الموظفين ثروات

الموظفون القدامى.. ثروة الشركات

الأصول البشرية الثمينة قد تتحول في بعض الأحيان إلى تحدٍ، خصوصًا عند ظهور فجوة بين جيل الموظفين ذوي الخبرة، وبين الكفاءات الشابة التي تسعى إلى إحداث تغيير يتماشى مع التحولات الحديثة.

أثبتت الدراسات أن الموظفين الأكبر سنًا قادرون على التكيف مع التكنولوجيا وتعلم مهارات جديدة، إذا ما تم توفير بيئة تدريبية مشجعة ومناسبة.

 

يشهد الاقتصاد العالمي اليوم تطورًا كبيرًا ومتسارعًا؛ ففي الثلاثة عقود الماضية أصبح تطور الأعمال وأنماطها الإدارية والتشغيلية في حالة تغييرات شبه دائمة، وأصبحت الشركات بخاصة الكبيرة منها على المحك في مسايرة هذه التطورات الخارجية، فضلاً عن تغيراتها الداخلية ذات الارتباط بإشكاليات الاستدامة، ما يجعلها أمام ضرورة الموازنة بين مواكبة المستجدات الطارئة على المشهد الاقتصادي العالمي، وبين تنمية عناصر ثروتها الحقيقية، والتي منها موظفوها الأوائل أو القدامى الذين شهدوا تأسيس الشركة وشاركوا في بنائها وأسهموا في نموها وازدهارها، وعادةً يكونون الأكثر ولاءً وانتماءً للشركة دون غيرهم، فقد قضوا فيها حياتهم الوظيفية وكبرت الشركة على أيديهم، وكذلك كبرت مكانتهم فيها، ويمتلكون قوةً وسلطةً كبيرة بداخلها ومعرفةً بكل تفاصيل الأعمال الدقيقة.

أصول بشرية ثمينة

وبشكل عام غالبًا ما تميل ثقافات العمل في الشركات إلى التركيز على القيم التي حددتها منذ نشأتها الأولى، وغالبًا ما تكون هذه القيم تقليدية، ويحركها التسلسل الهرمي، ومبنية على هدف مميز يوحد كل موظفي الشركة، ولا شيء يجمع الموظفين معًا ويزيد من ولائهم وانتمائهم مثل الهدف المشترك، ولهذا السبب تتمتع الشركات انطلاقًا من حزمة القيم بوجود مجموعة من الموظفين القدامى تترسخ بداخلهم قيم وثقافة الشركة التي كانت سببًا في انطلاقتها ونموها.

ويمتلك الموظفون القدامى، رصيدًا هائلاً من المعرفة العملية والتفاصيل الدقيقة حول الأعمال، فهم بمثابة عنصر ولاء واستقرار داخل المؤسسة، فهؤلاء الأفراد لا يُنظر إليهم فقط كمجرد موظفين، بل كشركاء في بناء الهوية والثقافة الداخلية للشركة، وهم غالبًا من الأكثر إخلاصًا والتزامًا بالقيم المؤسسية التي نشأوا معها.

ولكن هذه الأصول البشرية الثمينة قد تتحول في بعض الأحيان إلى تحدٍ، خصوصًا عند ظهور فجوة بين جيل الموظفين ذوي الخبرة وبين الكفاءات الشابة التي تسعى إلى إحداث تغيير يتماشى مع التحولات الحديثة، فغالبًا ما يكون هناك اختلاف واضح في أساليب التفكير، وأحيانًا مقاومة غير مباشرة من الموظفين القدامى تجاه تقنيات العمل الجديدة، أو حتى تجاه فكرة الانتقال الإداري إلى جيل جديد قد يُنظر إليه على أنه أقل خبرة أو نضجًا.

معرفة عميقة لا يمكن تعويضها بسهولة

ومع تطور أدوات العمل والاعتماد المتزايد على التقنية والبيانات، يواجه بعض الموظفين القدامى صعوبات في التكيف، خاصة إذا لم يتم توفير التدريب والدعم المناسب لهم. وقد تجد الشركات نفسها في موقف صعب: هل تواصل الاعتماد على الكفاءات التاريخية رغم تباطؤها في مواكبة الجديد، أم تُحدث تغييرات قد تُفهم على أنها إقصاء لتلك الخبرات؟

في بعض الحالات، تصبح أدوار الموظفين القدامى غير فعالة أو غير متماشية مع أهداف المرحلة الحالية، مما يثير تساؤلات داخل المؤسسة حول القيمة الفعلية لبعض المواقع الوظيفية القديمة، والعبء المالي والإداري المصاحب لها، ولكن هذه النظرة قد تكون قاصرة إذا ما تجاهلت الإمكانات الكبيرة التي تختزنها هذه الفئة من الموظفين.

والطريق الأمثل لا يكمن في الاستبعاد أو التقليل من شأن الموظفين ذوي الخبرة، بل في البحث عن آليات ذكية لإدماجهم ضمن الرؤية الحديثة للمؤسسة. فالمعرفة العميقة التي يمتلكونها لا يمكن تعويضها بسهولة، فهم ثروة الشركات الحقيقية.

ويتميّز الموظف القديم بخبرته الطويلة في بيئة العمل، ومعرفته العميقة بثقافة الشركة، ونظامها الداخلي، وطريقة التعامل مع التحديات. هذه الخبرة لا تأتي بسهولة، بل تُبنى عبر سنوات من التجربة والتعلّم، وهي ما يجعل الموظف القديم قادرًا على تقديم حلول عملية وسريعة للمشكلات، غالبًا دون الحاجة إلى تدريب أو إشراف كبير.

