اقتصاديات السفن

الصناعات البحرية.. عملاق سعودي قادم

بسبب توقعات زيادة معدلات التجارة وخدمات الشحن ثمة توقعات بأن حجم سوق بناء السفن عام 2029م إلى 184.5 مليار دولار.

قرب المملكة من البحار والخلجان يدعمها في إقامة صناعات بحرية وجهود مستمرة لتوطين أنشطة صناعة السفن.

 

في ظل أن قرابة %90 من بضائع العالم يتم نقلها عبر البحار والمحيطات، أدرك عديد من الدول سواء المتقدمة أو الناشئة أو الصاعدة، أهمية قطاع صناعة وبناء السفن، باعتباره رقمًا فاعلاً في التجارة العالمية وسلاسل التوريد وأحد المساهمين الرئيسين في الناتج المحلي الإجمالي.

ووفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، الذي انعقد عام 2019م، قُدرت قيمة الأسطول البحري حول العالم بمبلغ 1. 15 تريليون دولار، وأن حجم سوق بناء السفن خلال العام الجاري بلغ حوالي 145.7 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل في عام 2029م إلى 184.5 مليار دولار، بسبب توقعات زيادة معدلات التجارة وخدمات الشحن والنمو الاقتصادي، وزيادة الطلب على السفن الصديقة للبيئة، وظهور الروبوتات في بناء السفن.

وفيما يتوقع تقرير صادر عن شركة Straits Research أن تصل قيمة صناعة بناء السفن إلى 181 مليار دولار عام 2030م، فــــإن تقريــــر بحثي صـــــــــادر عــن Market Reports World يتوقع أن يتم تجاوز التقديرات السابقة لتصل قيمة صناعة السفن عام 2028م إلى 229 مليار دولار.

وحتى آواخر القرن التاسع عشر ظلت السفن تُصنع من الأخشاب، إلى أن تطورت صناعتها بشكل كبير مع الثورة الصناعية واختراع الآلة البخارية واكتشاف الفحم الحجري والنفط، وبدأت صناعة السفن تنتقل من الخشب إلى الحديد والفولاذ والألومنيوم.

ولأهمية صناعة بناء السفن، صنفتها الصين عام 2006م بأنها واحدة من الصناعات الاستراتيجية السبع، وفي عام 2015م اعتبرت بناء السفن من أحد القطاعات الـ 10، التي تستهدف من خلالها السيطرة على التجارة العالمية بحلول عام 2025م.

وعلى الرغم من التقدم التقني والتكنولوجي المتسارع، فإن عديدًا من المهام والوظائف المرتبطة بصناعة السفن، وبنائها وصيانتها وإصلاحها، تحتاج إلى عمالة كثيفة، عالية المهارة والتخصص، ولذلك تولد هذه الصناعة عديدًا من فرص العمل، والتي تتجاوز الـ 1.8 مليون شخص في العالم، زيادة على أكثر من 20 مليون عامل آخر يرتبطون بهذه الصناعة، كعمال الموانئ، والشواطئ، وأطقم الشحن، وغيرهم.

سليمان المزروع

وفي ظل التحول إلى السيارات الكهربائية، يرى البعض أن قطاع بناء السفن يمكن أن يستوعب عديدًا من العمالة، التي قد تفقد وظائفها في مجال السيارات؛ إذ تشير التقديرات إلى أن مجال السيارات الكهربائية يتطلب حوالي %40 من عدد العاملين في السيارات ذات محركات الوقود التقليدية.

وباتت الصناعات البحرية وحركة النقل البحري العالمية، فائقة الأهمية، ويكفي أن نعلم أن توقف تلك الصناعة لأي سبب قد يؤدي إلى تعطل شركات الملاحة في العالم بأسره.

