الاستراتيجيات القائمة تسعى إلى مساهمة القطاع الثقافي بنحو 23 مليار دولار، أو ما يعادل %3 من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030م.
بلغت الزيادة في عدد زوار متاحف المملكة إلى حوالي %18.5، وهو ما يؤكد مكانة القطاع بشكل عام كأداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
زيادة عدد المواقع الأثرية المسجَّلة في جميع مناطق المملكة إلى 8,917، وحوالي 3,646 موقعًا للتراث العمراني، وحوالي 150 حرفة يدوية.
تحتفي المملكة في 18 أبريل من كل عام باليوم العالمي للتراث، إدراكًا منها لأهمية وقيمة التراث الإنساني المشترك، وتأكيدًا على سعيها لتنفيذ مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للثقافة، وماتتضمنه من الحفاظ على التراث تحقيقًا لأهداف رؤية 2030.
وتُعد المملكة واحدة من البلدان المتميزة تراثيًا وثقافيًا عبر التاريخ؛ إذ تمتد جذور حضارتها إلى آلاف السنين، وهي ملتقى عديد من الحضارات ولديها ثروة ضخمة من الموروث الثقافي المتميز، الأمر الذي يُبرز أهمية الحفاظ على هذا المخزون من التراث وتنميته ثقافيًا، والاستفادة منه اقتصاديًا.
وأمام ما تشهده المملكة من تحولات كبرى في مختلف القطاعات الاقتصادية، يأتي قطاع التراث كأحد أهم القطاعات الواعدة التي تتيح فرصًا استثمارية كبيرة؛ إذ يتميز تراث المملكة بتنوعه الغني، حيث يشمل المواقع الأثرية، العمارة التقليدية، الصناعات اليدوية، الفنون الشعبية، والموروث الثقافي، الذي يمتد لآلاف السنين، ومع تزايد الاهتمام بالسياحة التراثية والثقافية، أصبح هذا القطاع جاذبًا للاستثمار باستغلال فرصه الناشئة.
ركيزة أساسية للهوية الوطنية
ويعد التراث أحد الركائز الأساسية للهوية الوطنية، كما أنه يسهم في تعزيز الاقتصاد من خلال جذب السياح وتوفير فرص عمل جديدة، ووفقًا للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني (والتي أصبحت الآن جزءًا من وزارة السياحة)، فإن المملكة تضم أكثر من 10,000 موقع أثري، بعضها مدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي مثل: مدينة الحجر (مدائن صالح)، وحي الطريف في الدرعية، ومنطقة جدة التاريخية، وهذه المواقع تشكل أساسًا قويًا لاستثمارات متنوعة في مجال السياحة الثقافية، الفنادق التراثية، المطاعم، والمتاحف.
ويُقصد بالتراث العمراني “الجانب المادي من التراث الحضاري”، وهو بمثابة ذاكرة الأمة وسجل أحداثها التاريخية وظروفها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية، وهو ما يعكس التفاعل للإنسان مع البيئة المحيطة، ويتضمن قطاع التراث، المدن التراثية والمراكز التاريخية والمتاحف وأيضًا الأزياء التراثية، التي تعبر عن الهوية الوطنية والموروث الثقافي، كما يتضمن المنتجات التقليدية والحرف اليدوية، وهي الحرف، التي كانت مصدرًا للرزق والدخل للمواطنين في الماضي.
وقد سجّلت المملكة، على المستوى العالمي عددًا من عناصر التراث الثقافي غير المادي، بدأت بحداء الإبل، وهو تقليد شفهي للنداء على قطعان الإبل، إلى زراعة البنّ الخولاني، وكذلك الخطّ العربي، وغيرها.
إحياء الهوية الثقافية والتراث الثقافي
وفي إطار مستهدفات رؤية 2030 وسعيها لتنويع الاقتصاد وتحسين جودة الحياة، حرصت المملكة على تعزيز إحياء الهوية الثقافية والتراث الثقافي، وقد حددت الرؤية أهدافًا والتزامات ترتبط بالعناية بالتراث الثقافي، وتؤكد على أهمية دعم سياحة الآثار، والتوسع في إنشاء المتاحف، وتهيئة المواقع السياحية والتاريخية والثقافية، وتنظيم زيارتها، وما يتضمنه من مسارات، ومن أهمها: مسار العناية بمواقع التاريخ الإسلامي، ومسار تأهيل المواقع الأثرية والتراثية، وإنشاء وتطوير منظومة المتاحف بما فيها مشروع تطوير المتحف الوطني، ومتاحف المناطق.
