عام 2022م شهد اكتشاف سبعة حقــــول جديــــدة للغـــاز الطبيعي في المملكة
الحقــول المكتشفــــة تدعــــم خطة البلاد نحو مزيـــج طاقــة مستــدام وصديق للبيئة
آل الشيخ: المملكة لديها استراتيجية تحويليـــة، ولن تبــنـــي خططها على أحداث وقتية
بن جمعة: تعتمد صناعة البتروكيماويات ومحطـات التحليـــة وتوليــــد الكهرباء على الغاز
المقبل: قرار التصدير من عدمه يخضع لسياســـة الدولــــة في الاتجــاه نحو التنافسية في الأسواق
يمثل دخول المملكة مجال تصدير الغاز الطبيعي (Natural gas) خطوة هامة على طريق بناء إمبراطورية للغاز الطبيعي لأكبر مُصدّر للنفط الخام في العالم، علاوة على تعزيز مكانتها كمورّد موثوق للطاقة من خلال دعم الأسواق العالمية وسدّ الطلب من الغاز خاصة لدول أوروبا الباحثة عن موردين آخرين لتغطية احتياجاتها من الطاقة بدلاً من اعتمادها على الطاقة الروسية.
حاليًا تمتلك المملكة رابع أكبر احتياطي عالمي من الغاز في العالم، لكنها تنتج قدرًا يسيرًا منه بحوالي 13 مليار قدم مكعب في اليوم، غير أن هذه الأرقام في طريقها للتغيير، بعد أن خطت خطوات كبيرة نحو زيادة الإنتاج وسط توقعات بزيادة الطلب المحلي إثر الانتعاش الاقتصادي، واستراتيجية وزارة الطاقة لتعزيز دور الغاز والطاقة المتجددة في توليد الكهرباء.
ومع نهاية العام الماضي 2022م شهد الغاز في المملكة طفرة جديدة، بعد الإعلان عن اكتشاف حقلين جديدين، ليرتفع عدد الحقول المكتشفة إلى سبعة حقول، وهما حقل “أوتاد” جنوب غرب حقل الغوار على بعد 142 كيلومترًا جنوب غرب مدينة الهفوف، وحقل “الدهناء” على بعد 230 كيلومترًا جنوب غرب مدينة الظهران.
حبيس الحقول
ويــحــظـــى ذلك المــــزيـــــج من المــــــواد الهيدروكربونية وغير الهيدروكربونية، باهتمام عالمي متزايد، كثروة طبيعية مهمة، كواحد من مصادر الطاقة، وأيضًا كمادة أولية لعدد كبير من الصناعات البتروكيميائية، فهو وقود انتقالي أقل انبعاثًا لغازات الاحتباس الحراري، بقي لعقود طويلة حبيس الحقول أو مادة غير مرغوب فيها يتم التخلص منها بحرقها.
ومع ارتفاع أسعار النفط عالميًا، واكتشاف قدرته كمادة أولية يمكن أن تستغل لإنتاج طائفة كبيرة من المركبات والمواد الكيميائية الصناعية المهمة، أدى إلى زيادة الاهتمام بالغــــــاز الطبيعـــي، وأصبــــح مصــــدرًا مهمًا للطاقة العالمية.
وفي ظل أن أجندة تحول الطاقة التي قد تواجه بعض التحديات في الإنتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة بصورة سريعة، ومع زيادة مخاوف أمن الطاقة، وبدء الإتجاه بالتركيز على تقليل الإنبعاثات من قطاع النفط والغاز في ظل عدم رفاهية الإستغناء عن الوقود الأحفوري، فضلاً عن استمرار ارتفاع الطلب على ذلك الوقود الأحفوري، في الوقت الذي تشتعل أسعاره عالميًا سواء بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا أو فيروس كورونا، أصبح الطلب العالمي على الغاز يأخذ منحى تصاعديًا.
خمسة حقول
ويــتـــم الآن في المملــكــــة توجيـــــه الغاز للاستهلاك المحلي والصناعات التحويلية، غير أنه مع بداية العقد القادم، ستتجه لتصدير الغار للعالم، وقد توقع تقرير لبلومبيرج أن يتضاعــــف الإنتــــاج من 360 مليـــون طـــن متري إلى حوالي 700 مليــون طــــن متــــري عام 2040م.
ووفقًا لبيانات رسمية يقدر احتياطيات الغـــاز في المملكـــــة بنحــــو 298 تريليـــون قدم مكعب، فيما قدرت تقارير أخرى احتياطي المملكة من الغاز بعد الاكتشافات الجديدة بنحو 324.4 تريليون قدم مكعب، ممتلكة لرابع أكبر احتياطي في العالم من الغاز الطبيعي.
