثافة في مشاريع بنية تحتية واسعة النطاق، بما في ذلك المطارات والملاعب والمجمعات السكنية، فضلاً عن اللوائح الصارمة وأهداف الاستدامة التي وضعتها الحكومات في المنطقة؛ إذ تعمل حكومات دول الخليج جميعها على تعزيز ممارسات البناء المستدام وتشجيع استخدام المواد الصديقة للبيئة..
مبادرة الأسمنت الأخضر
وأمام ما يشهده قطاع التشييد والبناء في المملكة من انتعاش ملحوظ وبالأخص في العاصمة الرياض، الذي بحسب شركة (KPMG) فإنه من المتوقع أن يتجاوز الإنفاق المحلي على القطاع العقاري الـ 222 مليار ريال خلال العام الجاري، فإنه ثمَّة مزيد من الفرص المربحة في سوق الأسمنت الأخضر..
وكانت المملكة لاعبًا رئيسًا في صناعة الأسمنت التقليدي بسبب التطور السريع للبنية التحتية في البلاد، ومع ذلك، فإن صناعة الأسمنت هي أيضًا واحدة من أكبر المساهمين في انبعاثات الغازات الدفيئة في البلاد، ونتيجة لذلك، هناك تركيز متزايد على اعتماد الأسمنت الأخضر للحد من انبعاثات الكربون وتعزيز الاستدامة في قطاع البناء، وتم إطلاق عديد من المبادرات والمشاريع في المملكة ضمن إطار رؤية 2030م، لتعزيز إنتاج واستخدام الأسمنت الأخضر، باستخدامه في المشروعات الكبرى مثل: نيوم، وذا لاين، وأوكساجون، ونيتروجينا، والبحر الأحمر، وغيرهم..
وفي عام 2017م، أعلنت صناعة الأسمنت ومواد البناء في المملكة عن إطلاق مبادرة “الأسمنت الأخضر”، التي تهدف إلى تقليل انبعاثات الكربون وتعزيز إنتاج الأسمنت المستدام في البلاد، وبدأت شركات الأسمنت الكبرى في المملكة، مثل: شركة الأسمنت السعودية، وشركة أسمنت ينبع، التي أعلنت عام 2023م، في الإنتاج الفعلي للأسمنت الأخضر صديق البيئة، وذلك بطاقة إنتاجية تقدر بألف طن في اليوم، وتسعى إلى زيادته بـ 5 آلاف طن يوميًا، وتستثمر جميعها في البحث والتطوير لتحسين جودة وكفاءة منتجات الأسمنت الأخضر.