هيمنة صينية

وتهيمن الصين واليابان وكوريا الجنوبية على صناعة بناء السفن، بما يفوق الـ %85 من بناء السفن عالميًا، وتأتي الصين في المقدمة، إذ يمتلك القطاع الحكومي فيها أكبر مرافق بناء السفن في البلاد، وتقوم بتشييد مختلف أنواع السفن، مثل: ناقلات النفط والغاز الطبيعي وسفن الحاويات، وفي عام 2021م قامت بكين بتشييد %44.2 من السفن، التي تم تشييدها على مستوى العالم، لتستحوذ بذلك على الصدارة، التي كانت تحتلها كوريا الجنوبية في عام 2010م.

وتأتي كوريا الجنوبية في المركز الثاني عالميًا في صناعة وبناء السفن؛ إذ قامت في عام 2021م بتشييد %32.4 من السفن التي تم بناؤها عالميًا، وعقب الحرب الروسية الأوكرانية، زادت أرباح صناعة السفن الكورية، لدورها المحوري في إنتاج ناقلات الغاز الطبيعي المسال، إذ باتت تصنع حوالي %90 من ناقلات الغاز الطبيعي المسال في العالم، بعد أن أدت التوترات الجيوسياسية وارتفاع أسعار الطاقة والحاجة إلى بدائل للغاز الروسي في أوروبا إلى تعزيز الطلب على ناقلات الغاز الطبيعي المسال.

أما اليابان، فقد ساعدها كونها إحدى أهم الاقتصادات العظمي في العالم، وكذلك تقدمها التكنولوجي الضخم على الحصول على المركز الثالث في صناعة السفن، وكانت اليابان واحدة من أوائل الدول التي تمتلك حاملات طائرات، واستخدمتها خلال الحرب العالمية الثانية، ورغم الهزيمة وانهيار تلك الصناعة في اليابان، إلا أن قطاع بناء السفن تعافى مثله في ذلك مثل كافة الصناعات في اليابان، وأصبح إنتاجها حوالي %17.6 على مستوى العالم.

توقيع مذكرة تفاهم بين شركة فُُلك للخدمات البحرية، وشركة البحري لإدارة السفن في مجال الخدمات اللوجستية والنقل

نمو غير مسبوق

وتشهد صناعة بناء السفن في المملكة فترة من النمو غير المسبوق، الذي تقوده بالدرجة الأولى التطورات التكنولوجية، وزيادة الطلب العالمي، والالتزام بالاستدامة البيئية، وهذا النمو ينعكس بشكل مباشر على المفاصل الأخرى لهذه الصناعة، ففي مطلع عام 2013م قامت شركة أرامكو بعمل دراسات لإنشاء مجمع عملاق للصناعات البحرية في رأس الخير بالقرب من مدينة الجبيل الصناعية، ووقعت مذكرة تفاهم لإنشاء المجمع بالتعاون مع الشركة الوطنية السعودية للنقل البحري، وشركة هيونداي للصناعات الثقيلة، وشركة لامبريل كشركاء أساسيين، كما وقعت اتفاقات مع عدد من الشركات الأخرى، لتقديم خدمات الهندسة والشراء والإنشاء والتركيب المتكاملة للمنصات البحرية ليخدم مشاريع النفط والغاز.

وفي نوفمبر عام 2016م، تم بالفعل الإعلان عن تدشين “مجمع الملك سلمان العالمي للصناعات والخدمات البحرية” في رأس الخير، ليكون هو الأكبر على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من حيث القدرة الإنتاجية والنطاق، وبتكلفة تقديرية 20 مليار ريال، وسط توقعات بأن يسهم المجمع بأكثر من 17 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن أنه سيحد من واردات المعدات والخدمات البحرية بقيمة تصل إلى 12 مليار دولار، وتوليد فرص عمل مباشرة وغير مباشرة تزيد على 80 ألف وظيفة بحلول 2030م.

