نافذة

خواطر غبية عن “الذكاء”

العلاقة ما بين العقل والعاطفة ملتبسة عند الكثير من الناس بنسب أو حدود متفاوتة، ويعتقد البعض أن التفكير ينجح عند غياب العاطفة، والأمر أن هناك مدارس كثيرة وتباينات في هذا الشأن، ما بين من يؤكد أن العواطف القوية تصعب التفكير بصورة سليمة، وبين القائلين إن التفكير الخالي من العاطفة لا يؤدي إلى اتخاذ قرارات صحيحة.

وكعادة البشر في الذهاب إلى النقيضين، يحرص كل فريق على التمسك برأيه رغم أن الأمر لا يعدو كونه افتراضات ليس من “الذكاء” الانسياق وراءها بالكلية، وبما أن الإنسان مكون من عقل وعاطفة، فالمطلوب ـ فيما أحسب ـ إيجاد أو خلق التوازن بين العقل والعاطفة، إذا استطاع صاحب العاطفة إلى ذلك سبيلا، على افتراض أن صاحب العقل أكثر منه استطاعة.

كتاب “الذكاء العاطفي” لدانيال جولمان الذي صدر قبل نحو ربع قرن جعل المصطلح الذي عُنون به من أهم الموضوعات انتشارا وتداولا بين دوائر الشركات والجامعات خصوصا، أن كثيرا مما كتب يعتبر بمثابة تفكيك عميق لفكرة أو ممارسة الذكاء الاجتماعي الذي يهم أصحاب الأعمال كثيرا، لأنه يرتبط بالقدرة على فهم الناس، وفهم الناس يعني فهم الشركاء، والعملاء، والمنافسين، ومصدري القرارات الاقتصادية، والقائمة طويلة.

اليوم يبدو التعامل ضمن العلاقات الإنسانية، وما يندرج تحتها من علاقات اقتصادية وتجارية، ليس بالضرورة أن يكون عبارة عن القدرة الشاملة على التصرف وعلى التفكير بعقلانية وعلى التعامل مع البيئة المحيطة بفاعلية، لماذا؟ لأن البيئة تطورت دراماتيكيا وبشكل متسارع أثر على الناس، ولأن بيئات التعامل والأسواق والبيع والشراء، وحتى التعاملات الإنسانية العاطفية دخلت فيها عوامل “الافتراضي” في منافسة قوية مع “الواقعي”.

لم يعد يمكنك وأنت تحاول ممارسة الذكاء العاطفي، أيا كان موقفك من علاقة العقل بالعاطفة الاعتماد في قراراتك العملية على عناصر عقلية بحتة، أو عاطفية مستقبلة، أو حتى المزج بينهما دون أن تُدخل عنصرا ثالثا يجمع كثيرا من العوامل، وإن لم ينجح إلى الآن في ترتيبها، هذا العنصر هو الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وغرق الكثيرون حتى الإدمان في السعي وراء العالم الافتراضي أكثر من محاولة استيعاب العالم الواقعي.

في الماضي كان يكفيك قدر من ذكائك الشخصي، ومراقبتك لذاتك مع مراقبة انطباعية لعواطف وانفعالات الآخرين واستخدام المعلومات لبناء خطة تسويقية مثلا، أو تصنيع منتج، أو استيراد سلعة، وابتكار خدمة، واليوم لا يكفيك ولن يكفيك ذلك، لأن الشاشات تموج في بعض، والعقول تموج في هذه الشاشات، والعواطف متذبذبة في مرحلة إنسانية مازالت عصية على الفهم الكامل، أو الترويض، لاستثمارها بالشكل الصحيح في أي مجال.

كان الاستخدام الذكي للعقل في استثمار عواطف الناس لتحقيق نجاحات في الأعمال أسهل في الماضي لوجود سهولة نسبية في فهم الناس، واستنباط ما تحتاجه من مهارة، أو أفكار لتحويل فهمك هذا إلى مكاسب، ويبدو أن ذلك ما عاد ممكنا على إطلاقه، فالتشويش الحاصل من ملاحقة الناس لكل هذا الزخم الرقمي والإلكتروني كبير وكثير، والرؤية ليست دائما واضحة، وربما تتغير ثوريا بأسرع مما اعتادته من دورات الاقتصاد أو الاستهلاك أو حتى الموضة.

كان يكفي بناء الذكاء العاطفي لأي شخص لتحقيق النجاح، ويبدو اليوم أن ذلك لم يعد كافيا في بعض المجالات، فهناك نجاح للتفاهة والغباء لا يمكن فهمه، وهناك معايير نجاح ليس من ضمنها المثابرة أو التخطيط والاستراتيجية ورأس المال، وإذا كانت الشركات أو بعضها دأبت على تنمية المهارات الفنية والقدرات العقلية والمعرفية لمنسوبيها أو لأصحابها، فبعضها اليوم يحتاج إلى إعطاء دورات تحليلية لسبر أغوار التفاهة والغباء الذي تكرسه بعض التطبيقات ووسائل التواصل ونجوم المرحلة لإعادة صياغة أفكارهم، أو ربما حتى نماذج أعمالهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.