ووفقًا لمستهدفات المملكة، فإن الاستراتيجيات القائمة تسعى لتوفير أكثر من 100 ألف وظيفة في القطاع الثقافي بحلول عام 2030م، والمساهمة بنحو 23 مليار دولار أو ما يعادل %3 من الناتج المحلي الإجمالي في 2030م.
وقد شهدت المملكة بالفعل مساهمة القطاع الثقافي في الاقتصاد السعودي نموًا تجاوز الـ %20، بعد التعافي من آثار جائحة كورونا، وبلغت مساهمة الثقافة نحو 35 مليار ريال، أي ما يعادل %1.49 من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، لتقترب بذلك من مستويات ما قبل الجائحة، كما بلغت الزيادة في عدد زوار المتاحف حوالي %18.5، وهو ما يؤكد مكانة القطاع الثقافي بشكل عام كأداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
اكتشافات ثمينة وآلاف المواقع الأثرية
وشهد قطاع التراث في المملكة عددًا من المحطات والخطوات المحورية، خلال العشر سنوات الماضية، وتم بذل عديد من الجهود الرائدة لصون التراث ومشاريع التنقيب في المملكة، والتي أثمرت عن اكتشافات ثمينة وآلاف المواقع الأثرية المسجَّلة ومواقع التراث العمراني، وتضافرت هذه الجهود للحفاظ على استدامة هذا التراث، من خلال عدد من المحطات المهمة؛ ففي عام 2018م تأسست وزارة الثقافة السعودية لتأخذ على عاتقها مهمة الحفاظ على التراث السعودي والتعريف بالتقاليد العريقة للمملكة، عبر تطوير 16 قطاعًا ثقافيًا، من بينها المتاحف، والتّراث الطبيعي، والفنون الأدائية، والفعاليات الثقافية، وغيرها.
وأطلقت وزارة الثقافة مشروع الخطة الوطنية لجمع وتوثيق وأرشفة وإدارة أصول وعناصر التراث الثقافي، كمبادرةٍ وطنية ضمن مركز ذاكرة الثقافة السعودية، وجاء إطلاق وزارة الثقافة لهيئة مختصة بالتراث للتأكيد على أهمية المحافظة على التراث الوطني بمختلف أنواعه، فضلاً عن دور الهيئة في تشجيع التمويل والاستثمار في المجالات ذات العلاقة باختصاصات الهيئة وتقديم الدورات التدريبية والبرامج المهنية ودعم حماية حقوق الملكية الفكرية في قطاع التراث، وفي 2019م أُطلقت الاستراتيجية الوطنية للثقافة لتضع ثلاثة أهداف رئيسة، متمثلة في تعزيز دور الثقافة في المجتمع، وتطوير المواقع الثقافية واستثمارها كمحرك للنمو الاقتصادي، إضافة إلى توفير فرص للتبادل الثقافي الدولي، وفي العام نفسه تم إطلاق برنامج التراث الصناعي السعودي، والذي دشَّن شبكة خاصة بحفظ التراث الصناعي، عبر توثيق تأثير المنشآت الصناعية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
جهود تؤكد مكانة المواقع التراثية بالمملكة
وتتويجًا للجهود المبذولة لتأكيد مكانة المواقع التراثية بالمملكة، احتضنت الرياض في سبتمبر 2023م، أعمال الدورة الموسَّعة الـ 45 للجنة التراث العالمي التابعة لليونيسكو بحضور نحو 3 آلاف ضيف من 21 دولة، ونتج عن هذه الجهود والاهتمام المتزايد زيادة عدد المواقع الأثرية المسجَّلة في جميع مناطق المملكة إلى 8,917، وحوالي 3,646 موقعًا للتراث العمراني، وحوالي 150 حرفة يدوية وأكثر من 5,393 حرفيًا مسجَّلاً في السجل الوطني للحرف اليدوية.
وفيما أدرجت المملكة أكثر من 2,700 موقع تاريخي في السجل الوطني للتراث العمراني، فقد أثمرت الجهود المبذولة للحفاظ على التراث عن تضمين لائحة التراث العالمي التابعة لمنظّمة “اليونيسكو” نحو 7 مواقع وهي وادي الحجر؛ وحيّ الطريف التاريخي، ومنطقة جدة التاريخية؛ والفن الصخري في مواقع جبة وراطا والمنجور (الشويمس) بمنطقة حائل، وواحة الأحساء؛ وأكبر مجمّعات الفنّ الصخري في منطقة حما الثقافية، ومحمية حرة عويرض.
