زيادة حادة في الإنفاق المرتبط بالذكاء الاصطناعي في القطاع المالي بلغ 1.4 مليار دولار في 2024م.
18.9 مليـــار دولار قيمـــة الســوق العالميــــة للذكـــــاء الاصطناعــــي التوليـدي في الخدمـــات الماليــة بحـلول 2030م.
قبل قرنٍ من الزمان، برر “ويلي ساتون”، أحد أشهر لصوص البنوك في الولايات المتحدة قيامه بذلك “لأن الأموال موجودة هناك”، لكن اليوم، ومع صعود الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، والمعاملات الرقمية، والنقود الإلكترونية، يستخدم المحتالون وسائل مبتكرة منها رسائل التصيد الاحتيالي، وعمليات الاختراق، والهويات المزيفة، واستجابةً لهذا العصر الجديد من السرقة، تستخدم المؤسسات المالية برامج الذكاء الاصطناعي المُصممة للكشف عن عمليات الاحتيال، والنصب، وردعها وإيقافها.
مواجهة عمليات الاحتيال الإلكتروني ليست هي الدافع الوحيد للانتشار الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي في القطاع المالي العالمي، بل يمكن القول إن هذه الأدوات التقنية الفائقة، أحدثت بالفعل ثورة رقمية هائلة، غيرت بدورها الآفاق التشغيلية والاستراتيجية لهذا القطاع، بالنظر إلى قدرة هذه التقنيات على ابتكار وسائل وأدوات جديدة.
ثورة الذكاء الاصطناعي
ووصف الخبير في شركة “إرنست ويونغ” البريطانية للخدمات المالية، “كوستيس كلوفيراكيس”، تطور الذكاء الاصطناعي في القطاع المالي بـ “الثوري”، خاصةً مع الانتقال إلى تطبيقات مبتكرة، تتضمن على سبيل المثال، الخدمات المصرفية وأبحاث ودراسات الاستثمار وإدارة المعرفة الآلية، حيث يُبرز كل منها التقدم الملحوظ والإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن البنوك الكبرى تستثمر مليارات الدولارات في هذه التطبيقات، في إطار مساعيها المتواصلة لتعزيز الشفافية وقيادة الابتكار وتنمية المواهب.
وأضاف الخبير البريطاني، أن الاستراتيجيات الاستثمارية لهذه البنوك تضم حاليًا مجموعةً واسعةً من التطبيقات، بما في ذلك تحسين آليات كشف الاحتيال وروبوتات الدردشة لخدمة العملاء، وينصب تركيزها على اقتناء أجهزة بالغة الأهمية، مثل شرائح “إنفيديا” لعمليات الذكاء الاصطناعي، والاستثمار بشكلٍ استراتيجي في الموارد البشرية والتكنولوجية.
وفي السياق نفسه، أوضح الخبير في شركة “آي بي إم جلوبال” الأمريكية للاستشارات، “ماثيو فينيو”، أن الثورة التي يحدثها الذكاء الاصطناعي في طريقة عمل المؤسسات المالية والشركات الناشئة، لا يمكن إنكارها، حيث تُنفذ نماذج الذكاء الاصطناعي الصفقات بسرعة ودقة غير مسبوقتين، مستفيدةً من بيانات السوق للقيام بتحليلات أدق وأعمق لتحديد اتجاهات الاستثمار.
وأشار إلى أنه من خلال تحليل الأنماط المُعقدة في مجموعات بيانات المعاملات، تساعد حلول الذكاء الاصطناعي، المؤسسات المالية على تحسين إدارة المخاطر، والتي تشمل الأمن ومنع الهجمات الإلكترونية، والاحتيال، ومكافحة غسيل الأموال، ومعرفة العميل، ومبادرات الامتثال، لافتًا إلى أن الذكاء الاصطناعي يُغيّر كذلك طريقة تفاعل المؤسسات المالية مع عملائها، حيث يتنبأ بسلوكهم ويفهم تفضيلاتهم الشرائية، وهذا يُتيح دعمًا أسرع وأكثر دقة للعملاء، وتحسينات في عمليات تقييم الائتمان، وتقديم منتجات وخدمات مبتكرة.
انتشار واسع
ويتجه العديد من الشركات العالمية والبنوك الكبرى إلى التوسع في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، والاستفادة منها في تقديم خدمات مالية مبتكرة ودقيقة، حيث تُدرك هذه المؤسسات أن التميز يتطلب وجود أسس تكنولوجية قوية، حيث أشارت تقديرات إلى زيادة حادة في الإنفاق المرتبط بالذكاء الاصطناعي في القطاع المالي، وصل إلى أكثر من 1.4 مليار دولار عام 2024م، بمعدل نمو سنوي مركب بلغ %30.7 مقارنةً بعام 2023م.