وكانت المملكة قد أعلنت مع بدايات العام الماضي عن اكتشاف خمسة حقول للغاز الطبيعـــي وهي حقــــل شــدون في المنطقة الوسطى على بعد 180 كيلومتراً جنوب شرق مدينة الرياض، وحقل شهاب في منطقة الربع الخالي على بعد 70 كيلومتراً جنوب غربي حقل الشيبة، وحقل الشرفة في منطقة الربع الخالي على بعد 120 كيلومتراً جنوب غرب حقل الشيبة، وحقل أم خنصر للغاز الطبيعي غير تقليدي، في منطقة الحدود الشمالية على بعد 71 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة عرعر، وحقل سمنة في المنطقة الشرقية جنوب حقل الغوار على بعد 211 كيلومتراً جنوب غربي مدينة الظهران.
وتأتي هذه الاكتشافات بعد عامين من الإعلان عن خطة لتطوير حقل الجافورة، الذي يعد أكبر حقل للغاز غير المصاحب غير التقليدي يتم اكتشافه في المملكة بطول 170 كيلومترًا وعرض 100 كيلومتر، ويقدر حجم موارد الغاز في مكمنه بنحو 200 ترليون قدم مكعب من الغاز الرطب الذي يحتوي على سوائل الغاز في الصناعات البتروكيماوية والمكثفات ذات القيمة العالية.
ومن المتوقع أن يُساهم الحقل في توليد الكهرباء من الطاقة النظيفة، والإستغناء عن استخدام أكثر من 300 ألف برميل من النفط الخام يوميًا وتوفيرها للتصدير مع بدايات 2025م، وهو ما أكده رئيس شركة أرامكو المهندس أمين حسن الناصر، بأن إنتاج الحقل سوف يبدأ في منتصف عام 2025م على أن يزداد الإنتاج تدريجيًا حتى عام 2030م ليصل إلى 2 مليار متر مكعب يوميًا، بإجمالي استثمارات رأسمالية وتشغيلية أكثر من 100 مليار دولار خلال الـ 20 عامًا القادمة.
أبعد من الاستهلاك المحلي
وترى المملكة في رفع إنتاجها من الغاز أهدافًا أبعد من الاستهلاك المحلي على أهميته، فهي تعتزم جعل شركتها الوطنية أحد أهم مصدري الغاز في العالم، خاصة أن الغاز يشكل على المديين المتوسط والبعيد، مادة أولية ذات إمكانات واعدة للنمو أكثر مما يتيحه النفط، وسبق أن أكد وزير الطاقة، الأمير عبدالعزيز بن سلمان، في 16 فبراير 2020م وقبل بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا على أن المملكة ستعمل على تصدير الغاز مستقبلاً، وأكد خلال تدشين فعاليات مؤتمر سابك 2020م، والذي أقيم في المنطقة الشرقية على أن استغلال النفط والغاز سيحدث نقلة نوعية في مجال الطاقة.
ويؤكد رئيـــس لجنــــة الصناعــــة والطاقة بغرفــــة الشرقــيــــة، إبراهيم آل الشيخ، في حديثه للاقتصاد، على أن التوجه القوي الآن للمملكة هو الصناعات التحويلية، كجزء من رؤية 2030م، ويقول: الهدف الآن هو أن نتحول من خلالها من مصدرين للمواد الأولية، لمواد مصنّعة، وزيادة الخطى نحو استخراج الغاز، يدعم هذه الخطط، ففي العام الماضي تم اكتشاف سبعة حقول جديدة، وهي موارد طبيعية سيتم توجيهها للصناعات التحويليــة، للاستفادة من هذه الموارد بشكل أكبر، بدلاً من تصديرها كمواد خام، بأسعار أقل، وأضاف بأن اليوم اقتصاديات الاستخراج قوية، هناك ارتفاع كبير في الأسعار، يجعل الاستثمار في هذه القطاعات مجديًا اقتصاديًا.
يشدّد آل الشيخ على أن المملكة لا تنوي حاليًا التوجه نحو تصدير الغاز، ويتابع بتفصيل أكبر: في الوقت الراهن لا يوجد توجه نحو تصدير الغاز، وهي لن تبني استثمارات طويلة الأمد على ظروف معينة مؤقتة، هي ليست استثمارات قصيرة المدى، بل طويلة للأجيال القادمة، خاصة وأن الغاز مادة أساسية للصناعات البتروكيماوية، وإنتاج الطاقة، سواء وقود أو لقيم، وأيضًا تحول من انتاج الطاقة من النفط للغاز الأقل تلويثًا للبيئة.
