رجل وزمان

عبدالمحسن بن جلوي.. أمير «الإمارات الثلاث»!

كأنه عاش للإمارة والحكم وتولّي أمور الناس.. عبدالمحسن بن عبدالله ابن جلوي آل سعود.. فقد تولاها في التاسعة، بأمر من الملك المؤسّس عبدالعزيز آل سعود الذي سأل عنه، في إحدى زياراته للظهران، فلما رآه، وتكلم معه، وأحسّ منه ــ وهو لم يزل صبيّاً بعد ــ شعورَ الرجال بالمسؤولية، قرر أن يجعله أميراً على «الظهران» وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عُمره.. ومرّت الأعوام، وجرت مياهٌ غزيرة في النهر، ليتولى بعد سنوات إمارة الأحساء، ثم بعد فترة أميراً للمنطقة الشرقية.. متواضعاً، زاهداً، باراً بوالديه وبأصحاب أبيه خاصة، أعطى كل وقته لوطنه ولعمله، وللناس الذين عمل في خدمتهم، فشهدت «الشرقية» في فترة إمارته نهضة واسعة في كافة المجالات.. الأمير عبدالمحسن بن جلوي وراء نجاحه قصة جديرة بأن تُحكى.. منذ طفولته وصباه، وفيها «أسرار» النجاح.

الأمير عبدالمحسن بن جلوي في استقبال جلالة الملك فيصل – رحمهما الله – أثناء وصوله بمحطة القطار بالدمام

هو شخصية عادية غلب على تكوينها التواضع والبساطه في التصرفات، ومن يراه لأول مرة، يندهش من بساطته وعلو أخلاقه وزهده في الألقاب وحتى في الهيئة والملبس، كان همه العمل وإنهاء مطالب الناس ومعاناتهم والنظر في قضاياهم اليوميه والعمل على إنجازها بالشكل الذي يرضي الله أولاً.. تلك أهم «ملامح» شخصية الأمير عبدالمحسن بن عبدالله بن جلوي آل سعود أمير المنطقة الشرقيه الأسبق، الذي دخل معترك العمل الحكومي في الثانية عشرة من عُمره، أميراً لـ «الظهران»، بأمر من المؤسس الملك عبدالعزيز – رحمه الله – وتدرَّج في المناصب حتى خلف أخاه الأمير سعود ابن جلوي أمير المنطقة الشرقية.

الولادة والنشأة

ولد الأمير عبدالمحسن بن عبدالله بن جلوي آل سعود في مدينة الهفوف بالأحساء عام 1346هـ (1928م)، ونشأ في كنف والده الأمير عبدالله بن جلوي الذي رباه على الأمانة والوفاء والفروسية وحسن التعامل مع الآخرين. وقد دفع به إلى علماء الأحساء، فدرس على أيديهم القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة، وحفظ القرآن كاملاً، وهو ابن التاسعة من عمره. وأقام والده احتفالاً بهذه المناسبة دعا إليه الأمراء والعلماء والوجهاء في الأحساء وقال له والده يومئذ: «إن هذا الاحتفال ليس لتهنئتك، وإنما لأخذ العهد عليك للعمل بالكتاب والسُّنَّة في جميع أمور حياتك وما يخص أمور الناس وهؤلاء الحضور شهود عليك».. وخلال فترة طفولته أتقن الأمير عبدالمحسن مهارات الرماية والسباحة وركوب الخيل، وكان مثابراً على حضور مجلس والده الذي كان يدير أمور المنطقة حينها، وفي السنة نفسها توفي والده ولازم شقيقه الأمير سعود الذي واصل تعليمه وتربيته على مواقف الرجولة من صدق ووفاء وشجاعة وكرم، وغيرها من الصفات الحميدة التي حرص على تعلمها والعمل بها.

مسؤولية مبكرة

كانت إمارة الظهران أولى المسؤوليات التي تحملها الأمير عبدالمحسن، ولم يكن تجاوز الثانية عشرة من عمره، وقد جاء تعيينه أميراً على الظهران، في أثناء قيام الملك المؤسس عبدالعزيز، رحمه الله، بزيارة للمنطقة الشرقية، لتدشين أول شحنة بترول سعودي إلى خارج المملكة، من ميناء رأس تنورة، في شهر صفر 1358هـ الموافق أبريل 1939م، وسأل الملك عبدالعزيز عن الأمير عبدالمحسن، ولما قابله توسم فيه الرجولة والقدرة على تحمل المسؤولية، فعينه أميراً للظهران وكان ذلك بحضور جلالة الملك سعود ولي العهد آنذاك وجلالة الملك فيصل نائب جلالة الملك في الحجاز، وفي حضور حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفه رحمهم الله جميعاً.