ففي شركة “فيزا” الأمريكية الرائدة في مجال المدفوعات الرقمية، على سبيل المثال، يتجلى التطور التقني، في دمج مئات نماذج الذكاء الاصطناعي، حيث تُعالج هذه النماذج ما يقرب من 300 مليار معاملة سنويًا، وتقوم بتحليل أكثر من 500 سمة مختلفة لكل معاملة لتوليد درجات المخاطر، كما تُشغّل هذه النماذج أكثر من 100 منتج، مُقدمةً قيمة تجارية حقيقية في جميع أنحاء المؤسسة، وذكر كبير مسؤولي المعلومات في “فيزا”، “دون هوبسون”، “مع تطلعنا للمستقبل، يُمكن لجيل الذكاء الاصطناعي معالجة كميات هائلة من البيانات، وتحسين نماذج مكافحة الاحتيال لدينا بشكلٍ كبير”.
وبلغت قيمة استثمارات “فيزا” في الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للبيانات على مدار العقد الماضي، حوالي 3 مليارات دولار، وهو ما يعكس رغبتها في قيادة الذكاء الاصطناعي، كما أطلقت في أكتوبر 2023م، صندوقًا بقيمة 100 مليون دولار للشركات الناشئة المُولّدة للذكاء الاصطناعي، وحققت الشركة نقلة نوعية في أمن المدفوعات من خلال الذكاء الاصطناعي، حيث تمنع حلولها عمليات احتيال بقيمة 40 مليار دولار سنويًا.
وأظهرت دراسة أجراها بنك إنجلترا وهيئة السلوك المالي، حول استخدام الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية في المملكة المتحدة عام 2024م، أن %75 من الشركات تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي بالفعل، مع تخطيط %10 أخرى لاستخدامه خلال السنوات الثلاث المقبلة، مشيرةً إلى أن الكفاءة التشغيلية، والإنتاجية، والتكلفة، هي أبرز المكاسب المستقبلية المستهدفة من استخدام هذه النماذج.
وثمة تقديرات بنمو السوق العالمية للذكاء الاصطناعي التوليدي في الخدمات المالية بنسبة %38.7، من 2.7 مليار دولار عام 2024م، إلى 18.9 مليار دولار بحلول عام 2030م، مدفوعًا بمجموعة من العوامل، أبرزها التطورات التكنولوجية والمتطلبات التشغيلية وتفضيلات المستهلكين المتغيرة، والتعقيد المتزايد للأسواق المالية، والذي يتطلب أدوات متطورة قادرة على تحليل كميات هائلة من البيانات واستخلاص توجهات عملية أكثر دقة، وتزايد الطلب على الحلول المالية الشخصية، مثل خطط الاستثمار ومنتجات القروض، كما تسهم ضغوط الامتثال التنظيمي في تسريع اعتماد الذكاء الاصطناعي، حيث تسعى المؤسسات إلى أتمتة إجراءات الامتثال وتحسين دقتها لتلبية المعايير القانونية الصارمة، فضلًا عن صعود الخدمات المصرفية الرقمية، المدعومة بمنصات الهاتف المحمول وابتكارات التكنولوجيا المالية.
أبرز التطبيقات
ويتم استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير حلول مبتكرة تُعالج العوائق التقليدية للوصول إلى الخدمات المالية، مما يسمح لمزيد من الأفراد والشركات الصغيرة بالمشاركة في النظام المالي الرسمي، ومن أبرز هذه التطبيقات، التقييم الائتماني البديل، من خلال استخدام بيانات غير تقليدية، مثل سلوك الشراء وسجل دفع فواتير الخدمات، لتقييم قدرة من لا يملكون سجلًا ائتمانيًا رسميًا على الدفع خوارزميًا، والمدفوعات الرقمية، من خلال منصات مدعومة بالذكاء الاصطناعي تُقدم معاملات سريعة وآمنة، مما يُقلل من الاعتماد على النقد، بالإضافة إلى المنتجات المالية الشاملة، حيث يتم تصميم منتجات مالية مُخصصة وسهلة الوصول، تُقيّم تفضيلات المستخدم واحتياجاته بدقة أكبر، وتُعالج المطالبات بسرعة وكفاءة، فضلًا عن الاستشارات المالية الآلية، حيث تقدم روبوتات الدردشة والمساعدون الافتراضيون إرشادات مالية مُخصصة وسهلة الوصول، والتثقيف المالي، من خلال أدوات تفاعلية تُعلّم الإدارة المالية والادخار والاستثمار، ومنع الاحتيال، حيث التحليل الفوري لأمن المعاملات المالية من خلال الكشف عن الاحتيال ومنعه، وحماية المستخدمين، وزيادة الثقة في الخدمات المالية الرقمية، وإدارة المخاطر، باستخدام التحليلات التنبؤية لتحديد أنماط سلوك المستخدمين والحد من المخاطر بفعالية أكبر، وتطوير الحلول التكنولوجية الحكومية.