الغاز المصاحب
وكانت المملكة، قد بدأت في انتاج واستخلاص الغاز لاستخدامه لتطوير منتجات ذات قيمة مضافة إلى جانب الزيت منذ عام 1975م حينها طلبت وزارة الطاقة (البترول والثروة المعدنية حينها) من شركة أرامكو السعودية تصميم وتشغيل شبكة متكاملة لتجميع ومعالجة ونقل الغاز الطبيعي المصاحب لإنتاج الزيت الخام، ومنذ ذلك الوقت تنامى الاهتمام بالغاز، حتى بلغ ذروته في عام 2022م مع طول أمد الحرب الروسية – الأوكرانية، التي تسببت في تأثر امدادات الغاز الطبيعي عالميًا، وارتفاع أسعاره بشكل قياسي.
وسعت المملكة مع بداية العام الماضي، لتأكيد دورها البارز في تأمين إمدادات الطاقة عالميًا، من خلال ضخّ استثمارات جديدة في مجال البحث والاستكشاف، ونجاحها في الوصول إلى حقول جديدة، ونما إجمالي إنتاج الغاز السعودي بصفة مطردة على مدى العقدين الماضيين، بسبب تطوير حقول الغاز غير المصاحبة أو المستقلة، رغم تخفيضات “أوبك بلص” التي تقلص إنتاج النفط ومن ثم الغاز المصاحب، وفي عام 2020م بلغت حصة انتاج الغاز في المملكة من الحقول غير المصاحبة %46 من إجمالي الإنتاج وذلك من صفر إنتاج عام 2000م.
المركز الثاني
وعلى الرغم من أن إنتاج المملكة من الغاز موجه للاستخدام المحلي كوقود لتوليد الطاقة الكهربائية، ولتحلية مياه البحر، وأيضًا كوقود في بعض الصناعات النفطية، بالإضافة إلى استخدامه في الصناعات البتروكيميائية، وكمصدر للهيدروجين، فإنه بحسب أرقام عام 2021م تشغل المملكة المركز الثاني في قائمة أكبر الدول العربية المنتجة للغاز الطبيعي، غير أن معظم إنتاجها يتم استهلاكه محليًا، وخلال هذا العام زاد استهلاك المملكة من الغاز بأكثر من %3.7 على أساس سنوي.
وتدعم الحقول المكتشفة حديثًا استراتيجية المملكة التحولية، بالتوازي مع الطاقة المتجددة، دورًا رئيسًا مهمًا في خطة البلاد نحو مزيج طاقة مستدام وصديق للبيئة.
وتعتزم المملكة التخلص من استخدام الوقود السائل في مزيج توليد الكهرباء بحلول 2030م، واستبداله والاعتماد على الغاز الطبيعي، ومصادر الطاقة المتجددة بنسبة %50 لكل منهما، وتعتزم أرامكو توسيع سعة خط أنابيب الغاز الطبيعي على طول الساحل الجنوبي الغربي للبلاد من 9.6 إلى 12.5 مليار قدم مكعبة يوميًا، لكنها لم تعلن موعد الانتهاء بعد.
الرهان الأكبر
يؤكد عضو مجلس الشورى السابق، والخبير في اقتصاد الطاقة، الدكتور فهد بن جمعة، على أن المملكة تمتلك حوالي 283 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة في العالم (%4.3 من العالم)، ويقول: تستحوذ المملكة على نحو 100 حقل رئيسي للنفط والغاز الطبيعي ينتشر بها أكثر من 1500 بئر، وتسعى إلى رفع إنتاجها من الغاز أكثر من 14 مليار قدم مكعبة حاليًا، مضيفًا بأن الغاز يستهلك بشكل كامل داخليًا، حيث تعتمد صناعة البتروكيماويات ومحطات التحلية ومحطات توليد الكهرباء على الغاز بشكل أساسي، كاشفا أن معظم الإنتاج من الغاز هو من نوع الغاز المصاحب، أي المستخرج من حقول النفط.
ويبدو أن الرهان الأكبر للمملكة سيكون على حقل الجافورة العملاق، الذي توقع الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية أمين الناصر، أن قرابة المليارين قدم مكعب يوميًا من الغاز سوف يتم استخراجها من الجافورة خلال العقد الجاري، وثمة مساع قوية لتطوير الحقل بشكل كامل، وفي حال بلوغه طاقته القصوى خلال سبع سنوات، ستصبح المملكة ثالث أكبر منتج عالمي للغاز الطبيعي.
