تحليل

من يحرِّك الذهب.. الدولار أم التوترات الجيوسياسية؟

دائماً ما نسمع أن الذهب من أهم الملاذات الآمنة، خصوصاً في الأوقات الشديدة والتوترات الجيو سياسية، ولكن يبقى الدولار هو المسؤول الأول عن اتجاه الذهب، ويتبيَّن ذلك تاريخياً من خلال الموجة الأخيرة حيث سجلت الأسعار مستوى تاريخياً عند 1921 دولاراً.

هذه الموجة استمرت 12 عاماً، وانطلقت من مستويات 250 دولاراً، وكان أبرز الخاسرين وقتها بريطانيا، التي باعت أكثر من 400 طن ذهب بين عامي 1999 و2002، والأسعار في القاع عند 296 دولاراً بقرار من وزير الخزانة آنذاك غوردون براون، وأهدر حوالي 13 مليار دولار، مع أن براون يُعد خبيراً كبيراً ومن أبرز رجالات الاقتصاد الذين استلموا مناصب حكومية في بريطانيا في السنوات الأخيرة.

خلال هذه الموجة مرَّت أحداث كثيرة، وأهم امتحان للذهب كان انفجار الأزمة العالمية في 2008، وقتها انهارت الأسواق، وهبطت أسعار الذهب إلى ما دون مستويات الـ 700 دولار، ولم يؤدِّ هنا المعدن الأصفر دوره المطلوب كملاذ آمن، وكان الدولار هو الرابح الوحيد. ولم يتحرك الذهب وقتها إلا بعد انطلاق برنامج التيسير الكمي، فتراجعت العملة الخضراء، وسجل الذهب ارتفاعات متتالية ووصل إلى أعلى قمة له على الإطلاق عند 1921 دولاراً، إذاً السبب الرئيس لكل ما حصل كان الدولار.

وحتى في موجة الهبوط أيضاً عند إعلان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق بن برنانكي انتهاء التيسير الكمي، كانت الأسعار أقل من 1600 دولار، وبعدها دخل في موجة هابطة إلى أن وصل إلى مستويات 1042 دولاراً، وقد رافقته أحداث كبيرة منها تشديد السياسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية.

باختصار إطلاق برنامج التيسير الكمي من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي أوصل الذهب إلى قمته التاريخية القريبة من 2000 دولار، وفي المقابل فإن إعلان انتهاء البرنامج وبداية رفع معدلات الفائدة أودى بالذهب إلى مستويات قريبة من 1000 دولار. وهذا كاف للقول إن الدولار هو الآمر والناهي في حركة أسعار الذهب صعوداً وهبوطاً.

حتى أسعار النفط كما ذكرنا انهارت أثناء الأزمة العالمية، مثلها مثل السلع وبعدما شهدت تألقاً غير مسبوق وصلت الأسعار إلى مستويات تاريخية أيضاً عند 147 دولاراً للبرميل الخام، ثم اتبعت نفس السيناريو وقت اندلاع الأزمة، مما أودى بسعر البرميل إلى أقل من 34 دولاراً.

أثناء رالي صعود الذهب، كان هناك تلازم كبير بين أسعار الذهب وأسعار الفضة، حتى إن الفضة تألقت ووصلت إلى أسعار تاريخية، عند حوالي 50 دولاراً لسعر الأونصة، وكانت هذه الارتفاعات ضعف ما سجلته أونصة الذهب، وفي مرحلة الانهيارات كانت الفضة أكثر نزيفاً وظلت الأسعار مدة طويلة على النحو التالي: أونصة الذهب فقدت أكثر من ثلث قيمتها من قمتها التاريخية، وأونصة الفضة بقي منها أقل من ثلث قيمتها من مستوياتها التاريخية، أيضاً لم يكن هناك تفاعل من قبل أسعار الفضة مع قفزات الذهب بشكل عام بعد مرحلة الانهيارات.

ومن المعروف أن الذهب لا يعطي عائداً عند الاحتفاظ به، والمكاسب تأتي من الارتفاعات التي يسجلها من أسعار الشراء السابقة، وبالتالي دائماً ما يقارن مع الأدوات المالية التي تعطي عوائد مثل سندات الخزانة الأمريكية، ويؤثر بذلك كثيراً على نية الاحتفاظ به أو عدم الاحتفاظ، والارتفاعات الأخيرة التي سجلها المعدن الأصفر كانت لافتة، حتى على أيام نائب رئيس مجلس المحافظين للنظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سابقاً جانيت ييلين لم نصل إلى هذه المستويات، وآخر مرة حصل ذلك في عهد خليفة آلان غرينسبان رئيس البنك الفيدرالي السابق لبن برنانكي الذي أطلق وأدار برنامج التيسير الكمي بعد انفجار الأزمة العالمية.

أود أن أذكر أيضاً أن الذهب سجل في الفترة الأخيرة ارتفاعات ولفت الأنظار أكثر مقابل الدولار الأسترالي، أي عندما يكون سعره بالدولار الأسترالي فإنه سجل مستوى قياسياً بدعم من عوامل إضافية أتت من أستراليا بسبب تخفيض الفائدة هناك، واحتمال إطلاق برنامج تيسير كمي، حيث أثر كل ذلك، وأود التذكير أيضاً أن أستراليا لطالما كانت مع مناجمها لاعباً كبيراً في مجال إنتاج الذهب، ولكن في السنوات الأخيرة تفوقت مناجم الصين بقوة وتصدرت بفارق كبير عن الدول الأخرى، ولكن تبقى أستراليا دولة غنية بالسلع والمعادن وينكشف اقتصادها بقوة على صحة الاقتصاد الصيني ويكون أول المتأثرين بأي تطور يحصل للتنين الصيني.

وإذا ذهبنا في جولة على العملات، نجد أن صفة الملاذات تنطبق تاريخياً على الفرنك السويسري والين الياباني، وفي بعض الفترات دخل اليورو أيضاً ضمن هذه اللائحة. ويُعد أيضاً الفرنك العملة الأكثر تناغماً في الحركة مع أسعار الذهب ويطلق عليه أحياناً لقب ذهب العملات.

في السابق كانت حركة الدولار الأسترالي على علاقة مهمة مع أسعار الذهب ولكن تراجع ذلك الترابط بشكل كبير، وعند أي تراجع كبير في الأسواق نرى الجميع يتحدث عن هذا المثلث: الذهب والفرنك والين.

أخيراً عودة إلى تأثير الدولار على أسعار الذهب نرى أنه كان المحرك الأول في كافة مراحل الهبوط والصعود وتفوق على كل العوامل المؤثرة الأخرى، وعلى رأسها التوترات السياسية والعسكرية، ولكن لا ننسى أيضاً أن سعر الذهب قد يصعد عشرات من الدولارات بسبب توتر ما ولكن لكي يأخذ موجة أخرى. ابحث عن الدولار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.