هو ابن تهامة عسير، الذي أثبت تفوقاً في طفولته شهد به الجميع، وهو التفوق الذي أثار إعجابَ زملاء الطفولة، كما استفزّ حسدَ مبغضيه. أحبَّ النظام والانضباط وخدمة الناس فأحب «العسكرية»، واستحوذت الخطابة على لسانه وعقله وقلبه، فأحبّ الشعرَ والكتابة والأدب. وفي كلا الميدانين كان فارساً. التحق بمدرسة «الشرطة»، وتخرج فيها، وعندما وصل إلى رتبة المقدّم، ابتُعِثَ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وحصل من إحدى جامعاتها على الماجستير في إدارة الشرطة التي ترقَّى فيها حتى نال رتبة «الفريق»، وتولى عدداً من أهم مناصبها، كان آخرها مساعد مدير الأمن العام. وعندما تقاعد من عمله، ذهب إلى ميدانه «الثاني» شاعراً وأديباً، ونال تقديراً محلياً وخليجياً وعربياً، ورشّحته أعماله لعضوية «مجمع اللغة العربية» بالقاهرة، كما بلغت نجاحاته الآفاق الدولية. إنه يحيى عبدالله المعلمي، قصة نجاح، وهنا ملامح ومحطات من مشوار حياته.
أنشأ «النجدة» وتبنّى تحديث نظم المرور تحت إدارة واحدة في أداء يُواكب نهضة المملكة
حالة خاصة وتجربة فريدة برزت فيها ملامح النجاح، أنتجت شخصية أدبية وإدارية وعسكرية. فهو قامة عسكرية مميزة، وشخصية أدبية يشار إليها بالبنان. زاحم الأدباء بحضوره اللافت، وتفوق عليهم في أحيان كثيرة، بسبب نشأته العلمية الأدبية التي تشرَّبها منذ نعومة أظافره. الفريق يحيى المعلمي اسم كبير في عالم الثقافة والأدب والعمل العسكري، فقد استطاع أن يوفق بين سلاسة الأدب والصلابة العسكرية بكل اقتدار ونجاح، ففي المحافل الأدبية أبدع ونافس كبار الأدباء العرب، وفي المجال الأمني سجل حضوراً ونجاحاً كبيراً بقيادته ومقترحاته وآرائه السديدة، حتى أصبح من المشهود لهم في القيادة الأمنية، من خلال بصماته العملية المميزة.
المولد والنشأة
ولد يحيى المعلمي في قرية ميادي بقنا والبحر في تهامة عسير عام 1347هـ. عاش في كنف عمه محمد بعد أن قُتل والده عبدالله الذي كان عاملاً للإمام الإدريسي على بعض مناطق المخلاف السليماني الخاضعة لحكمه آنذاك، فولاه إمارة قنا والبحر بتهامة عسير، فساس أمورها وضبط الزكاة فيها، ثم نقله أميراً على «أبو عريش» ولما كان حازماً شديد البأس مطبقاً لأحكام الله في العابثين والمفسدين، تربصوا له وقتلوه، الأمر الذي جعله وأخاه محمد يعيشان في كنف عمهما القاضي محمد بن عبدالرحيم المعلمي. ويقول الفريق المعلمي في ذكرياته عن والده إن نهايته مأساوية.
