اقتصاديات مقاهي

مقاهٍ بلا ضجيج

صحيح سوق المطاعم ناجح ويحقق دخلاً جيدًا، ولكن الوصول للنجاح فيه يحتاج تقديم شيئ مميز، وتسويق جيد، وقدرة مالية على الاستمرار، وتحمل تقلبات السوق

الاندفاع وراء التكرار والتقليد دون الابتكار، وهوس الشباب بالاستثمار في القطاع دون الدراسة المتأنية من أهم أسباب ظاهرة الإغلاقات

 

منذ افتتاح أول مطعم في ستينيات القرن الماضي بالرياض، لم يتوقف افتتاح المطاعم والمقاهي في مختلف مدن المملكة، ولو أُغلق واحدٌ خلفه اثنان وثلاثة، ولا يكاد يمر أسبوع واحد الآن دون افتتاح مقهى أو مطعم جديد لتصبح المقاهي والمطاعم في المملكة من أكثر المشروعات ضجيجًا سواء من حيث الانطلاق أو الإغلاق.

ففي العامين الماضيين توسعت موجة افتتاح المطاعم والمقاهي بإجمالي أكثر من 126 ألف سجل تجاري، ومن ناحية أُخرى زادت حدة الإغلاقات والخروج من السوق.

 

إغلاقات كثيرة

ويبدو أن ثمة العديد من الأسباب وراء هذه الظاهرة المتناقضة من الافتتاح والإغلاق، فالافتتاح مرتبط بسهولة المشروع وقلة تكلفته لاسيما في المقاهي المتوسطة وأرباحه الكبيرة، أما الإغلاق يعود إلى الاندفاع وراء “التكرار والتقليد” حتى امتلأت الشوارع بالمطاعم والمقاهي، وكذلك هوس الشباب بالاستثمار فيها مندفعين بالرغبة بانضمامهم إلى رياديي الأعمال، فأصبحت فكرة إنشاء مشروعات المقاهي تحديدًا مغرية بالنسبة لهم حتى من قليلي الخبرة بالمجال، متجاهلين نسبة المخاطرة العالية في ظل وفرة العرض وتراجع الطلب.

ويؤكد عضو لجنة الضيافة والترفيه في غرفة الشرقية، المهندس نادر القحطاني، في حديثه لـ”الاقتصاد”، على أنه بالفعل ثمة عرض كبير يتجاوز الحاجة الفعلية للقطاع، ويقول: إن الملاحظ في السوق أن العرض أكبر، والنماذج التي تتكرر نراها كثيرة، وكل جديد يدخل للسوق يعتقد أن لديه ميزة مختلفة، ولكن في النهاية كلهم يصلون لنفس النتيجة، مضيفًا: نرى إغلاقات كثيرة تحدث، والسبب أن العرض والدخول في السوق أكبر من الاحتياج، والأمر الأخر انخفاض القدرة الشرائية للفرد، في السابق كان ما تخصصه الأسر للأنفاق على المطاعم والمقاهي أكبر.

ضعف القوة الشرائية

واستطرد بقوله: أسعار المطاعم ارتفعت هي الأُخرى بسب ارتفاع أسعار المواد الخام والنفقات، لهذا نجد أن مطاعم كثيرة كانت تحقق الأرباح، الآن تخسر، والمطاعم التي كانت متوازنة باتت تحقق خسائر كبيرة، وكثير منها اُضطر للإغلاق.

ويستدال القحطاني، بضعف القوة الشرائية، بأرقام المبيعات التي يكشفها البنك المركزي، وكذلك بيانات الضرائب التي تنشرها هيئة الزكاة والدخل والجمارك، التي باتت تنخفض، ويتابع بتفصيل أكبر: مشكلة القطاع أن الكثيرين يعتقدون بسهولة الدخول فيه، وهو ما يبرر ارتفاع أعداد الرخص، فهناك دخول لرجال أعمال جدد، ولكن في المقابل هناك خروج لأخرين خسروا، ويضيف متحدثًا عن ارتفاع الإيرادات: بقوله إن التقارير التي تقول ارتفاع الإيرادات %300، تظل أرقامًا لا تعكسها الأرقام الرسمية، وشدد على أن السوق حاليًا ليس مجديًا بالشكل الذي يروج له بعض المحللين، متابعًا: هذه الأرقام تصدر من محللي مواقع التواصل الاجتماعي، وهي أرقام بحسب قوله: (مصدر سخرية للمحترفين، نتمنى أن تكون حقيقة، ولكن الأرباح الحقيقية للمطعم هي 10 إلى %12 من الإيرادات، أما من يقول %400 فهو لا يعرف السوق.

وأشار القحطاني إلى أن شركات المطاعم الكبيرة المدرجة في سوق الأسهم، تكشف عن تراجع أرباحها بشكل كبير، وبعضها بات يحقق الخسائر، وقال إنه خلال فترة قصيرة لن يكون البقاء إلا للأفضل، مشددًا على أن السوق مفتوح، ولكن الفرصه للمنشآت المنظمة والاحترافية وليس للمقلدين وعديمي الخبرة.

