أنا عاشق للغتي العربية، لكني لستُ طموحاً جداً لدرجة أن أتوقع إقبال سكان الدنيا على تعلم لغتي الحبيبة، فالعشق شيءٌ، وواقع اللغة الذي لا يُغري ولا يَسرُّ شيءٌ آخر. والعربية بلغة التسويق اليوم بضاعةٌ بائرة، إذا نظرنا إلى لغات شتى أخرى تلقى رواجاً وتمدداً كالإنجليزية والفرنسية والصينية واليابانية والإسبانية.
ولا يمكن عزل مستوى الإقبال على تعلم لغةٍ ما، عن حال الثقافة الناطقة بتلك اللغة، فمستوى الإقبال على اللغة يرتبط طردياً بقوة الثقافة وتفوقها وجودة منتجاتها الحضارية. وكما في التسويق عندما يُقبل الناس على منتجات الماركة القوية، فإن الثقافة القوية يُقبل الناس على لغتها وباقي منتجاتها. ولا نحتاج إلى أبحاث معمقة تثبت سوء حال الثقافة العربية ومدى التدهور التي آلت إليه. واللغة العربية، لولا تاريخها العظيم وإرثها الكبير والقيم الدينية السامية المرتبطة بها، لاندثرت وأصبحت نسياً منسياً. ولا يمكن الحديث عن لسان العرب دون ربطه بالإسلام، والقرآن الكريم تحديداً، ودورهما المركزي في تطور اللغة العربية ونشرها واتساع رقعة الناطقين بها، فالقرآن هو أول كتاب كُتِب باللغة العربية، وهو قلب الثقافة العربية والإسلامية.
يُقبل الناس على اللغة، ليس بالضرورة لمزايا أو خصائص كامنة فيها، بل لقوة الثقافة الحاضنة لها وسطوة تأثيرها الفكري وألقها الحضاري، وهذا ينطبق على العربية عندما توسع استخدامها بقوة سابقاً بفضل الإسلام والقرآن. وينطبق أيضاً على اللغة الإنجليزية التي لا يمكن تحليل الإقبال عليها دون النظر بتمعن إلى التفوق الكلي والتاريخ الاستعماري والتغلغل الجغرافي للإمبراطورية البريطانية في العصر الماضي حتى بات يُطلق عليها «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، تلاها زمنياً هيمنة الإمبراطورية الأمريكية وتفوقها في وقتنا الحاضر على الأصعدة كافة، حتى باتت اللغة الإنجليزية اللغة الأولى الأكثر استخداماً من غير الناطقين بها في كل أرجاء الدنيا.
من قواعد علم الاجتماع هيمنة ثقافة الأمة الغالبة، وأول من أشار إلى ذلك، ابن خلدون، إذ أطلق على أحد فصول مقدمته الشهيرة «الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده»، والعنوان يختصر فكرة الفصل ويغني عن قراءته.
وفي عصرنا، نجد إقبالاً كبيراً على اللغات الآسيوية مثل الصينية واليابانية والكورية، وذلك بسبب تفوق هذه الأمم في الصناعة والتجارة الدولية والابتكار، خصوصاً في المجال التكنولوجي، ما دفع الناس إلى الاهتمام بالثقافات التي أنتجت هذه الابتكارات والرغبة في فهمها والتعمق فيها بتعلم لغاتها.
ونجد أن خصائص بعض اللغات أدت إلى ارتباط بعض المنتجات ببعض الثقافات. وأضرب مثالاً بالثقافة الفرنسية، التي يرى كثيرون أن لغتها تُعد من أكثر اللغات إغراء وتغنجاً وتعلقاً بالحب والشاعرية، لذا ارتبطت بالموضة والأزياء والعطور والإكسسوارات الفارهة، وهي منتجات تشربت روح الثقافة الأصلية، حتى أصبحت باريس عاصمة الموضة العالمية، لدرجة أن المرء قد لا يستسيغ بسهولة فكرة أن تأتي الموضة والعطور من خارج فرنسا. وهذا ما دفع كثيراً من المصممين العالميين، مثل كينزو تاكادا الياباني وكارل لاغرفيلد الألماني وكريستوبال بالينسياغا الإسباني وغيرهم، إلى الانطلاق بابتكاراتهم «الموضوية» نحو العالم من باريس.
