تحقيق

قلة في العرض مع وفرة الطلب
“ربكة” في سوق السمك

تعاني أسواق الأسماك في المملكة مشكلة.. فالسعودية التي «تُشاطئ» حوالي 3800 كيلو متر ــ منها 1100 كيلو متر تُطل على الخليج العربي، وأكثر من 2600 كيلو متر على البحر الأحمر ــ تشكو أسواقُها ارتفاع أسعار «السَّمك»، فيما صيّادو الأسماك يُرجعون المشكلة إلى عوامل أدّت إلى تراجع حركة الصيد في شواطئ المملكة، مما أدّى إلى تناقص «المعروض» من الأسماك في الأسواق، وأدّى بالتالي إلى ارتفاع أسعارها.. «الأزمة» لم تكن مُفاجئة، وهي ابنة لخمس سنوات مضت، إلا أنها تصاعدَت في العام الأخير، حتى بلغت الأسعار حداً نزلَ بالأسماك من عرش الغذاء الرخيص، ليضعها منافساً للحوم الحمراء في ارتفاع الأسعار.. كيف تتجاوز الأسماك أزمة الأسعار؟ ومتى يعود السّمَك إلى شعبيته باعتباره «الطبق» الأول، خصوصا في المنطقتين الشرقية والغربية من المملكة؟ «الاقتصاد» تسعى وراء خيوط القضية، وتحاور أبرز الأطراف المعنية بها.. فإلى التحقيق..

الأسعار سجلت ارتفاعا كبيرا تراوح بين 30 و %40 في 2019

تراجع أعداد الصيادين يؤدّي لضعف عمليات الصيد وتناقص كميات الأسماك وقلة «العرض» ترفع أسعارها في الأسواق

البناي: السعوديون لا يرغبون في العمل بالصيد

البقال: معظم المراكب متوقفة وشروط العمل صعبة

يضج سوق السمك في القطيف الذي يعتبر سوق السمك الأكبر في منطقة الخليج العربي بالصيادين والمشترين وأغلبهم من أصحاب محلات السمك والمطاعم وباعة الجملة، إلا أن هذه الحركة لم تعد مؤخرا كالسابق، إذ تراجعت كمية الأسماك التي تعرض يوميا في السوق، لدرجة أنها لم تعد تكفي لتلبية الطلب المتزايد عليه، ولم تعد تقارن بتلك الكمية التي كانت تصل إليه قبل خمسة أعوام، وهي أمور قادت لارتفاع الأسعار.

د. علي الشيخي

يعمل في السوق أكثر من 1000 شخص ما بين موظف وعامل يترددون على مراسي القطيف، ودارين، والجبيل، وسيهات، وصفوى، والدمام، والخبر، ومنيفة، وبحسب صيادين تحدثوا لـ»الاقتصاد»، فإن أحد أسباب المشكلة يعود إلى بعض القرارات، حيث أدت لتراجع أعداد الصيادين خلال السنوات الماضية، مما قاد لتراجع كميات الأسماك التي يتم صيدها، وانعكس ذلك على الأسعار في الأسواق.

سجلت الأسعار ارتفاعاً خلال الأشهر الماضية، بنسبة تتراوح بين 30 و %40 خلال العام مقارنة بالعام الماضي، وقفز سعر الشعري إلى 550 ريالاً مقابل 400 ريال للمن زنة 16 كيلوغراماً، فيما ارتفع سعر الهامور بنسبة %20 ليستقر عند 900 ريال مقابل 750 ريالا للمن، وارتفع سعر سمك الكنعد بنسبة %15 ليصل إلى 620 ريالا.

وتترواح أسعار الروبيان مابين 380 إلى 1050 ريالا، بحسب الحجم.

ويشير بعض الصيادين إلى قرار مركز الثروة السمكية التابع لوزارة البيئة والزراعة والمياه، المتضمن حرمان الصياد الحرفي (وارث المهنة) من الحصول على الطراد المصنف ضمن السعودة، وأن القرار الذي تم تطبيقه مؤخرا، حرم الصيادين الأساسيين من بعض المزايا التي كانوا يحصلون عليها قبل تطبيق القرار، إضافة إلى أنه قلل من نشاطهم.

وطالب الصيادون بإشراكهم في أي إجرءات جديدة خصوصاً أنهم يعملون بلا ضمان اجتماعي ولا رواتب تقاعد.