لم ينم ليلة شتاء «قارس» إلا عندما وزَّعَ الأغطية والملابس التي أرسلها الملك سعود إلى فقراء ينبُع
ويذكر الأمير تركي السديري، أنه رآه يسير، في الطائف، في معية الأمير فهد بن عبدالعزيز عندما كان وزيراً للداخلية ـ الملك فيما بعد ـ فسأله: هل تعرف هذا؟ فقال الأمير فهد: نعم أعرفه، هذا يحيى المعلمي، من خيرة الضباط لدينا في الأمن، فقال الأمير تركي: هل تعرف أن والد هذا الضابط قد ذُبح ذبحاً، وقُطع قطعة قطعة حباً فيكم وولاء لوالدك الملك عبدالعزيز؟ فقال سموه: لم أكن أعلم هذا ولم يخبرني به، والتفت إلى المعلمي، قائلاً: هل سمعت ما قاله خالي تركي؟ فقال يحيى: نعم سمعت، وجزاه الله خيراً على ما قاله. فرد الأمير فهد: لماذا لم تخبرنا بذلك من قبل؟ فقال يحيى: إن الملك عبدالعزيز قد تبنانا أنا وأخي محمد، وأجرى علينا مرتباً كبيراً وأعطانا بيتاً كبيراً في مكة المكرمة، ونحن نعيش في بحبوحة من العيش بفضل الله، ثم بفضل أبينا الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله.
وتولى عمه القاضي محمد المعلمي تربيته وأخيه محمد، وعلمهما القرآن الكريم والكتابة ومبادئ الحساب، وقد لمس عمهما النجابة والذكاء في ابني أخيه، خاصة الابن الأكبر يحيى الذي كان والده الشهيد يخاطبه منذ طفولته بقول الحق «يا يحيى خذ الكتاب بقوة». وقد لاحظ عمه ذكاءه الحاد وفطنته وسرعته في الحفظ، فعلمه بعض المتون في النحو والتجويد والفقه وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، كما حفظه الأجرومية في النحو.
رشحه لعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1412هـ العلامة حمد الجاسر ود. بدوي طبانة ود. يوسف عزالدين وكتاباه «الأخطاء المشهورة» و«كلمات قرآنية»
دراسته
في عام 1356هـ فتحت أول مدرسة في جازان ودخل يحيى وأخوه محمد إليها وكانا يجيدان القراءة والكتابة من قبل، خاصة القرآن الكريم، وكانا يحفظان الأجزاء الثلاثة الأخيرة من القرآن، فوضع يحيى في السنة الثانية وانتقل إلى السنة الثالثة، إلا أن مدير المدرسة رأى فيه النجابة، فنقله إلى السنة الرابعة، وفي نهاية العام حصل يحيى على الترتيب الأول على فصله. وقد أثار ذلك حسد بعض زملائه، الذين كانوا يقولون: كيف يأتي هذا البدوي من جازان، ويسبقنا بالأولوية؟ وكان يحيى يسمعهم، ويرد عليهم قائلاً: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وفي السنة الدراسية الخامسة انتقل يحيى إلى المدرسة العزيزية في مكة المكرمة، وكان الأول في هذا الفصل دائماً جميل خوجة. وفي الامتحان فاز يحيى بالأولوية، وحرم منها خوجة الذي كان محافظاً عليها طيلة سنوات دراسته، مما أحزنه. ثم انتقل الجميع إلى نهاية المرحلة الابتدائية في المدرسة الوحيدة في مكة، وهي مدرسة تحضير البعثات، وقد اجتمعوا فيها من جميع المدارس، وعرف الطالب يحيى كثيرين من الزملاء، منهم وزير البترول السابق الشيخ أحمد زكي يماني والشيخ إبراهيم العنقري وزير العمل والشؤون الاجتماعية السابق ووزير الزراعة السابق حسن المشاري والشيخ عبدالوهاب عبدالواسع وزير الحج السابق والدكتور عبدالعزيز الخويطر وزير المعارف السابق وغيرهم كثير، وتكونت بينه وبينهم صداقات استمرت إلى ما بعد مدرسة تحضير البعثات.
