نافذة

حروب المعرفة

سيبدو مغرياً جداً للجمهور الذي يتفرج على المعركة الأمريكية الصينية، الكشف عن حقائق وملفات شركات التكنولوجيا العالمية، التي بتنا اليوم جميعاً نعرف أنها تتمتع بكثير من الأشياء التي ليس من ضمنها الشفافية.

المعركة التي أقصد هي موقعة «هواوي» الشركة الصينية التي أقلقت العرش القائم على وادي السيليكون، وجعلت رئيس أقوى دولة في العالم ـ حتى الآن ـ يلوح بـ «المخاطر الأمنية»، ويلوح غيره بالتجسس.

لطالما حدس من يتأمل بعمق في الظاهرة الاتصالية وفي الشبكة العنكبوتية، أن احتكار التقنية ممثلاً في برامج التشغيل أو تطبيقات الهواتف الذكية، ليس هدفه الربح المادي فقط، هناك أشياء كثيرة خلف «الأكمة»، ويبدو أن الأمريكان لا يريدون احتكار التقنية فقط، وعوائدها المالية، لكنهم أيضاً يفضلون احتكار المعرفة المتأتية من هذه السيطرة على أنظمة وتطبيقات الهواتف الذكية.

احتكار معرفة معلومات الناس، وأحوالهم، وأفكارهم، واتجاهاتهم الاستهلاكية، وربما الفكرية هو ثروة طائلة، لو كانت لدي شخصياً، لما ترددت في استخدامها في تحقيق مصالحي العليا، والاستراتيجية، ومكاسبي المادية، حتى لو أطلق المغرضون على ذلك مسمى «التجسس».

وهذه المعرفة يمكن اعتبارها الوقود الحقيقي للمعارك المستقبلية، فأمريكا اليوم لا تحارب الصين في المحيط الهادي، أو على جبال التبت، إنها معركة تدور بين عقول منسوبي الشركات، ومطوري البرامج، سواء ارتدوا البزة العسكرية أو «التي شيرت»، وهي معركة ربما لا تراق فيها نقطة دم واحدة، لكن نزيف الخاسر فيها يقدَّر بتريليونات الدولارات على المدى الطويل.

أقول إن الكشوفات ستكون مغرية، ففي التكنولوجيا كما في السياسة والتجارة يتم إخفاء كثير من الأمور والمعلومات عن العامة، والمستهلكين، وبالطبع الأعداء والمنافسين، والمؤمل أن تكشف هذه الحرب عن كم هائل من المعلومات والفضائح، في حال نجاح الشركة الصينية في إعلان نظام تشغيل خاص بها، وسلسلة تزويد لا ترتكز على شركات التقنية الأمريكية، وهي الحال التي ستصيب العمالقة بالجنون، عمالقة التقنية وأنظمة وتطبيقات الهواتف الذكية.

أحد الشواهد هنا هو موقف الأطراف الأخرى التي تنقسم بدورها إلى مجموعات من بينها مجموعة المنافسين الصغار الذين قد يستفيدون من الأحداث، ولعل بعض الدول أو الشركات التي توضع في الواجهة مكان الدول تستفيد، فتتسع دائرة التنافس، ومجموعة المستهلكين غير المبالين بمصادر هذه التقنيات أو التنافس عليها وهؤلاء ربما يستفيدون فقط في تعدد الخيارات وانخفاض الأسعار.

شاهد آخر مهم هو الحال العربية، التي تطول معظم بلدان العالم العربي، حال التشتت والتخلف، والبقاء في مناطق المعارك التقليدية، حيث السلاح والقتل، بينما يدخل من يزودهم بالسلاح معارك من خلف شاشات الكمبيوتر أو في معامل البحث العلمي التقني ليواصل سيطرته على العالم كما في الحال الأمريكية، أو يعزِّز مكانته كقوة قطبية ثانية أمام أمريكا كما في الحالة الصينية.

المسألة ليست «هواوي» و«جوجل» وغيرهما، إنها قيادة العالم بعد السيطرة عليه بأصغر أداة عرفتها البشرية إلى الآن، الهاتف الذكي الذي بات ممكناً أن يكون في ساعة أو قلم، وقريباً في عدسات النظارة، وربما في منطقة محددة من الهواء أمام العينين.

أصبح مصطلح حروب المعرفة واقعاً نشهده اليوم، ونرى المعارك على منصات الخطاب وأعمدة الصحف، وشاشات التلفزة، والإعلام الاجتماعي، وهي حرب على عدة مستويات وقطاعات، لكن قطاع الاتصالات وإنترنت الأشياء والذكاء الصناعي ظاهر للجميع، لأن الجميع يكاد يكون زبوناً لها، بينما حروب المعرفة الأخرى في المعامل الطبية والفضائية والتقنية لا تزال متابعتها بعيدة المنال عمن هو ليس طرفاً فيها.

أطرف ما في حرب المعرفة أنها ربما غيرت أفكار الاعتداد بالعرق أو اللغة أو حتى التاريخ، إلى الاعتداد بخوارزميات ومعادلات تشغيل وإدارة برامج وتطبيقات شاشة لا يتجاوز حجمها حجم كف اليد، وبدلاً من يقول العربي عنها: «لا ناقة لي فيها ولا جمل»، سيقول «لا برنامج لي فيها ولا تقنية».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.