ومن بين أبرز التطبيقات الرئيسة للذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية، تحسين تفاعل الحكومة مع المواطنين من خلال برامج الدردشة الآلية، وتحليل المشاعر، وغيرها من الأدوات، مما يعزز حماية المستهلك والشفافية المالية، وكذا الحلول التنظيمية، وتحسين الامتثال التنظيمي للمؤسسات المالية من خلال استخدام معالجة اللغة البشرية، وتحليلات البيانات، والتعلم الآلي، وتعزيز كشف الاحتيال، وتحسين الموارد، علاوةً على دعم حلول التكنولوجيا الإشرافية، ودعم المشرفين والهيئات التنظيمية المالية بالبيانات الضخمة، والتعلم الآلي، وتقنية البلوك تشين، لرصد وتحليل وتقييم أداء النظام المالي ومخاطره بفعالية أكبر.
التحديات والفرص
ويمر قطاع الخدمات المالية بمرحلة حرجة، إذ يواجه ضغوطًا متزايدة لتبني تقنيات متطورة للحفاظ على تنافسيته وملاءمته، وتتسارع وتيرة تبني شركات الخدمات المالية والتكنولوجيا المالية لتطورات الذكاء الاصطناعي، لا سيما نماذج اللغات الكبيرة والتوليد المُعزز بالاسترجاع، لدفع عجلة الابتكار وتحسين تجارب العملاء، ومع ذلك، تصاحب هذه الفرص مخاطر كبيرة، أبرزها أمن ومرونة أنظمة الذكاء الاصطناعي، لذا فإن هذه الشركات بحاجة أكبر إلى وضع تدابير أمنية سيبرانية فعّالة واستراتيجيات إدارة مخاطر الذكاء الاصطناعي.
وتكشف الطبيعة المترابطة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، إلى جانب التعقيد المتزايد للبنية التحتية للتكنولوجيا المالية، عن نقاط ضعف يُمكن لمجرمي الإنترنت استغلالها، إذ يُعدّ ضمان سرية وسلامة وتوافر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدية أمرًا بالغ الأهمية، وتُمثّل هذه التطبيقات – بدءًا من المنصات نفسها ووصولًا إلى نماذج التعلم الآلي، وموارد السحابة، وسلامة البيانات – نواقل جديدة للهجمات السيبرانية.
وتتضمن إحدى الاستراتيجيات الرئيسة لدمجه بشكل آمن، إنشاء هيئة تنظيمية مُتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي تتمتع برؤية واستراتيجية واضحتين، إذ تُسهم هذه الهيئة في إحداث تغييرات هيكلية تنظيمية ضرورية للنشر الآمن لتقنيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ذلك، يُعدّ اعتماد تقنيات المنصات التي تدعم شبكة الأمن السيبراني، وهياكل “الثقة الصفرية أمرًا بالغ الأهمية لضمان مرونة أنظمة الذكاء الاصطناعي في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.
وبالإضافة إلى ضمان الأمن السيبراني، يلفت الخبير التقني في شركة “سيلز فورس” للبرمجيات السحابية الأمريكية، “ساراث بابو يالافارثي”، النظر إلى مجالات أخرى تعد أكثر إثارة للقلق، فيما يتعلق بالاعتماد الواسع النطاق للذكاء الاصطناعي، منها التحيز الخوارزمي، حيث يُعد ضمان العدالة وعدم التمييز في نماذج الذكاء الاصطناعي أمرًا بالغ الأهمية لكسب الثقة، ولهذا السبب، لا تزال الرقابة البشرية ضرورية، فالتنفيذ السليم يعتمد عليها، فضلًا عن ضرورة تطوير مهارات الموظفين، لضمان استخدامهم للأدوات المتطورة بمسؤولية وبشكلٍ صحيح، وكذلك الامتثال التنظيمي، حيث لم تضع معظم الحكومات لوائح تنظيمية واضحة حتى الآن، لذا ينبغي على المؤسسات المالية أن تكون مستعدة للتكيف مع اللوائح الحكومية المستقبلية، وأضاف أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُحدث تغييرًا جذريًا في القطاع المالي، إذا تمت مواجهة هذه التحديات بشكلٍ مناسب واستخدمنا الذكاء الاصطناعي بمسؤولية، في هذه الحالة، يُمكن للمؤسسات المالية أن تقودنا نحو مستقبلٍ من الكفاءة والابتكار ورضا العملاء.