ومن المشروعات الضخمة مشروع “سياحة التراث”، الذي يرتكز على تطوير مسارات سياحية تركز على التراث والثقافة، مثل: مسار درب زبيدة، الذي يربط بين المواقع التاريخية والثقافية في المنطقة ويتيح للزوار استكشاف المعالم التاريخية والمواقع الأثرية.
وتسعى الدولة أيضًا إلى ترميم المواقع التاريخية والأثرية، مثل: مدائن صالح والدرعية، إذ يسهم إعادة إحياء تلك المواقع التاريخية في زيادة الوعي بقيمة التراث، والإسهام في استكشاف تاريخ المملكة وثقافتها، كما تقوم الحكومة بتنفيذ برامج تعليمية وورش عمل ومحاضرات ومعارض لتعزيز الوعي بالتراث الثقافي.
وجدير بالذكر، إنه مع فتح المملكة أبوابها للسياح العالميين عبر تأشيرة السياحة، زاد الإقبال على زيارة المواقع التاريخية، ويمكن للمستثمرين الاستفادة من هذا التوجه عبر إنشاء شركات سياحية متخصصة في الجولات التراثية، وتطوير برامج سياحية تشمل زيارات للمواقع الأثرية مع عروض تفاعلية، واستثمار الواقع الافتراضي لتجسيد التاريخ الوطني بشكل حديث.
منجم ذهب للمستثمرين ورواد الأعمال
وأيضًا مع ما تحظى به المنشآت السياحية ذات الطابع التراثي من إقبال كبير، يمكن تحويل القصور والمنازل القديمة إلى فنادق فاخرة تحافظ على الطابع التقليدي مع توفير خدمات عصرية، ومن الأمثلة الناجحة، فنادق بيوت الدرعية التي تجمع بين الأصالة والرفاهية، ومنتجعات العلا التراثية التي تستقطب السياح الراغبين في تجربة فريدة، فضلاً عن فرص الصناعات والحرف اليدوية، مثل: صناعة الفخار، النقش على الخشب، النسيج والسدو كالذي في نجد، إذ يمكن لرواد الأعمال استثمار هذه الحرف عبر، إنشاء مراكز تدريب للحرفيين، تطوير منصات إلكترونية لبيع المنتجات التراثية عالميًا دمج الحرف اليدوية في التصاميم العصرية لتوسيع نطاق التسويق.
ومع سعى المملكة إلى تطوير المتاحف لتصبح أكثر جذبًا للزوار، تكون الفرصة واسعة أمام فتح المجال أمام: إنشاء متاحف خاصة تعرض قطعًا أثرية أو تراثية، وتصميم معارض مؤقتة حول تاريخ المناطق باستخدام التقنيات الحديثة، مثل الواقع: المعزز في العرض المتحفي، وكذلك يزداد الطلب بالتأكيد مع نمو الاهتمام التراثي على المطاعم التي تقدم الأكلات الشعبية في أجواء تراثية، إذ يمكن للمستثمرين الاستفادة من هذا الاتجاه عبر افتتاح سلسلة مطاعم تراثية في المدن السياحية.
ولكن كيف يستفيد رجال الأعمال من تطور قطاع التراث؟ إذ يمكن أولاً الاستفادة من الدعم الحكومي لاسيما مع تقديم الدولة تسهيلات تمويلية وإجرائية للمشاريع التراثية عبر برامج مثل “برنامج جودة الحياة”، وثانيًا الشراكات مع الجهات الثقافية من خلال التعاون مع الهيئة الملكية للعلا أو الهيئة العامة للتراث ما يضمن الوصول إلى المواقع التاريخية بسهولة، وثالثًا الابتكار في العرض التراثي بدمج التكنولوجيا مع التراث ما يجذب الشباب والسياح الأجانب، ورابعًا التسويق العالمي، بالترويج للمنتجات والخدمات التراثية عبر منصات السياحة الدولية.
وأخيرًا يُعد قطاع التراث في المملكة منجم ذهب للمستثمرين ورواد الأعمال، حيث يوفر فرصًا متنوعة في السياحة، الضيافة، الحرف اليدوية، والفعاليات الثقافية، ومع الدعم الحكومي الكبير وزيادة الاهتمام العالمي بالتراث الوطني، أصبح الاستثمار في هذا القطاع خيارًا قويًا يسهم في التنمية الاقتصادية ويعزز الهوية الوطنية، فبالتخطيط الجيد والابتكار، يمكن تحويل التراث من إرث تاريخي إلى مصدر دخل مستدام، مما يعكس رؤية المملكة 2030 في تعزيز مكانتها كوجهة ثقافية واقتصادية رائدة عالميًا.