حقل الجافورة
وبالفعل في منتصف ديسمبر 2022م تم رصد قرابة الستة مليارات ريال لتطوير حقل الجافورة للغاز غير التقليدي، وسيتم تخصيص أولوية إنتاجه من الغاز والإيثان والسوائل للقطاعات الوطنية في الصناعة والكهرباء، وتحلية المياه، والتعدين، وغيرهم، كما دعت أرامكو السعودية المستثمرين لتمويل تطوير مشروعات النقل والتكرير في الحقل، كما أنها تواصلت مع شركات الأسهم الخاصة والصناديق الكبيرة الأخرى التي تستثمر في البنية التحتية كجزء من الخطط، ويمكن أن تعرض حصصًا في أصول مثل مشروعات احتجاز الكربون وتخزينه وخطوط الأنابيب ومحطات الهيدروجين.
وبحسب نائب رئيس الموارد غير التقليدية في شركة أرامكو، المهندس خالد عبدالقادر، خلال مشاركته في منتدى الأحساء الاقتصادي الذي عقدته غرفة الإحساء مؤخرًا، أن تكلفة تطوير حقل الجافورة بلغت 60 مليار ريال سعودي حتى الآن، مؤكدًا أن تطوير الحقل هو أحد أكبر المشاريع طموحًا في تاريخ أرامكو، وأن التعاقدات شملت حتى الآن أكثر من 100 عقد بقيمة مع أكثر من 50 مقاولاً رئيسًا.
وثمة أكثر من توجه لتطوير حقول الغاز الأخرى، ففي أواخر العام الماضي وقّعت المملكة والكويت، اتفاقية لتطوير حقل غاز الدرة البحري، وتضمنت الاتفاقية إجراءات لتطوير وإعادة تقييم وإنهاء الدراسات الهندسية للمشروع، بالإضافة إلى خطط لتشكيل فريق فني لتنفيذ المشروع.
وتوقع خبراء أن يغير دخول المملكة أسواق الغاز الخريطة الجيواستراتيجية المتعلقة بأسواق الغاز عالميًا، حيث يحمل بعدًا سياسيًا بالإضافة إلى البعد الاقتصادي في ظل المنافسة الشرسة في هذا المجال، خاصة مع القفزة الكبيرة في الأسعار العالمية للغاز، غير أن وزارة الطاقة لا تبدو مستعجلة على ذلك، الهدف الأول حاليًا هو الاستفادة من الغاز في الصناعات وتوليد الطاقة، وتوفير النفط الخام، لصناعات أخرى أكثر فائدة للاقتصاد، وأمام قوة المملكة وعلاقاتها في مجال النفط والغاز، وقدراتها المالية والاستثمارية، تستطيع أن تنافس مع منتجين آخرين إقليميين ودوليين، وقد يشجع المملكة أيضًا على تشكيل تجمع دولي لمنتجي النفط والغاز، بدلاً من الوضع الحالي لأسواق الغاز الذي يفتقد للتنظيم.
كرسي الريادة
ويؤكد خبير الطاقة، عبدالعزيز المقبل، على أن ثمة اهتمامًا كبيرًا بقطاع الغاز وذلك لملاءمته للتحوّلات الجديدة في قطاع الطاقة عالميًا، كونه وقودا منخفض الانبعاثات الكربونية، ومن ثم حاجة المملكة للتوسع بشكل كبير في مجال صناعات المواد الأساسية، والكيماويات والبتروكيماوية، وأن ما يجعل المملكة في كرسي الريادة، هو رغبتها في استخدام مزيد من الموارد لتوليد الطاقة، وتعظيم قيمة براميل النفط في منتجات أخرى، من خلال الاعتماد على الغاز في توليد الطاقة الكهربائية والصناعة، والاستفادة من النفط في انتاج مواد تزيد من قيمة البرميل، بدلاً من تصديره خامًا.
وقال المقبل، بأن تصدير الغاز ليست بخطوة مستهدفه حاليًا، فقرار التصدير من عدمه لا يخضع لرغبة الدولة في تصدير الغاز من عدمه، ولكن يخضع لسياسة الدول الكبرى في الاتجاه نحو التنافسية في أسواق التصدير أو عدم الرغبة في ذلك، أو الاستفادة من الغاز محليًا، مشددًا على أن اكشاف سبعة حقول في عام واحد، يؤكد أن هناك تركيزًا عاليًا على الغاز نظير رغبة الدولة في المسير في اتجاهات مختلفة تلائم رؤية 2030م، والاتجاه نحو مصادر طاقة قليلة التأثير على البيئة، من خلال الاعتماد على ما يسمى مزيج الطاقة، لتوليد الكهرباء، وتشغيل المصانع، سواء من الغاز أو مصادر متجدّدة، أو مصادر هيدروكربونية.