عنصر استقرار داخل الفريق

إضافة إلى ذلك، يشكّل الموظفون القدامى عنصر استقرار داخل الفريق. فهم غالبًا ما يكونون مرجعًا للموظفين الجدد، يوجهونهم ويدعمونهم في خطواتهم الأولى داخل المؤسسة. هذا النوع من الدعم الداخلي يُسهم في تعزيز روح الفريق وزيادة الكفاءة العامة.

ومن الجانب الإنساني، يُظهر الموظف الذي يبقى سنوات طويلة في الشركة نفسها ولاءً نادرًا، هذا الولاء لا يُقدَّر بثمن، لأنه يعكس ثقة متبادلة بين الموظف والشركة، ويؤسس لعلاقة عمل قوية ومستقرة يمكن البناء عليها لتحقيق النجاح المشترك.

ولكن لا يمكن تجاهل التحديات المحتملة. أحيانًا، قد يواجه الموظفون القدامى صعوبة في التكيّف مع التغييرات أو في تبنّي تقنيات جديدة، مما قد يخلق فجوة بينهم وبين الأجيال الشابة. وهنا يأتي دور الإدارة الذكية التي تعمل على تطوير مهارات هؤلاء الموظفين ومواكبتهم للتغييرات.

ويمكن أن تتحول إلى أداة دعم قوية إذا تم توظيفها بشكل استراتيجي، سواء من خلال التوجيه والإشراف، أو عبر إشراكهم في تطوير العمليات وتحسين الأداء.

إضافة إلى ذلك، أثبتت الدراسات أن الموظفين الأكبر سنًا قادرون على التكيف مع التكنولوجيا وتعلم مهارات جديدة، إذا ما تم توفير بيئة تدريبية مشجعة ومناسبة. كما أن وجودهم إلى جانب الموظفين الأصغر سنًا يعزز من قيمة التنوع العمري داخل بيئة العمل، ويخلق توازنًا صحيًا بين النضج المهني وروح الابتكار.

ثقافة مؤسسية تثمّن التجربة

ولضمان تحقيق أفضل استفادة من جميع الفئات داخل الشركة، يجب على الإدارات أن توازن بين تقدير تاريخ الموظفين القدامى، وبين أهمية التطوير المستمر. ومن المهم إدماجهم في الخطط التدريبية والتطويرية دون فرض أو تهميش، بل عبر نهج يركز على الشمولية وبناء الثقة المتبادلة.

فالمفتاح الحقيقي هو خلق ثقافة مؤسسية تثمّن التجربة وتحترم الطموح، وتشجع الجميع على التطور، سواء أكانوا في بداية مسيرتهم المهنية أو من أصحاب البصمة التاريخية في المؤسسة.

ويمكن القول إن الموظفين القدامى هم بالفعل ثروة حقيقية لأي شركة، إذا تم الاستثمار فيهم بشكل صحيح، وتوفير البيئة التي تدمج خبراتهم مع طاقة وأفكار الموظفين الجدد. فالشركات الناجحة هي تلك التي تعرف كيف توازن بين التجربة والابتكار، وتستثمر في رأس مالها البشري على المدى الطويل.

 

الموازنة بين الخبرة والتجديد

وثمة عديد من الآليات والأدوات التي تمكَّن الشركات من الموازنة بين الخبرة والتجديد، تبدأ بتقدير الخبرات وتكريم الإنجازات، وذلك من خلال الحرص على الاعتراف بدور الموظفين القدامى في مسيرة الشركة، سواء عبر تكريم رسمي، أو تسليط الضوء على قصصهم في منصات الشركة الداخلية، مما يعزز من شعورهم بالانتماء والتقدير، مرورًا بتصميم برامج تدريب مخصصة تقنية ومهنية تراعي مستويات الموظفين القدامى وتُقدَّم بأسلوب عملي وتدريجي، مع التركيز على الجوانب التي تعزز إسهاماتهم في التحول المؤسسي، والعمل على إشراكهم في التوجيه والتدريب الداخلي، وذلك بتعيينهم كموجهين أو مدربين داخليين للكوادر الشابة، مما يخلق حلقة تبادل معرفي ويمنحهم دورًا فاعلاً في تطوير المواهب الجديدة.

وكذلك العمل على دمجهم في الخطط الاستراتيجية أو تطوير الأنظمة، بإشراك الموظفين القدامى في الحوارات وصنع القرار، ما يضمن انتقال المعرفة ويخفف من مقاومة التغيير.

وأخيرًا العمل على إعادة هيكلة الأدوار بدلاً من الاستبعاد والاستغناء؛ إذ يمكن إعادة توزيع الأدوار بما يتناسب مع خبراتهم الحالية، كإسناد مهام إشرافية أو استشارية لهم ضمن فرق العمل، والترويج لبيئة تحترم جميع الأعمار، وتُشجع التعاون بين الأجيال المختلفة من خلال ورش العمل المشتركة، والمشاريع العابرة للفِرق، ووضع سياسات واضحة للتطوير الوظيفي المستمر، بأن تكون فرص التعلم والنمو متاحة لجميع الموظفين، بغض النظر عن أعمارهم أو سنوات خدمتهم، مما يُرسّخ مبدأ أن التطوير مسؤولية مستمرة لا تتوقف عند حد معين.