أميراً للأحساء

بعد أن أصبحت الظهران ملتقى للبعثات الأجنبية بحكم موقعها مركزاً لصناعة الزيت في المملكة، جاء قرار نقل مقر إمارة المنطقة الشرقية من الأحساء إلى الدمام، فانتقل الأمير سعود بن جلوي إلى مقر الإمارة الجديد في الدمام، ليخلفه أخوه الأمير عبدالمحسن في إمارة الأحساء، في 1372هـ (1952م) لينتقل من إمارة الظهران، أول منصب له، إلى إمارة الأحساء التي استمر فيها حتى عام 1386هـ (1967م).

أميراً لـ «الشرقية»

بعد وفاة أخيه سعود بن عبدالله بن جلوي أصدر الملك فيصل – رحمه الله – تكليفاً يقضي بتعيين الأمير عبدالمحسن بن جلوي أميراً للمنطقة الشرقية، لينتقل من الأحساء إلى الدمام، حيث مقر إمارة المنطقة الشرقية وكان عمره حينها أربعين عاماً.

إنجازاته

شهدت المنطقة الشرقية في عهد الأمير عبدالمحسن ابن جلوي تطوراً كبيراً في عديد من المجالات.. ففي «التعليم»، انتشرت مدارس البنين والبنات، وعمت المدن والقرى والهجر الصغيرة، وتم تطوير كلية البترول والمعادن لتصبح جامعة البترول والمعادن، وتفرع منها عديد من الكليات العلمية، كما أنشئ فيها معهد البحوث الذي يعد من أكبر مراكز البحوث العلمية في الوطن العربي، وأنشئت جامعة الملك فيصل بالأحساء والدمام، لتضم عديداً من الكليات العلمية والنظرية، واحتضنت مركز البحوث الزراعية ومركز الطب البيطري بالأحساء، وضم فرعها بالدمام كلية الطب وكلية العمارة والتخطيط، وافتتحت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرعاً لها بالأحساء، ضم كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، وفي الدمام قامت كليات البنات التي ضمت كلية الآداب وكلية العلوم، وكليتي المعلمين بالدمام والأحساء، وكلية الملك فهد للعلوم البحرية، إلى جانب المعاهد المتخصصة مثل معهد الدراسات الفنية بالظهران التابع للقوات الملكية الجوية ومعهد الدراسات البحرية بالدمام التابع للقوات الملكية البحرية. وازدهرت الحركة العلمية في عهد الأمير عبدالمحسن بن جلوي، فانتشرت المكتبات العامة التي قامت وزارة التعليم بافتتاحها في الدمام والخبر والقطيف والجبيل والهفوف بالإضافة إلى المكتبات الجامعية المركزية المتخصصة.

وتلبية لحاجة الموظفين في القطاع الحكومي، تم افتتاح فرع معهد الإدارة العامة بالدمام، لتقديم برامج تعليمية ودورات تدريبة في مختلف علوم الإدارة التي تسهم في رفع مستوى الموظفين في مختلف القطاعات الحكومية.

الأمير عبدالمحسن بن جلوي في استقبال جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز – رحمهما الله

إمارة عبدالمحسن بن جلوي تشهد تطوراً واسعاً للمنطقة الشرقية في عديد من المجالات

الرعاية الصحية

حظيت المنطقة الشرقية باهتمام كبير في مجال الرعاية الصحية، في عهده – رحمه الله -. ومن أبرز المؤسسات الصحية بالمنطقة: مستشفى الملك فهد الجامعي بالخبر، مستشفى الملك فهد بالهفوف، مستشفى أرامكو بالظهران، مستشفى الحويلات بالجبيل الصناعية، المستشفى العسكري بالظهران.