«العسكري» الذي أحب الخطابة وألَّف 47 كتاباً وعندما تقاعد من عمله توجه إلى الشعر والأدب
وبعد أن نال شهادة الدراسة الثانوية التحق بمدرسة الشرطة، وتخرج فيها عام 1376هـ، وتدرج في الرتب العسكرية إلى أن وصل رتبة مقدَّم، وفي عام 1386هـ ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسات العليا، والتحق بجامعة ولاية ميتشجان كمستمع، وبعد فترتين دراسيتين مدتهما ستة أشهر، قبلته الجامعة نفسها طالباً منتظماً حتى نال درجة الماجستير في «إدارة الشرطة» في مدة لم تتجاوز الخمسة عشر شهراً بتقدير ممتاز، وبعد عودته للوطن تولى عديداً من المراكز الأمنية، وتدرج في الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق، أما أهم المناصب التي تولاها فهي: المدير العام للمرور والنجدة والعلاقات العامة معاً، ثم المدير العام لشؤون الضباط لمختلف قطاعات وزارة الداخلية، بعد ذلك المدير العام للسجون بالمملكة، واختتم حياته العملية بمنصب مساعد مدير الأمن العام.
رجل المبادرات
كان يحيى العلمي رجل مبادرات، ومن أبرز منجزاته:
- إنشاء شرطة النجدة بالمملكة، وقامت بدور كبير في تقديم الخدمات للجمهور، وفي حالات الحوادث المفاجئة، والحاجة إلى خدمات إنسانية، وعملت على تحقيق مبدأ الشرطة في خدمة الشعب.
- إعادة تنظيم المرور وتوحيد أقلام المرور في إدارة واحدة ذات فروع متعددة في المدن الكبرى، وأعد نظماً حديثة للمرور تناسب تطور المملكة ونهضتها، وأطلق أسابيع المرور التي عملت على تحسين العلاقة بين الشرطة والجمهور وعملت على بث الوعي المروري بالأسلوب الودي الخالي من الوعيد والتهديد، وحرص على تسهيل إجراءات تجديد رخص القيادة ورخص السيارات.
- عندما كان مسؤولاً عن الأمن الجنائي، اتبع سياسة حكيمة في تسجيل الحوادث الجنائية واكتشاف المجهول منها، بدلالة المعروف، وكان يشجع المجتهد ويكافئه ويعدل خطأ المخطئ بالتوجيه الحسن والإرشاد السليم.
- عندما تولى الإشراف على السجون، قام بتطويرها وتحويلها إلى التعليم بمختلف مراحله، وأنشأ المدارس، وشجع النزلاء على حفظ القرآن الكريم، ورصد لمن يحفظه مكافآت سخية.
إنسانية المعلمي
يتصف الفريق يحيى المعلمي بجوانب إنسانية، رغم صرامته في العمل العسكري. وعن صفاته ومميزاته الخلقية، يقول زميله اللواء جميل الميمان إنه رجل دولة وإنسان حكيم وإداري وقيادي ممتاز ومؤثر جداً في مرؤوسيه وفيمن اتصل بهم، وإلى جانب ذلك يتصف بالكرم والمروءة والشهامة والنخوة وإغاثة الملهوف ومد يد العون للمحتاجين، كما أنه صاحب مواقف مشرفة.
