تعد الأبحاث العلمية أحد القواعد الأساسية التي تنطلق منها نهضة الدول وتقدمها على كافة الأصعدة سواء سياسية، اقتصادية، تنموية وحتى الاجتماعية، الذي يعتبر أهم المقاييس للدول. ويساهم الإنفاق على البحث والتطوير بشكل مباشر في النمو الاقتصادي للدول، وذلك مثبت في الدراسات الأكاديمية، ففي بريطانيا على سبيل المثال، يعود كل جنيه استرليني ينفق في البحث والتطوير على الاقتصاد البريطاني بسبعة أضعافه.
وهنا نشاهد التفاوت الكبير بين الدول، ليس على مستوى الموارد أو الحجم أو حتى على مستوى عدد السكان، بل يعود لمستوى ما تستثمره تلك الدول في البحث العلمي لتطورها ونهضتها، وأظهرت دراسات أن سبب التفوق التقني للولايات المتحدة على أوروبا كان بسبب ضعف الإنفاق الأوروبي على البحث والتطوير. كما يساهم هذا الإنفاق في زيادة الابتكار لدى القطاع الخاص، مما يعطيه ميزة تنافسية تساعد في نموه على المدى البعيد.
وهنا نشاهد كوريا الجنوبية تتصدر العالم من حيث الإنفاق على البحث والتطوير ليبلغ ما تصرفه نحو 4% من مجموع الناتج القومي منافسةً الاقتصاديات الكبرى في العالم، لتصبح الآن الاقتصاد الحادي عشر ترتيبًا في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي.
وتعد التحولات الاقتصادية لكوريا الجنوبية قصة ناجحة، والتي بدأت كاقتصادٍ قائمٍ على الزراعة بعد نهاية الحرب بين الكوريتين في الخمسينيات، ليتولى الجنرال “بارك تشونغ” دور الرئيس، والذي لعب دورًا محوريًا في تنمية اقتصاد كوريا الجنوبية من خلال تحويله إلى اقتصاد صناعي موجه نحو التصدير لتصبح إحدى النمور الآسيوية الأربعة التي جذبت انتباه العالم بنموها الاقتصادي السريع في الستينيات والسبعينيات. كوريا الجنوبية لم تتوقف عند هذا الحد بل عملت على دعم الأبحاث العالمية والتطوير الذي تعتبره أهم مصادرها الذي تنافس به كبريات الاقتصاديات العالمية.
وفي السعودية، حددت رؤية 2030 ثلاثة موضوعات رئيسية لتقدم البلاد وهي “مجتمع مفعم بالحيوية، واقتصاد منتعش، وأمة طموحة” وأوضحت الرؤية أهمية التركيز على الابتكار في التقنيات المتطورة وريادة الأعمال، إضافة إلى رفع مساهمة المنشآت المتوسطة والصغيرة في إجمالي الناتج الوطني من 20 إلى 35%.
وحينما زار ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية قبل عامين مدشناً 7 مشروعات استراتيجية، في مجالات الطاقة المتجددة والذرية وتحلية المياه والطب الجيني وصناعة الطائرات، كانت رسالة أن البحوث العلمية والتطوير هما البوابة لاقتصاد حيوي متجدد ومتين، مع الإيمان بأن البحث والتطوير لن يكون على المدى القصير، بل هو خيار مهم يمتد لسنوات طويلة معبراً عن مدى الالتزام بتوليد أفكار جديدة قد تؤدي إلى منتجات وعمليات وخدمات جديدة تعمل على نمو البلد في كافة المجالات، واحتلت السعودية المرتبة 42 عالميا في الإنفاق على البحث والتطوير بإنفاق يصل 0.8% من إجمالي الناتج المحلي.
وبالنظر إلى الدور المأمول من القطاع الخاص في رؤية 2030، فإن القيام بأنشطة البحث والتطوير وزيادة الإنفاق عليهما قد يساعد القطاع الخاص في المساهمة الفعالة في الاقتصاد السعودي، من خلال الارتقاء بمنتجاته وخدماته لتتمكن من المنافسة العالمية وإعطاء القيمة المضافة للاقتصاد الوطني. إلا أن إنفاق القطاع الخاص على البحث العلمي والتطوير شبه معدوم باستثناء شركتي أرامكو وسابك اللتين بادرتا بتخصيص جزء من ميزانيتهما السنوية للبحث والتطوير، رغم أن البحث والتطوير هو استثمار مربح على المدى البعيد، خاصة إذا كان موجها لأولويات تطوير منتجات وخدمات تلك الشركات.