الذكاء الاصطناعي كرييتڤ

الذكاء الاصطناعي.. عدو البيئة!

تستهلك “جوجل” ما يعادل استهلاك 2.3 مليون منزل أمريكي من الكهرباء سنويًا واستهلاك دولة اليابان من المياه.

توقعــات بأن يسحـــب الذكــــاء الاصطناعي نحو 6.6 مليــار متر مكعـب من الميـــاه بحلول عام 2027م.

%20 الطلب المتوقع لأنظمة الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية من استهلاك الكهرباء بحلول عام2030م.

 

في كل مرة تطلب فيها من مساعدك الافتراضي تشغيل أغنية، أو اقتراح مطعم، أو الإجابة عن سؤال، فأنت تتصل بشبكة هائلة من أنظمة الذكاء الاصطناعي، فقليل من الناس يدركون أن هذه السلوكيات التي تبدو بريئة هي جزء من مشكلة بيئية أكبر، حيث تفاقم هذه الأنظمة تغير المناخ بهدوء.

ومع استمرار الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل العالم من حولنا وإحداث ثورة في طريقة عملنا، تخضع آثاره البيئية لتدقيق متزايد في الآونة الأخيرة، خاصةً مع المستويات المذهلة لاستهلاك الكهرباء والمياه من قِبل شركات التكنولوجيا الكبرى التي تُشغّل أنظمته، ففي حين أن إمكاناته لا حدود لها، فإن بصمته الكربونية وموارده المتزايدة تُثير تساؤلات جوهرية حول الاستدامة، لذا بدأت الشركات في مواجهة هذه التحديات من خلال الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتحسين كفاءة النماذج، وتطوير تقنيات تبريد مبتكرة لتقليل استهلاك المياه.

السر الخفي في الذكاء الاصطناعي

ويصف العلماء الآثار البيئية الوخيمة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، بـ”السر الخفي”، خاصةً فيما يتعلق باستهلاك الطاقة الضخم، حيث تناولت دراسات عديدة، تقديرات استهلاك الكهرباء لنحو 5 شركات تقنية كبرى، وهي جوجل، ومايكروسوفت، وميتا، وآبل، وإنفيديا، ووجدت أن جوجل تتصدر هذه الشركات باستهلاك سنوي للطاقة يبلغ 25 تيراواط في الساعة (تُعادل استهلاك 2.3 مليون منزل أمريكي من الكهرباء)، تليها مايكروسوفت بفارق ضئيل باستهلاك 23 تيراواط في الساعة (تكفي لتغذية 48 منتزهًا من منتزهات ديزني لاند باريس لمدة عام كامل)، وميتا باستهلاك 15 تيراواط في الساعة، ورغم أن آبل وإنفيديا تستهلكان أقل، إلا أنهما تُسهمان بشكلٍ كبير، باستهلاك 3.5 تيراواط في ساعة، و0.6 تيراواط في الساعة على التوالي، وهو ما يبرز الضغط المتزايد على موارد الطاقة العالمية من قبل هذه الشركات.

ويمكن القول بأن تقنيات الذكاء الاصطناعي ليست مجرد مُستهلك للكهرباء، بل هي أيضًا مستهلك رئيس للمياه، حيث تعتمد مراكز البيانات بشكلٍ كبير على المياه في أنظمة التبريد لمنع ارتفاع درجة الحرارة، فبحسب دراسة المعهد السويسري لتطوير الإدارة يصل استهلاك جوجل السنوي من المياه إلى 24 مليون متر مكعب، يكفي لملء أكثر من 9618 حمام سباحة أولمبي، أو 120 مليون حوض استحمام، وهو ما يكفي تقريبًا لجميع سكان اليابان، بينما تستهلك مايكروسوفت 7.8 مليون متر مكعب وهو ما يكفي لملئ  9000 طائرة بوينج من طراز ” 747-400″، تليها آبل (6.1 مليون متر مكعب)، ثم ميتا (3 ملايين متر مكعب)، ثم إنفيديا (134 ألف متر مكعب).