تولى أبوه إمارة «أبو عريش» وكان حازماً في تطبيق أحكام الدين فتربّص به العابثون وقتلوه
وفي حديث آخر عن إنسانية المعلمي، يقول المؤرخ عبدالكريم الخطيب إنه حينما كان الفريق المعلمي مديراً لشرطة ينبع استطاع بروحه الإنسانية والاجتماعية وأخلاقه الدمثة أن يكوِّن علاقات اجتماعية أشرقت فيها نفسه الكريمة، من خلال نشر المسامرات الأدبية في مجتمع ينبع. ويضيف عرفت في المعلمي الأستاذ الموجه والأديب الغيور على لغتنا يرفض الدخيل عليها، وإذا حل العيد يهيب بأهل ينبع بإقامة مهرجان بهذه المناسبة، وتجتمع أسرة مدينة ينبع في أحد الميادين العامة. ويروي الخطيب واقعة تدل على شهامة وإنسانية المعلمي، فيقول في أحد الأعوام، اجتاح ينبع وقراها شتاء قارس، وكثير من فقراء هذه البلدة في حاجة وفاقة، لا يملكون الملابس والأغطية التي تقيهم ذلك البرد القارس، فتبنى مشروعاً لكسوة الشتاء، وطلب من أمير البلدة أن يبرق لجلالة الملك سعود ـ رحمه الله ـ بمعونة لفقرائها، وكتب المعلمي رسائل لأبناء ينبع المقيمين خارجها لمساعدة أهلهم واستجاب الملك سعود لمطلب الأمير، ووصلت السيارات المحملة بالأغطية والكسوة، وفور وصولها ليلاً أخذ المعلمي بعض أعيان المدينة وعمد الأحياء وراحوا ينتقلون من حي لآخر، يطرقون بيوت المحتاجين، ليوزعوا الكسوة والأغطية، حتى اطمأن على فقراء البلدة، ونام قرير العين بما قدمه للفقراء من خير كان هو سببه.
مؤلفاته الأمنية
ألَّف الفريق المعلمي عدة مؤلفات، جميعها في مجال الأمن والقيادة، منها: الأمن في القرآن الكريم، الأمن والمجتمع، الأمن في المملكة العربية السعودية، الشرطة في الإسلام، الأمن والتخطيط، من محاضر الشرطة، محاضرات في القيادة الأمنية، وخصائص القيادة الناجحة في سِيَر القادة العظماء.
الشاعر والأديب
ميدان الشعر والأدب، كان يمشي متوازياً مع ميدان العمل العسكري في حياة الفريق المعلمي، فقد بدأ بالشعر والأدب منذ صغره، وكان مولعاً بالخطابة وهو في بدايات حياته الدراسية، وألَّف خلال مسيرته 47 كتاباً في مختلف العلوم الدينية والأمنية والأدبية والشعرية، وحينما ترجل عن عمله العسكري، توجه إلى ميدانه الحقيقي، ميدان الشعر والأدب، حيث سطع نجمه داخل المملكة وخارجها، وتألق بما ألَّفه من كتب ومشاركات في الندوات الإقليمية والدولية في مختلف دول العالم والدول العربية. وكان يرى أن كل لغوي أديب وأن اللغوي في أعلى مراتب الأدب، وليس كل أديب لغوياً، فمن الأدباء ناشئة ومبتدئون ثم أدباء كبار، واللغوي لا يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد اجتيازه جميع مراحل الأدب، وقد انضم المعلمي إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1412هـ، ورشحه لهذه العضوية كتابان من كتبه، الأول بعنوان «الأخطاء المشهورة» والثاني «كلمات قرآنية». وكان من بين من رشحوه للانضمام للمجمع الشيخ العلامة حمد الجاسر والأستاذ الدكتور بدوي طبانة والدكتور يوسف عزالدين وآخرون من أعضاء المجمع بعد اطلاعهم على مؤلفاته. ومن إسهاماته المحسوبة، مشاركته وعدد من زملائه بالمجمع في إعداد المعجم الكبير الذي يُعد مرجعاً كبيراً للباحثين في اللغة.
وفي سنواته الأخيرة، كان واحداً من أنشط دعاة الأدب الإسلامي، ورأس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي في الرياض.
شغل مناصب عدّة في «الداخلية» أهمها: المدير العام للمرور والنجدة والعلاقات العامة والمدير العام للسجون ومساعد مدير الأمن العام
وفاته
بعد أربعة وسبعين عاماً عاشها في خدمة أمته ووطنه في المجال الأمني والمجال الأدبي، ترجل الفارس، ففاضت روحه إلى بارئها في 24/5/1422هـ، تاركاً وراءه إرثاً عظيماً من العمل الأمني والموروث الأدبي. رحمه الله رحمة واسعة، وجعل ما عمله في ميزان حسناته.