أعداد أقل

فضل البوعينين

يعاني الصيادون، خاصة في المنطقة الشرقية، من عدم توفر عمال سعوديين يقومون بعملية الصيد، بسبب شروط مكتب العمل قبل أن يؤجل تنفيذ القرار، مطالبين بإعادة النظر في إلزامهم بتوظيف سعوديين لا يرغبون في العمل في البحر، بسبب تراجع المردود المادي، وما تحمله المهنة من مخاطر ومتاعب جمة.

وكان قرار فرض صياد سعودي على كل مركب مجال مناقشة وحوار بين وزير البيئة والمياه والزراعة المهندس عبدالرحمن الفضلي وعدد من الصيادين، خلال لقاء جمعهم في غرفة الشرقية في ديسمبر الماضي، حيث طالب الصيادون الوزارة بالرجوع عن مشروع «صياد» أو تعديله ليكون عاملا على الأرض، وطالب الصيادون الوزارة بأن تحمي مصالحهم.

وأدت مجموعة من العوامل إلى تراجع عدد مراكب الصيد في المنطقة لأكثر من النصف، حيث يوجد حاليا نحو 450 مركبا في القطيف و500 مركب في دارين، بينما يوجد 650 مركبا في الجبيل، ولكن قرابة نصف هذه المراكب معطلة بسبب تحديد الوزارة لعدد العاملين من الجنسية الهندية الأكثر دراية بالبحر بثلاثة عاملين فقط لكل مركب.

ويحاول الصيادون تسويق الكميات القليلة التي صادوها بأسعار تجعل من رحلتهم التي تمتد لنحو خمسة أيام داخل البحر مجدية.

أحد كبار الصيادين في سوق القطيف، حسين البناي يؤكد أن الأسعار ارتفعت بسبب قلة المعروض من السمك، يقول البناي لـ»الاقتصاد» التي تابعت جلسة البيع اليومية التي تتم بطريقة «المزاد»: هناك عدة أسباب لنقص كميات الأسماك التي يتم صيدها، ولا نعلم السبب الحقيقي وراء ذلك، هناك قلة في عدد الأسماك التي يتم صيدها، وباتت الكميات لا تكفي، وهذا يرفع الأسعار كثيرا ويصيبنا بالركود، معظم الأسماك التي نصيدها تتجه لمناطق أخرى، خاصة الرياض التي تعتبر سوقا كبيرة، وهذا يقلل الكميات التي تذهب للمنطقة الشرقية. ويضيف: نطالب بزيادة مدة البقاء في البحر، والتي كانت في السابق عشرة أيام، فالأسماك الموجودة لا تكفي، ولولا الأسماك التي تأتي من الخارج لكانت الأسعار أعلى. ويشدد البناي ــ الذي ورث المهنة من والده ــ أن هناك الكثير من الأسباب وراء التراجع، عدا القيود التي يعانون منها، ويضيف: لا نعلم سبب تناقص كميات الأسماك، هل بسبب دفن الشواطئ وإزالة أشجار المانغروف، أو بسبب التغيير المناخي، فهذه أمور خارجة عن اليد.

عوامل عدّة وراء تراجع عدد “مراكب” الصيد %50

آل خريدة: «المراكب» تفضل الروبيان بسبب عائده

البوعينين: مراجعة الأنظمة ضرورة ولابد من إشراك رؤساء الصيادين في وضع التشريعات

ويشدد البناي على أن هناك ندرة في السعوديين الذين يرغبون بالعمل في هذا المجال لصعوبته، حيث يتطلب ضرورة البقاء في عرض البحر لخمسة أيام، وفي النهاية لا يكون المقابل المادي مجزيا، ويضيف: أجلت وزارة العمل مشكورة قرار سعودة مراكب الصيد وفرض صياد سعودي واحد على الأقل على كل مركب وهذا أمر جيد، ولكن المطلوب إلغاؤها تماما، لأنه لا يوجد سعوديون يرغبون في العمل في هذا المجال.

الكثير من القيود

في الاتجاه ذاته يشكو حسين البقال، صاحب مركب صيد متوسطة، من كثرة الأماكن التي لا يُسمح بالصيد فيها، إضافة لتراجع المقابل المالي الذي يحصل عليه الصيادون، مما يضطرهم إلى رفع الأسعار لتعويض المصاريف التي يتكبدونها. يقول البقال لـ»الاقتصاد»: تشترط وزارة الزارعة ومكتب العمل أن يكون راتب السعودي الذي يرغب في العمل كصياد ألف ريال للستة أشهر الأولى، هذا الأمر يجعل المهنة غير مرغوبة، خاصة وأن الراتب في نهاية المطاف لا يزيد على 3000 ريال، على الرغم من المعاناة الكبيرة التي يتكبدها الصياد، ولهذا نتفق مع عمالة أجنبية لأنها هي من تقبل بهذا العمل.