استهلاك شرس للطاقة

وفي هذا السياق، ذكر أستاذ الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية في جامعة كولومبيا البريطانية، “هاميش فان دير”، أن الذكاء الاصطناعي أصبح بالفعل “العدو الحقيقي” للبيئة، مشيرًا إلى إعلان شركة ألفابت، الشركة الأم لجوجل مؤخرًا، أن انبعاثاتها من غازات الدفيئة ارتفعت بنسبة %48 منذ عام 2019م، وفي الوقت نفسه تقريبًا، أعلنت مايكروسوفت أن انبعاثاتها ارتفعت بنسبة %29 منذ عام 2020م، لافتًا إلى أن استعلام واحد على (Chat GPT) يستهلك ما يقارب من كهرباء مصباح واحد لمدة 20 دقيقة، كما يتطلب تصنيع رقاقة واحدة أكثر من 2200 جالون (8300 لتر) من الماء، كما تُصدر رقائق الذكاء الاصطناعي حرارة أعلى، مما يعني أن مراكز البيانات تحتاج إلى المزيد من المياه للحفاظ على برودة خوادمها ومرافقها.

وثمة توقعات بأن يسحب الذكاء الاصطناعي 6.6 مليار متر مكعب من المياه سنويًا على مستوى العالم، بحلول عام 2027م، وهذا يُعادل حوالي ستة أضعاف ما تسحبه الدنمارك، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة “كاليفورنيا ريفرسايد” الأمريكية.

وأضاف “دير”، أن الطلب الإجمالي على الطاقة في مراكز البيانات في الولايات المتحدة يبلغ مستوى مرتفعًا للغاية، لدرجة أن مايكروسوفت توصلت مؤخرًا إلى اتفاق لإعادة فتح جزيرة “ثري مايل”، موقع أسوأ حادث نووي في تاريخ أمريكا، مشيرًا إلى أن بعض التقديرات أشارت إلى أن الطلب الإجمالي على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية الأخرى سيشكل %20 من استهلاك الكهرباء العالمي بحلول عام 2030م.

ومن جانبه، قال الخبير في مجال الطاقة النظيفة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، “بول دين”، إن “للذكاء الاصطناعي رغبة هائلة، بل وشرسة، في الحصول على الطاقة”، مشيرًا إلى أن العديد من الشركات الكبرى تمتلك مراكز بيانات ضخمة جدًا لتشغيل خوارزميات الذكاء الاصطناعي الضخمة هذه”.

وتُقدّر شركة الخدمات المالية “جولدمان ساكس”، بأن ينمو الطلب على الطاقة في مراكز البيانات بنسبة %160 بحلول عام 2030م، بينما من المتوقع أن يرتفع استهلاك الكهرباء العالمي إلى حوالي %4 بحلول عام 2030م.

وأكد “دين”، أن مراكز البيانات بحاجة إلى مزيد من الوصول إلى الطاقة بسرعة، مضيفًا: “من المؤكد أن شركات الذكاء الاصطناعي ستتعاون بشكل جيد للغاية مع تقنيات مثل الطاقة الشمسية والبطاريات، ومن المحتمل أن ينجح ذلك في عديد من المناطق حول العالم، ولكن قد يستغرق بناؤه وقتًا أطول”، وأوضح أن المفاعلات المعيارية الصغيرة التي تستثمر فيها شركات مثل مايكروسوفت لتوفير الطاقة لمراكز البيانات لا تزال بعيدة كل البعد عن الجدوى التجارية، لكن في الولايات المتحدة حاليًا، هناك اهتمام كبير بدمج الذكاء الاصطناعي مع الغاز الرخيص، والذي يمكن بناؤه بسرعة، وهذا هو الحال في أحد مراكز بيانات “ستارجيت” في تكساس، لكن حرق الوقود التقليدي، مثل الغاز، يُسهم أيضًا في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تُسبب ارتفاع درجة حرارة الكوكب.

وأشار الخبير الأمريكي، إلى أن إحدى الطرق الرئيسة لتقليل التأثير البيئي لمراكز البيانات هي جعل الطاقة التي يستخدمونها أنظف وأكثر كفاءة، وهذا يعني بناء مزيد من مصادر الطاقة المتجددة المزودة ببطاريات لتشغيلها، أو تحديد مواقعها وفقًا لتوافر إمدادات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ويمكن لهذه المراكز أيضًا العمل في ساعات النهار فقط للاستفادة من طاقة الشمس، لأن هذا الجانب من التكنولوجيا لا يتأثر بالوقت، ولكن عندما يتعلق الأمر بالأشخاص الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي، فإن الطاقة ضرورية على مدار الساعة.

عدو أم حليف للمخاوف البيئية

ومع توقعات بأن ينمو الذكاء الاصطناعي بنسبة %40-30 سنويًا خلال العقد المقبل، من الواضح أن هذه التكنولوجيا باقية وستزداد انتشارًا، وكذلك تأثيرًا هائلًا على البيئة، وقدَّرت دراسة أجرتها جامعة “تشجيانغ” الصينية، أن يصل إجمالي البصمة الكربونية المُتوقعة من أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى 102.6 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنويًا، وهو ما يُعادل انبعاثات 22 مليون شخص على مدار عام.

