لو خيرت شابا في العشرين بين كوب من القهوة من مقهى يحبه، وبين إفطار منزلي صحي و»فخم»، فغالبا سيختار كوب القهوة! الرجل في الأربعين والخمسين سيختار بالطبع الإفطار المنزلي، خاصة إذا كانت الزوجة ممن فهم الصداقة التي تأتي بعد ربع قرن من الزواج بشكل خاطئ واعتبرت أن من «الميانة» أن يدبر حاله كل صباح.
لو خيرت فتاة في بلد يمكن اعتباره جائعا وفقيرا بسبب الفساد أو قلة الموارد، بين أن تحصل على وسيلة تواصل حديثة وطاقة لشحن جهازها الذكي ليوم واحد، أو على طعام ذلك اليوم، لربما اختارت الطاقة والتواصل وأرجأت الطعام ليوم آخر، أو حظ آخر يقدم لها الخيار مجددا!.
تغيَّر نوع وعمق القلق لدى المجتمعات الحديثة، ولدى فئة الشباب على نحو خاص، فلم تعد المصاعب ذاتها، ولا الحاجات والرغبات نفسها، وما كان بالنسبة لجيل أو جيلين مضوا من الكماليات والرفاهية، ربما يكون اليوم ضرورة عند الشباب، سواء اختلفنا معهم أو اتفقنا، فهذه هي الحقيقة.
في ثورات الشعوب الأخيرة، وربما الشعوب العربية التي نعرف ثقافتها وجزءا من تاريخها الحديث على الأقل لاحظنا ذلك، فرغم أن الجوع لا يزال محركا أساسيا، إلا أنه ليس الجوع للطعام فقط، انضم إليه الجوع إلى الحرية، والجوع إلى الحداثة وما بعدها، وإلى الحق في تقنيات معينة، ومتطلبات ربما بعضها يثير الضحك، لكن يظل التأمل فيها مفيدا للخروج بتصورات جديدة عن أن الفقر نسبي، والجوع نسبي، وحاجات الإنسان التي تحددها الجغرافيا ويحاول من خلال التاريخ الحصول عليها تختلف وتتباين تباين ثقافات وحاجات الناس.
الرغبات تتغلب على الأيديولوجيا، بات هذا واضحا في أكثر من مكان سواء كان مشتعلا بالثورات، أو مستقرا ومحققا النجاح في الانتقال السلمي بين مرحلة وأخرى من تاريخ شعبه، وتحقيق هذه الرغبات ربما وضع الميزان بين فكرة تحول المال إلى هوس يلاحقه البشر ـ بغية تحقيق الرغبات أو تحقيق السيطرة ـ وفكرة أن هناك سعادة يمكن أن تتأتى من ملذات لا تحتاج إلى المال، فأية كفة سترجح؟.
يبدو السؤال افتراضيا فلسفيا أكثر من كونه عمليا واقعيا، فالإجابات أو الكفة التي سترجح تختلف من شعب لآخر، وهي ضمن كل شعب أو أمة تختلف من فرد لآخر.
كل ما يحدث في العالم اليوم يثير مزيدا من الأسئلة، وأكثر الأسئلة لا إجابات محددة وواضحة لها، ويبدو أن زمن الإجابات القاطعة قد ولى، وإذا ربطنا ذلك بسطوة الرغبات في مقابل الأيديولوجيا، يمكننا القول بحدوث ثورات وانقلابات على الأفكار البشرية، وعلى الحاجات الأساسية، وربما نسمع قريبا من ينادي بالحق في الاتصال والتواصل الكوني قبل المناداة بالحق في الحصول على فرصة عمل أو تعليم جيد، وربما حتى على حكومة نزيهة إذا ذهبنا بعيدا جدا في تصور مدى انبهار الأجيال الجديدة بعوالمهم الجديدة التي يتوهمون أنها من صنعهم.
من الكوارث المحتملة لتغير أنماط التفكير وممارسة الحياة أن تتحول النظرة إلى المال والاقتصاد من كونهما نشاطا يمارس للحصول على الثمار، إلى أنه مجرد «موضوع» وهنا ربما تقع كثير من الشعوب في «الفخ»، أية فخ؟ عليك أن تخمن.
يقول الفيلسوف الألماني نيتشة: «لابد من أن نتعلم معاناة كل ما نعجز عن تجنبه» وهذا صحيح بالنسبة للكثيرين، ولكن ما يظهر على السطح وما يفرزه «التسطيح» العالمي الممنهج للحاجات البشرية هو «تعلم تجنب كل ما يسبب المعاناة»، وقد يبدو هذا حسنا، لكن في العمق إبعاد للإنسان عن بشريته شيئا فشيئا.