حبيب أحمد آل خريدة

يؤكد البقال على أن طريقتهم في التعامل مع الصيادين تكون بتقاسم الأرباح، بعد خصم المصاريف التي ينفقونها من طُعوم وشباك ووقود، وفي نهاية المطاف لا يزيد ما يحصل عليه الصياد في الشهر على 5000 ريال، يتقاسمها صاحب المركب مع الصيادين، ويضيف: الآن، معظم المراكب متوقفة ولا تعمل، كما أننا لا نستطيع البقاء في البحر أكثر من أسبوع، ولا نستطيع تجاوز المياه الإقليمية، ولو أي مركب تجاوز تلك الحدود يتم سحب ترخيصه، وهناك أماكن يُمنع المرور فيها، وتكون غرامة المخالفة كبيرة جدا.

عمالة وافدة

تملك السعودية أكثر من 1100 كيلو متر من الشواطئ التي تطل على الخليج العربي، وأكثر من 2600 كيلو متر على البحر الأحمر، ولكن قلة منها تستغل جيدا في الصيد، في العام الماضي كان يدخل السوق في المنطقة الشرقية أكثر من 420 طناً من الأسماك والروبيان يومياً، حاليا بالكاد يصل الرقم لـ 279 طناً مع تراجع أعداد المراكب العاملة على شاطئ الخليج، غالبيتها طرادات صغيرة، وتراجعت أعداد الصيادين من قرابة العشرين ألف صياد إلى أقل من 12000 فقط، بسبب صعوبة التصاريح وتوقف المراكب.

بحسب صيادين، تسبب دخول عمالة عربية لا تلتزم بقوانين حجم شباك الصيد أو أماكنه في تراجع أعداد الأسماك الكبيرة، فمع أن وزارة الزراعة تحدد حجما معينا لفتحة شباك الصيد، لكي تكون قادرة على صيد الأسماك الكبيرة، إلا أن الكثيرين من أصحاب المراكب الصغيرة لا يلتزمون بذلك، فيصيدون السمك الصغير مع الكبير، مما يهدد تكاثر تلك الأسماك.

سمير العثمان

ويرمي كبير محرجي سوق السمك في القطيف حبيب الخريدن باللائمة على مجموعة من الأسباب كانت نتيجتها قلة كبيرة في المعروض، أهمها  توجه الصيادين في هذه الفترة لصيد الروبيان بدلا من الأسماك، ويقول لـ»الاقتصاد»: غالبية المراكب تفضل صيد الروبيان لأن عائد صيده أفضل، وبسبب قلة الأسماك في السوق يرتفع سعرها، هذا الموسم جيد جدا للروبيان، وهو متوفر بشكل جيد، ولو أننا نعاني من تغيير أماكن صيده، وكثرة الأماكن التي يُمنع الصيد فيها، وهي أمور لم تكن موجودة في السابق. ويضيف: بشكل عام الأسعار مرتفعة حتى في الشتاء، علينا أن لا نحمل وزارة العمل كثيرا، ولكن كثيرا من المراكب واقفة عن العمل بسبب قلة العمالة، حتى مع إيقاف العمل بسعودة قطاع الأسماك لفترة مؤقتة.  ويضيف أننا نعاني من صعوبة توفير عمالة سعودية حتى في المكاتب، نحن نحاول دعم توطين المهنة، ولكن مهنة الصياد تحتاج لخبرة طويلة، فدخول البحر ليس مهنة عادية، وتحتاج  الكثير من المعارف، وهي مهنة عالية الخطورة، فنحن نعمل على مراكب تقليدية صغيرة، وليست مراكب كبيرة، فليس فيها حتى دورات مياه وغرف للنوم.

العثمان: الكميات تراجعت والمحظوظ ينجح في صيد 30 صندوقا

«صياد» برنامج يستهدف تدريب 500 في 3 أسابيع

خطة لإنشاء 3 معاهد لتعليم صيد الأسماك ضمن مشروع «صياد» الذي أطلقته وزارة البيئة والمياه والزراعة

يتفق سمير العثمان، وهو صياد وصاحب مركب للصيد، مع الخريدن في أنه في مثل هذا الوقت تبدأ كثير من المراكب في الاتجاه لصيد الروبيان، مما يقلل من كمية السمك، ولكن حتى الروبيان ــ بحسب العثمان ــ بات صيده أقل من المعتاد، بسبب كثرة دفن شواطئ البحر مما تسبب في انقراض أشجار المانغروف التي يتغذى عليها الروبيان، وكلها أمور جعلت من الغلة قليلة وذات نوعية غير جيدة. ويضيف: كان المركب الواحد يصيد أكثر من 100 صندوق كبير (الصندوق الواحد 32 كيلو جراما) ولكن اليوم لو خرجنا بـ 30 صندوقا نكون محظوظين.

