جمعني لقاء بصديق أكاديمي عزيز، يعمل عميداً لكلية صيدلة، ودار نقاش بيننا جمع اهتماماتنا التسويقية والصيدلانية، وكان مما تحدثنا عنه، تجربة شركة «الدوائية» في التسويق لمستحضرات دوائية حساسة اجتماعياً باستخدام رسائل تسويقية محلية صِرفة، من خلال طرحها دواء «سنافي»، وكان الطرح قبل عدة سنوات. نقاشنا هذا كان محكياً، في لقاء شخصي ـ وجهاً لوجه ـ جمع بيننا في أحد المقاهي، ولم أكتب شيئاً من نقاشي على جوالي أو في أي تطبيق آخر.
في وقت متأخر من تلك الليلة، تفاجأتُ بأمر أثار استغرابي، أصبحتْ إعلانات «سنافي» تحاصرني في كل موقع أتصفحه في جوالي، من خلال المساحات المخصصة لإعلانات جوجل! وظلت تفاجئني هذه الإعلانات في اليوم التالي.
بعد تحليل، وصلتُ إلى نتيجة مؤداها أن جوجل يتنصت على محادثاتي عبر الجوال، حتى وإن لم أكن متصلاً هاتفياً بأحد، ويقوم بالتنصت على كل ما أقول، ثم يسعى بعدها إلى استهدافي بالإعلانات الموجهة، إلى المتوافقة مع ما يسمعه مني من أحاديث طيلة اليوم.
أنا أتفهم عملية تحسين مستوى الإعلانات التي تصل إليَّ من خلال جمع ميولي واهتماماتي من سجلات البحث والتصفح والأماكن التي زرتها وعاداتي الشرائية وسلوكياتي المختلفة وكل ما أكتبه في التطبيقات والخدمات المختلفة التي أستخدمها، لكن استخدام ميكروفون جوالي للتنصت علي وتسجيل كلامي أمر في غاية الاستفزاز وخرق سافر للخصوصية!.
هذه الظاهرة لم تقتصر على جوجل، بل حتى تطبيقات أخرى مثل إنستغرام. كنتُ أتحدث في يوم ما عن آلام الركبة مع صديق. في ذلك اليوم، شاهدتُ خلال تصفحي لإنستغرام إعلانين متصلين بحديثي، الأول عن كريم لتدليك الركبة، والآخر عن مِشَدّ إسفنجي يُثبَّت على الركبة. طبعاً هذا لم يكن محض صدفة برأيي، بل ـ مثل جوجل ـ عن سبق تنصت لما كنتُ أقوله. الأمر ينطبق على تطبيقات أخرى، مثل فيسبوك ويوتيوب وغيرها. هل هناك مؤامرة تجسس تحاك يومياً ضدي، وأن معلوماتي تُسرق مني صوتياً!.
لكن هذه الادعاءات رفضتها مختلف الشركات المعنية بالشأن، والتي أكدت أنها تمنع استغلال التسجيلات الصوتية لأغراض تجارية، وهو ما زاد حيرتي أكثر. نحن نعرف أن جوجل تستمع إلى ما نقول من خلال «أسيستانت» وكذلك أبل من خلال «سيري»، وسامسونج من خلال «بيكسبي»، وأيضاً أمازون من خلال «أليكسا». لكن السؤال المحيّر: هل يتم استغلال هذه التسجيلات تجارياً؟ لا إجابة حاسمة حول الموضوع.
شركة فسيبوك، على سبيل المثال، نفت التقارير الصحافية التي تشير إلى ذلك، وعادت لتؤكد الآن أنها تستخدم سماعة الجوال في التنصت لهدف تحسين تجربة المستخدمين، وهذا لا يحدث إلا بموافقتهم. أما جوجل وأبل وإنستغرام وأمازون فأكدت جميعها مراراً أنها تعمل في إطار القانون الذي يحمي خصوصية المستخدمين. لكن، قد تكون هناك أطراف أخرى تقوم بالتسجيل والتخزين والمعالجة نيابةً عن هذه الشركات الكبرى، وبعلم منها بكل تأكيد.
المنطق التجاري يقول إن مختلف الشبكات الاجتماعية، ومن بينها فيسبوك وإنستغرام وغيرهما، تغري المعلنين لديها بتحقيق نسب استهداف عالية، أي أن يذهب الإعلان فعلاً للأشخاص المحتمل جداً اهتمامهم وتفاعلهم مع رسالة المعلِن. لذا فمن المحتمل جداً أن تستخدم فيسبوك وإنستغرام وجوجل وغيرها مختلف الطرق التقنية التي تجعل فاعلية الاستهداف الإعلاني لديها عالية جداً، ومن ضمنها بالطبع الاستماع لما نقول، أو في الواقع: لكل ما نقول!.
لكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن الموضوع برمته غير صحيح، وأن لا وجود للتنصت. فهناك خبراء تقنية يقولون إن التسجيل غير ممكن «عملياً»، حيث سيتطلب التنصت على الناس وتسجيل كل ما يقولونه طيلة اليوم أعداداً ضخمة جداً من الخوادم المخصصة لهذا الغرض، وهذه عملية مكلفة جداً، ناهيك عن البطء الواضح الذي سيصيب الأجهزة الذكية والذي سيلاحظه المستخدمون جراء تسجيل أصواتهم باستمرار، إضافة إلى أنهم سيلاحظون أيضاً سرعة نضوب طاقة بطاريات أجهزتهم. وعلاوة على ذلك، ما أهمية تسجيل ما يقوله كل شخص لديه جهاز جوال في عالمنا!، وهل لتسجيل وتخزين أطنان هائلة من النفايات الصوتية جدوى اقتصادية أو غير اقتصادية؟.
هناك من يقول إن هذه الشركات تتنصت ولا تنتقي مما نقول سوى الكلمات الاستدلالية «المفتاحية». لكن هذا القول يفتقد للمنطق نوعاً ما. فلو افترضنا أنك كُروي «مدريدي» مصنّف بأنك من كارهي فريق برشلونة لكرة القدم، وقلتَ لصديقك البرشلوني متهكماً: «هل تعتقد حقاً أن فريق برشلونة أعظم فريق في العالم؟ أنت تمزح بالتأكيد!»، فهل تعتقد أن جهازك الذكي سيمطرك بإعلانات تغريك بشراء قمصان ريال مدريد؟ الذكاء الاصطناعي حتى الآن لم يصل لدرجة من «الذكاء» الذي يُمكّنه من تمييز مزحك من جدك من همزك ولمزك وفهم استعاراتك اللغوية وإسقاطاتك.
ختاماً، أجدني هنا حائراً حيال الموضوع، أشعر بشيء يحدث لا أستطيع الجزم بشأنه! لكني أستطيع أن أوصي بشيء بسيط، من باب حفظ الخصوصية ـ إن بقي منها شيء ـ وهو التأكد من أن نظام التشغيل في جهازك الذكي لا يسمح للتطبيقات بتفعيل ميكروفون جهازك. أغلب التطبيقات تظهر لك رسالة تقول: هل تسمح للتطبيق باستخدام الميكروفون؟ هنا من الأفضل أن تقوم بالرفض.
ملاحظة: المصيبة الأعظم التي لم أتحدث عنها، هي أن تذهب معلوماتك وتُستَغل لأغراض أخرى غير الإعلان!