دائما ما نسمع أن البورصة تسبق الاقتصاد، وتعطي بعضا من الإشارات، وعند حدوث ركود اقتصادي مترافق مع انهيار في الأسواق، يكون التعافي سريعا في البورصات، بينما من جهة الاقتصاد، فإن الطبيعي أن تأخذ الحلول مدة لكي يظهر أثر ذلك، لأنك تتكلم عن أضرار مع تداعيات كبيرة تطول سوق العمل.
الأزمة الحالية، ليست أزمة تراجع النشاط الاقتصادي، بل توقف شبه كلي للاقتصاد عن العمل، وإغلاق تام قي بعض القطاعات. كان ملفتا ارتداد الأسواق بقوة وبسرعة وعودة المؤشرات الرئيسية إلى مستوياتها قبل جائحة كورونا، لا بل إن مؤشر ناسداك استمر في ممارسة هوايته في تحطيم الأرقام القياسية جلسة بعد أخرى، وغير مهتم بظهور موجة ثانية تؤدي إلى إغلاق الاقتصاد مرة جديدة، أو ارتفاع كبير في عدد الإصابات أو بيانات وأرقام سلبية ترسم واقع الاقتصاد.
أما أسهم شركات التكنولوجيا، فابتعدت قيمتها السوقية كثيرا عن الأسهم في القطاعات الأخرى، بعد قفزات قوية وذهبت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وسجلت بدورها مستويات قياسية لم تستطع تسجيلها وقت الرالي السابق للسوق الأمريكي عندما ذهب مؤشر داو جونز إلى قمة تاريخية فوق 29.500 نقطة في شهر فبراير قبل أن ينهار بعدها بـ 11 ألف نقطة، ولم يكن وقتها أي احتساب لجائحة كورونا.
وكانت الأخبار التي تأتي عن الحرب التجارية أو احتمال الإعلان عن تعريفات جمركية على بعض من الشركات الأوروبية، أحيانا تعرقل الارتفاعات، ولم يكن هناك سبب جوهري يوقف الصعود القوي للسوق. نادي التكنولوجيا والشركات التي تخطت قيمتها السوقية تريليون دولار خاصة آبل ومايكروسوفت وأمازون التي هي في صراع مستمر على انتزاع الزعامة ولقب أكبر شركة أمريكية.
إضافة إلى هذه الشركات، هناك أيضا الشركات التي استفادت من ظروف الجائحة، وأصبحت تعرف بشركات العمل من المنزل مثل شركة زووم، والتي تخطت قيمتها السوقية أكثر من 70 مليار دولار، واستفاد مؤسس الشركة أريك يوان من هذه الأوضاع، بعدما قفزت ثروته 8 مليارات دولار في فترة كورونا. واستطاع نشر التطبيق بقوة في هذه الفترة بعد اعتماده في عدد كبير من المدارس والجامعات والمستشفيات والقنوات التلفزيونية، رغم المآخذ الكبيرة والملاحظات الكثيرة بخصوص ثغرات الأمن والخصوصية وأحيانا بشأن هواجس التجسس لأن ثلث القوة العاملة عنده موجودة في الصين.
في المقابل يؤكد دائما المؤسس انتماءه للثقافة الأمريكية، وهو الذي حصل على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة بعد 8 محاولات فاشلة قبل أكثر من 20 عاما. طبعا هناك برامج وتطبيقات أخرى برزت أيضا في هذه الفترة، واستفادت مثل “ويبكس” التي استحوذت عليها شركة سيسكو في عام 2007 في مقابل 3.2 مليار دولار وكان أريك يوان يعمل مهندسا في تلك الشركة فأصبح تلقائيا ضمن سيسكو قبل أن يترك ويستقيل ليذهب ويؤسس زووم في عام 2011.
عرفت الأسهم تقلبات عالية وكانت الأسواق تريد أن تعطي الأسباب، لكن الملفت أن العناوين كانت تتغير بقوة خلال 24 ساعة فقط ثم ما تلبث أن تعود إلى نفس الحالة. فمثلا عند حصول ارتفاعات كانت أهم الأسباب هو التفاؤل بعودة فتح الاقتصاد، وعند حصول تراجعات كبيرة يكون في الواجهة تزايد عدد الإصابات وكأنها لم تكن موجودة في جلسة البارحة.
نفس سيناريو الحرب التجارية كانت العناوين أيضا تتغير 180 درجة في اليوم التالي. عدا أسباب الصعود والهبوط، كان مؤشر التقلبات أحيانا لا يتفاعل مع تراجع الأسواق، ومستويات الهدوء التي يتوقف عندها هذا العام، كانت العام الماضي هي مستويات خوف ورعب للأسواق، ولكن كما تعلمون سنة 2020 هي سنة مختلفة في كل شيء، وبالتالي لا تصلح المقارنة مع السنوات الماضية.
ربما أسعار النفط ومؤشر التقلبات هما الأكثر دقة في إعطاء صورة عن حالة الاقتصاد في كل فترة وعن عودة الاقتصاد تدريجيا وعودة الطلب العالمي، لأن أسواق الأسهم بقيادة أسهم التكنولوجيا والتي أخذت دور القطاع الدفاعي في حماية السوق، وأيضا في حال الارتفاع أصبحت اللاعب المؤثر، وهي تحلق بعيدا عن وضع الاقتصاد الفعلي، وهنا أيضا يبرز دور الاحتياطي الفيدرالي الذي استطاع أن يحمي الأسواق، ويثبت في كل مرة أنه اللاعب الأول وله كلمة الفصل دائما، والبارز أيضا في قدرته على إصلاح الوضع وبوقت قياسي على شكلV
ولكن في المقابل مشاكل الاقتصاد بالطبع تختلف كليا، وتأخذ وقتا، حتى أننا لا نعرف ما إذا حزم التحفيز ستكون كافية لعودة النمو في المستقبل أم فقط ستكون للتصدي للجائحة. وهنا نشير إلى عدم إغفال التأكيد الدائم للفيدرالي في استعمال جميع الأسلحة، وكل ما يلزم لحماية الاقتصاد.
وهنا السؤال المهم هل ينجح الفيدرالي في استعادة النمو؟! ولكن ماذا عن ملايين الوظائف، خصوصا أن إعادة جميع الناس إلى وظائفهم حتى مع عودة النمو سيكون صعبا، بعدما كشفت كورونا عن إمكانية الاستغناء عن الكثير من النشاطات والأدوار. استعادة النمو سيكون تحديا كبيرا للاقتصاد العالمي، أما استعادة الوظائف فهي المهمة الصعبة والشغل الشاغل لسوق العمل وتمثل الأمن الاقتصادي والاجتماعي.