جهود كبيرة لابن جلوي في التعليم والصحّة والشباب والرياضة وتطور شبكة الطرق والاهتمام بالصحافة وانطلاقة «صناعية» بالمنطقة الشرقية

الطرق والنقل

حرص الأمير عبدالمحسن على تطوير شبكات الطرق الحديثة بين مدن المنطقة الشرقية، ومن أبرز مشاريع الطرق إنشاء الطريق السريع بين الدمام والرياض، والطريق السريع بين الدمام وأبو حدريه، والطريق الرئيس بين الدمام والهفوف، وافتتاح مطار الأحساء الإقليمي.

مع جلالة الملك خالد، وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله – رحمهم الله – أثناء زيارة للجبيل لافتتاح معمل سوائل الغاز الطبيعي

المدن الصناعية

شهدت المنطقة الشرقية نقلة صناعية كبرى في عهد الأمير عبدالمحسن بن جلوي – رحمه الله – مثل المدينة الصناعية الأولى بالدمام إلا أن إنشاء مدينة الجبيل الصناعية كان الحدث الأبرز في مجال الصناعه، حيث احتضنت الصناعة البتروكيميائية العملاقة وأصبحت أكبر مدينة صناعية في العالم يسكنها عشرات الآلاف من التقنيين والعمال وعائلاتهم واستقطبت الآلاف من أبناء المملكة.

رعاية الشباب

عُرف عن الأمير عبدالمحسن اهتمامه بالشباب وتشجيعه إبداعاتهم في شتى المجالات. وقد قامت مؤسسات مختلفة لخدمتهم، خلال فترة إمارته، مثل: جمعية الثقافة والفنون، الاستاد الرياضي في الراكة، والذي أطلق عليه اسم استاد الأمير سعود بن جلوي بالراكة، الاستاد الرياضي بالدمام، ملعب نادي الاتفاق بالدمام، ملعب نادي النهضة بالدمام، ملعب نادي القادسية بالخبر، المدينة الرياضية بالأحساء، الصالة الرياضية الخضراء بطريق الدمام/ الخبر السريع.

وفي المجال الإعلامي: أسهم الأمير عبدالمحسن شخصياً في إنشاء مجلة «الشرق» الأسبوعية بالدمام، والتي تحولت فيما بعد إلى جريدة يومية، كما شجع على تطوير جريدة «اليوم».كما صدرت أثناء توليه إمارة الشرقية مجلة «الاقتصاد» التي احتفلت باليوبيل الذهبي ومرور خمسين عاماً على صدورها برعاية أمير المنطقة الشرقية سمو الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز.

مع الملك خالد بن عبدالعزيز – رحمهما الله

عندما قال له والدُه: هذا الاحتفال ليس لتهنئتك بل لتعاهدنا على العمل بالكتاب والسنة في أمور حياتك وأمور الناس والحضور شهود عليك

سماته الأخلاقية

التواضع والزهد أبرز صفات الأمير عبدالمحسن فقد عُرف عنه – رحمه الله – التواضع وحُسن الحديث وجميل الإصغاء. ومن تجليات زُهده، أنه كان راغباً عن الألقاب، كما كان راغباً عن متاع الدنيا، واشتهر الأمير عبدالمحسن ببرّ والديه، فعندما يتحدث عنهما يخفض صوته ويكثر من الدعاء لهما، حتى يشعر من يستمع إليه باحترامه الكبير لهما. ومن القصص التي تُحكى عن برّه بوالده الأمير عبدالله بن جلوي أن الأمير عبدالمحسن، ذات مرة كان في رحلة برية من جده إلى المدينة المنورة ثم المنطقة الشرقية مروراً بمنطقة القصيم، وعندما وصل إلى بريده، طلب من سائقه أن يدخل في أحياء مختلفة في بريدة، ومثلها في عنيزه، وتوقف عند خمسة منازل. وكان الأمير عبدالمحسن ينزل بنفسه ويطرق باب كل منزل فيخرج إليه أطفال أو بعض كبار السن، فيسأل عن صاحب المنزل، ويقول أنا عبدالمحسن بن جلوي. وقد دخل ثلاثة منازل، حيث كان أصحابها موجودين، وبدأ الأمير بسؤال صاحب المنزل عن أحواله وأحوال أبنائه وأقاربه، أما بقية المنازل حيث لم يكن أصحابها موجودين، فكان يترك لكل واحد رسالة قصيرة بخط يده، وكان مسروراً بمقابلة هؤلاء الأصدقاء، ويقول إن آباءهم كانوا أصدقاء والده، وهذا من البر بوالده والحرص على أصدقائه.