وأشار مختصون إلى الضرر البيئي واسع النطاق، فمن الأجهزة التي تُشغّل الذكاء الاصطناعي، إلى المعالجات المتخصصة والبنية التحتية لمراكز البيانات، كل هذه العناصر لها آثارها البيئية الخاصة، فمن استخراج الموارد إلى التخلص منها، تُفاقم دورة حياة أجهزة الذكاء الاصطناعي التلوث، وتدمير الموائل، وتفاقم مشكلة النفايات الإلكترونية.

وعلى الرغم من التقدم المحرز في مجال الطاقة المتجددة، لا يزال للذكاء الاصطناعي تأثير بيئي كبير نتيجة إنتاج الأجهزة، والذي يتطلب تعدينًا مكثفًا للطاقة وللمعادن الأرضية النادرة، فعلى سبيل المثال، بلغ حجم النفايات الإلكترونية العالمية 53.6 مليون طن متري عام 2020م، ولم يُعاد تدوير سوى %17.4 منها، وبينما يشمل هذا الرقم جميع النفايات الإلكترونية، تُسهم الأجهزة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في هذه المشكلة المُتفاقمة.

وثمة توقعات بأن يؤدي الاستخدام السريع لنماذج اللغات الكبيرة وحده (وهي أنظمة أكثر تطورًا لفهم وتوليد اللغة البشرية)، إلى إنتاج 2.5 مليون طن من النفايات الإلكترونية بحلول عام 2030م، إذ لا تقتصر هذه النفايات على الخوادم والأجهزة المستخدمة في تدريب ونشر هذه النماذج، بل تشمل أيضًا الأجهزة والبنية التحتية التي تعتمد عليها، مثل الهواتف الذكية ومكبرات الصوت الذكية وغيرها من أدوات الذكاء الاصطناعي.

من جانبه، تساءل الخبير الفرنسي في مجال التكنولوجيا، “جيسلان دي بييرفو”، “هل الذكاء الاصطناعي هو الحليف الذي لا مفر منه، أم العدو الذي لا يمكن إنكاره، لمخاوفنا البيئية”؟، ورد قائلاً: كثيرًا ما نقارن البيانات بالنفط، وثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي بثورة محركات الاحتراق الداخلي، وهذا صحيح تمامًا، بالنظر إلى القيمة التي تُنتجها بالفعل والتي تبشر بتوليدها مستقبلًا، لكن النتائج السلبية لهذه المقارنات مازالت حاضرةً وبقوة، ومنها على سبيل المثال، مشروع مركز بيانات ميتا في تالافيرا دي لا رينا بإسبانيا، والذي من المُقرر أن يستهلك 665 مليون لتر من المياه سنويًا في منطقة تعاني أصلًا من شُحّ مائي.

وأعربت مديرة الشؤون الرقمية في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، “جولستان رضوان”، عن قلقها بشأن البصمة البيئية للذكاء الاصطناعي، والتي تشمل التأثيرات المباشرة، بدءًا من استخراج المواد الخام، والعناصر الأرضية النادرة، والمعادن، للأجهزة المستخدمة في تصنيع أجهزة الذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى بناء وتشغيل مراكز البيانات، واستهلاك الطاقة، وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والمياه المستخدمة في التبريد، بالإضافة إلى النفايات الإلكترونية.

وأضافت أن معالجة تأثير الذكاء الاصطناعي البيئي تعد من أبرز القضايا المتعلقة بحوكمة الذكاء الاصطناعي، فبينما يُركز الاهتمام غالبًا على استهلاك الطاقة، وهو أمرٌ مُبرر، إلا أن سلسلة القيمة بأكملها تتطلب دراسةً مُعمّقة، مشيرةً إلى أنه تم إطلاق تحالفًا جديدًا من أجل الذكاء الاصطناعي المُستدام، يجمع أصحاب المصلحة عبر سلسلة قيمة الذكاء الاصطناعي وإطلاق مبادرات تعاونية طموحة.

ويمكن القول بأن مستقبل الذكاء الاصطناعي قد يأتي بثمن بيئي باهظ، لكن مع استمرار الاستثمار في مجال الطاقة المستدامة وتسريع جهود دمج الطاقة المتجددة، وتقنيات التبريد المتقدمة، وتحسين نماذج المحاكاة الذكية، فإن هذه الصناعة سيكون لديها القدرة على تحقيق التوازن بين الابتكار والمسؤولية البيئية.