ندرة في الأسماك

لم يكن من المعتاد أن تغيب وجبة السمك عن المائدة السعودية كثيراً، ولكن مع ارتفاع الأسعار، بات السمك صعب المنال على الكثيرين. يحذر الخبير الاقتصادي فضل البوعنين من نتائج هذه المشكلة، ويعتبر أن عدم اهتمام وزارة الزراعة بقطاع الأسماك ساهم في تفاقمها. ويتحدث لـ»الاقتصاد» قائلا: برغم الدعم الحكومي لقطاع صيد الأسماك، إلا أن مساهمته في الناتج المحلي محدودة جداً، ولا ترقى لأهداف رؤية 2030 أو الإمكانات المتاحة والدعم الحكومي، وأعتقد أن سبب محدودية مساهمته يرجع للتعامل الحكومي مع القطاع، واعتباره قطاعا للحرفيين بدل تحويله إلى قطاع منتج يعزز الصادرات ويوفر الطلب المحلي. ولعلي استثني بعض الاستثمارات في زراعة الروبيان التي بدأت تؤتي ثمارها في التصدير غير أن حجمها ما زال محدودا. ويتابع: العلاقة بين الصيد والأسعار طردية، فانخفاض المخزون السمكي وحجم الصيد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وهذا ما نراه اليوم، حيث وصلت الأسعار سقفها الأعلى بسبب قلة الصيد وبالتالي المعروض من الأسماك.

حسين البقال

ويشدد البوعنين على أن بعض التشريعات والقرارات التي تصدر من المكاتب دون إلمام بطبيعة القطاع أو احتياجاته تؤثر على الصيادين كثيرا، ويضيف: هناك أنظمة تطبق بشكل شمولي على الشركات الكبرى والمتوسطة والصغيرة والحرفيين أيضا دون تمييز، لذا تحدث معوقات وتحديات تحول دون تطوير قطاع الأسماك، وهناك قرارات حدت من الصيد البحري ومنها العمالة؛ وكوتا الجنسية للعمالة البحرية التي تفرض على الصيادين ورسوم العمالة ومعاملة الصيادين معاملة الشركات في بعض التشريعات، إضافة إلى تقلص أماكن الصيد بسبب توسع أرامكو السعودية في الحقول البحرية التي يمنع القرب منها. كل ما سبق يعتبر تحدياً حقيقياً ويؤثر سلباً في قطاع الصيد. يضيف البوعنين: يجب ان تكون هناك مراجعة شاملة للتشريعات شريطة أن يشارك في فرق العمل رؤساء الصيادين في المنطقة الشرقية ورؤساء الجمعيات لتوفير البيانات الدقيقة والمعرفة المطلوبة.

محاولات للتطوير

بهدف تطوير المهنة، وفتح آفاق جديدة لها، كشف الرئيس التنفيذي للبرنامج الوطني لتطوير قطاع الثروة السمكية، الدكتور علي الشيخي عن خطة لإنشاء ثلاثة معاهد لتعليم صيد السمك، ضمن مشروع «صياد» الذي أطلقته وزارة البيئة والمياه والزراعة قبل أشهر.

وسيكون اثنان من هذه المعاهد في المنطقة الغربية وثالثهما في الشرقية. والمستهدف في السنة الأولى تدريب 500 صياد سعودي، في حين سجل في البرنامج نحو 1600 طلب خلال ثلاثة أيام، وسيتم تدريب الصيادين في هذه المعاهد  من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. وأوضح الشيخي أن البرنامج يسعى لحماية الصيادين السعوديين من المنافسة غير العادلة مع الصيادين المقيمين، وتمكين الصياد السعودي.

أيضا أكدت إدارة أبحاث الثروة السمكية التابعة لوزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة الشرقية انتهاء أعمال مشروع مرفأ الصيد بمحافظة الخبر «الفرضة» وسيساهم المرفأ الجديد الذي بلغت تكفته 29 مليون ريال، ويتسع لـ 200 قارب، في تحسين المهنة والحفاظ عليها، وهو يحتوي على أرصفة بحرية لرسو القوارب، ومنزلق بحري لدخول القوارب وخروجها من البحر، وأيضا محطة وقود لخدمة قوارب الصيد وبرج مراقبة لحرس الحدود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.