وتسعى المملكة من وراء هذا المجمع إلى تحقيق عديد من المهام والخدمات، مثل: إصلاح وصيانة السفن والحفارات وناقلات النفط الخام، وكذلك بناء جميع أنواع السفن، فضلاً عن إقامة منصات بحرية وأحواض جافة لبناء أجهزة الحفر، أما في عام 2019م، وضمن برنامج تطوير الصناعة والخدمات اللوجستية، الذي تم إطلاقه عام 2019م، بهدف تحويل المملكة إلى منصة صناعية ولوجستية عالمية لربط قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، فقد تضمن ذلك، 4 قطاعات حيوية هي الصناعة، والتعدين، والطاقة، والخدمات اللوجستية.

شراكات استراتيجية

وضمن الجهود المبذولة، أعلنت شركة بناء السفن الإيطالية “فينكانتييري” في مايو 2024م عن رغبتها في توطيد التعاون مع المملكة في مجالات الخدمات البحرية والرحلات السياحية والصناعات الدفاعية؛ حيث أوضح الرئيس التنفيذي للشركة “بيروبرتو فولجيرو” أنه بالنظر إلى الدور المحوري للصناعة البحرية في رؤية 2030م فإن شركته تتطلع إلى إقامة شراكات استراتيجية”.

وبحسب الرئيس التنفيذي لبرنامج تطوير الصناعة والخدمات اللوجستية “ندلب”، سليمان المزروع، أن المملكة ستبدأ في إطار جهودها لتنويع اقتصادها في مجال صناعة وبناء السفن وأن مصانع السفن على وشك أن تظهر خلال هذا العام.

وإسهامًا في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030م فإن هناك عديدًا من المؤسسات والشركات، التي تعمل في المسار نفسه، إذ وقَّعت شركة فُلك للخدمات البحرية، وهي إحدى الشركات التابعة لصندوق الاستثمارات العامة مذكرة تفاهم مع شركة البحري لإدارة السفن في مجال الخدمات اللوجستية والنقل، بهدف تعزيز قدرات أسطول شركة فُلك وتعزيز القدرات التقنية للسفن، إلى جانب التعاون في إدارة الأسطول وتطويره، كما قامت شركة الزامل للخدمات البحرية وبناء وإصلاح السفن بالإعلان عن إطلاق خط الإنتاج الجديد لبناء القوارب الصلبة القابلة للنفخ، وذلك في مدينة الدمام، فضلاً عن تقديمها خدمات الدعم البحري والملاحي المتنوعة لقطاع النفط والغاز تحقيقًا لهدف توطين أنشطة صناعة السفن بالمملكة.

تحديات بيئية

وأخيرًا فإن أحد التحديات الضخمة، التي تواجه صناعة السفن حاليًا، هي كيفية التغلب على الآثار السلبية لتلك الصناعة على البيئة، من خلال تقليل الانبعاثات وتطوير سفن صديقة للبيئة، واستخدام تقنيات وتبني تكنولوجيات في النقل البحري، تُسهم في ترشيد استهلاك الوقود وحماية البيئة، خاصةً أن تقليل انبعاثات السفن، يُعد أمرًا مهمًا في تحقيق أهداف الاستدامة البيئية والحفاظ على البيئة البحرية ومواجهة التغير المناخي.

وتبرز أهمية تلك النقطة، إذا علمنا أن قطاع الشحن العالمي يُسهم بأكثر من %3 من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، كما تشير التقديرات إلى أن هذه النسبة قد تصل بحلول عام 2050م إلى حوالي %13، الأمر الذي يتطلب اتخاذ عديد من الخطوات للحيلولة دون ذلك.

وإدراكًا لذلك، فقد استضافت مدينة جدة خلال سبتمبر 2023م بالتعاون مع منظمة البحرية الدولية، فعاليات مؤتمر استدامة الصناعة البحرية، تحت شعار “الابتكار من أجل مستقبل أخضر”، في ظل سعي مستمر لعديد من المؤسسات الدولية المعنية، لمواجهة الآثار السلبية للصناعة على البيئة، وإدارة كفاءة الطاقة واستخدام مواد وتقنيات صديقة للبيئة.