عاشق التاريخ وجغرافية المملكة جامع المخطوطات النادرة المولع بأنساب القبائل العربية

سر المنازل الخمسة التي توقّف عندها ابن جلوي وطرق أبوابَها وسأل عن أصحابها!

كيف كان يذهب إلى بريده وعنيزه سائلاً عن بيوت أصدقاء أبيه ثم سائلاً عن أحوال سكان البيوت؟

ثقافته واطلاعه

تميز الأمير عبدالمحسن بن جلوي – رحمه الله – بحضوره الثقافي الواضح لكل من يُجالسه أو يُحادثه، فهو يثمن الكلمة الطيبة، ويفهم الشعر في رمزيته وتلميحاته، ويقدر تجارب الناس. وتقول ابنته الأميرة جواهر ــ المتخصصة في التاريخ ــ إنها لمست ولع والدها بالتاريخ وجمع المخطوطات النادرة، وكان ملماً بتاريخ المملكة وجغرافيتها قديماً وحديثاً، ولديه اطلاع في أنساب القبائل العربية، ويحتفظ برسائل من الملك عبدالعزيز إلى والده وأخيه سعود.

زوجاته وأبناؤه

تزوج الأمير عبدالمحسن ثلاث زوجات الأميره قماشه بنت عبدالرحمن المسفر والدة الأميرات منيرة، ساره، جواهر، ومشاعل.. وتزوج الأميرة قماشه والدة الأمير فهد. كما تزوج الأميرة هيله بنت عبدالعزيز الربدي (لم تنجب).

تقاعده عن العمل

أحس الأمير عبدالمحسن بن جلوي أن ظروفه الصحية لا تساعده على أداء واجباته على الوجه المطلوب، فأعرب لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد – رحمه الله – عن رغبته في إحالته للتقاعد، وصدر أمر ملكي بالموافقة على تقاعده في 10/6/1405هـ ليتفرغ لحياته الخاصة، بعد أن قضى 47 عاماً في خدمة وطنه، منها قرابة العشرين عاماً أميراً للمنطقة الشرقية.

الأمير عبدالمحسن بن جلوي مع الملك خالد والملك فهد – رحمهم الله

وفاته

بعد مرور ثلاث سنوات على تقاعده، ترجل الفارس، عقب أدائه صلاة الفجر في المسجد، وبعد عودته إلى منزله. توفاه الله يوم الأربعاء من شهر جمادى الثانية 1408هـ الموافق 10/2/1988م، وقد حقق الله أمنيته، أن يموت «متوضئاً»، وكان له ذلك، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه خير الجزاء عما قدمه لدينه ومليكه ووطنه، إذ ترك سيرة حسنة في خدمة وطنه وتواضعه وإنسانيته في التعامل مع الجميع.

ابن «التاسعة» الذي حفظ القرآن كاملاً.. والطريق إلى برّ أبيه برّه بأصحابه وتواصله مع أبنائهم

احتفظ برسائل الملك عبدالعزيز لوالده وأخيه سعود

معرض الصور:

الأمير عبدالمحسن بن جلوي – رحمه الله – وولي العهد البلجيكي
مع الأمير سلطان بن عبدالعزيز – رحمهما الله – أثناء عرض عسكري في الظهران
الأمير عبدالمحسن بن جلوي مع الأمير نايف بن عبدالعزيز – رحمهما الله –
الأمير عبدالمحسن بن جلوي – رحمه الله – في حفل تخريج كلية عسكرية
سمو الأمير عبدالمحسن بن جلوي – رحمه الله – وعدد من المسؤولين الحكوميين وعامة المواطنين يشاهدون مباراة كرة قدم
أثناء استقباله الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا
مع سمو الشيخ سلمان بن عيسى آل خليفة – رحمهما الله – والسيد لستن ف. هلز رئيس مجلس إدارة أرامكو
صاحب السمو الأمير عبدالمحسن بن جلوي – رحمه الله – أثناء افتتاح معرض بلدية الدمام
navigate_before
navigate_next

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.