لم تعد الدول في حاجة إلى اللجوء إلى العنف والقتال لأغراض الإجبار والهيمنة، فلم يعد استعمال القوة العسكرية «الخشنة» مقبولاً في المجتمع الدولي الحديث، لذا برزت فكرة «القوة الناعمة» في عالم السياسة في التسعينات، ويقصد بها المقدرة على الجذب والإقناع والاستمالة بالتأثير ثقافياً وفكرياً في مجتمع ما عبر أدوات الثقافة الغازية ومنتجاتها، من فنون ـ الموسيقى والسينما ـ ورياضة ـ كرة القدم وبطولاتها ـ ووسائل إعلام، وآداب ـ القصص والروايات والخطابة ـ وموضة وأزياء، وعبر الريادة العلمية والمؤسسات الأكاديمية والبحثية، وكذلك من خلال التطور التقني الابتكارات.
وبنظرة سريعة للثقافة العربية المعاصرة، فلن نجد فيها عناصر «قوة ناعمة» كانت تُميّزها في عصور مضت، عندما كانت لغة العلوم والفنون، فبروز المسلمين آنذاك طوّر الفلسفة والفكر والأدب العالمي، ودخول الفنون الإسلامية كالعمارة والخط العربي أسهم في إثراء الحضارة الإنسانية. لكن الواقع العربي الراهن لا يبدو جذاباً، فالصورة العربية الحالية تشوبها عناصر منفّرة، كامنة بها أو مُلصَقَة بها، مثل التطرف والإرهاب والقمع والفساد والتخلف والأمية، فلا سينما جاذبة، ولا موسيقى رائجة، ولا رياضة متفوقة، ولا منتجات مطلوبة، ولا مؤسسات علمية بارزة، ولا نِتاج أدبي وعلمي مؤثر.
ولم ينشط تعلم اللغة العربية أخيراً في الغرب، إلا بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، ورغبة كثيرين هناك في التعمق في الثقافة العربية لأسباب استخباراتية أو إيديولوجية في الغالب.
ولنتأمل كيف أن تركيا مثلاً، وعبر مسلسلاتها الدرامية التاريخية والرومانسية، جذبت قلوب العرب والمسلمين، لدرجة دعت كثيرين منهم لتعلم اللغة التركية ـ الهامشية تاريخياً ـ إضافةً لتلميع صورة تركيا وتاريخها والترويج للسياحة فيها. وكيف أن تفوق اليابانيين بإبداعهم في الرسوم المتحركة ـ الأنمي والمانجا ـ قد جذب الكثيرين للتعرف على الثقافة اليابانية وتعلم لغتها، وكذلك الكوريون الذين برزت منهم فرق غنائية كثيرة أغرت مراهقي العالم بتعلم اللغة الكورية والانغماس في مكونات الثقافة الكورية الأخرى.
والآن، وبعد هذا السرد، أجدني مرغماً على الوقوع في حبائل الإحباط، لحال لغتي الحبيبة الذي لا يَسرُّ، مع أني من أشد المؤمنين بجاذبيتها وشاعريتها وقدرتها على التعبير والتعامل برشاقة مع مستجدات العصر، لكن دون امتلاكها لعناصر الجذب التسويقية حالياً لحال العرب الذي لا يمكن تسويقه. وحالي كحال الشاعر الذي ذهبَ مُردِّدَاً: زمزمٌ فِينا.. ولكنْ أينَ من يُقنعُ الدنيا بجدوى زَمزمِ!