 

قيمة المبيعات

وكانت إحصاءات وزارة التجارة، أظهرت أن إجمالي السجلات التجارية القائمة لنشاط المقاهي يبلغ 126.497 سجلاً تجاريًا، وتصدرت منطقة الرياض قائمة المناطق في إصدار تلك السجلات بواقع 42.082 سجلاً، تلتها منطقة مكة المكرمة 30.271، ثم المنطقة الشرقية 18.386، وبحسب الوزارة ربما يكون للسجل التجاري الواحد أكثر من فرع في النشاط ذاته، وفي المنطقة ذاتها.

في الاتجاه ذاته كشفت هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في تقرير حديث لها، أن إجمالي الرخص الجديدة لأنشطة خدمات الإقامة والطعام قفزت العام الماضي بنحو %23، بدخول نحو 16.531 رخصة في هذا القطاع، مع تجديد 31.905 رخصة تعادل نسبتها %19.

وبالفعل سجلت إيرادات المطاعم والمقاهي خلال السنوات الماضية، نموًا قويًا، وارتفعت قيمة مبيعات المطاعم والمقاهي يوميًا إلى 209.79 مليون ريال خلال الربع الأول من العام 2022م بما يعادل 6.29 مليار ريال في الشهر الواحد فقط، غير أن هذا الارتفاع في المبيعات يقابله ارتفاع أكبر في المصاريف والنفقات.

وبشكل عام يفضل أصحاب رؤوس الأموال التوجه نحو قطاع المطاعم والمقاهي لقلة تكلفتها على رواد الأعمال، إذ يقتصر دورها على تقديم أنواع محددة من المنتجات وبهامش ربح عال، فيما يكثر الإقبال على المقاهي والمطاعم ذات الصبغة الشعبية من المستهلكين نظرًا لأن المبالغ المدفوعة من قبلهم غالبًا لا تتجاوز 100 ريال للفرد في الزيارة، كما أن هوامش الربح فيها عالية، فضلاً عن التدفقات المالية السريعة، غير أنه يقابل كل ذلك مخاطر عالية، وإمكانية خسارة كبيرة لكثرة العرض وصعوبة المنافسة، مقابل تراجع في الإنفاق العام للمستهلكين.

ولا يخلو أي استثمار من المخاطر، بيد أن الدراسة الجيدة لأي مشروع تقلل من هذه المخاطر، ومؤخرًا أكدت الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، أن قطاع تجارة الجملة والتجزئة والإقامة والطعام من القطاعات المزدهرة والحافلة بالفرص الاستثمارية، وتوقعت في دراسة نشرتها على موقعها الإلكتروني، نمو أنشطة المطاعم والمقاهي في المملكة بنسبة %12.2 حتى عام 2025م.

مخاطر متزايدة

ويؤكد المستثمر في قطاع المطاعم والمقاهي، تركي العتيبي، أن المخاطر المتزايدة في القطاع، باتت مشكلة تؤرق الكثير من المستثمرين، لافتًا إلى الأسباب التي جعلت الأوضاع غير مستقرة في السوق، بقوله: اليوم نشاهد أن السوق باتت متخمة بالمطاعم والمقاهي، على الرغم من أن غالبيتها تواجه مشاكل كبيرة في القدرة على الاستمرار، مضيفًا: أن السوق لم يكن يعاني من مشكلة كورونا فقط ولكن الكثير من المشاكل الأخرى التي أثرت عليه، بقوله: إنه على سبيل المثال عندما بدأ في 2017م كان يحقق مبيعات كبيرة واستمر الوضع قرابة العامين والنصف، وبالأرباح التي حققها افتتح مطعمين و”كوفي شوب”، ولكن ما حدث بعد ذلك، هو أنه اغلق المطعمين و”الكوفي شوب” بسبب الخسائر المتراكمة التي تكبدها، والمطعم الحالي الذي كان ناجحًا بات يحقق خسائر كبيرة.

ويشدد العتيبي على أن جائحة كورونا التي استمرت لعامين وشهدت عدة إغلاقات كاملة، سببت معاناة كبيرة وأثرت على الجميع وخاصة المطاعم الراقية، بيد أن المشكلة الأكبر هي تزايد افتتاح المطاعم والمقاهي بشكل غير مدروس، قائلاً: (إننا كمستثمرين في القطاع نريدها بلا ضجيج التكرار)، ويتابع بتفصيل أكبر: أنه عندما افتتح مطعمه، كان مميزًا في الصنف الذي يقدمه، أما الآن فثمة عشرات المطاعم تقدم الصنف ذاته، بعضها صورة طبق الأصل وبعضها حتى باسم الطبق، وبعد سنتين بحسب العتيبي، صار لا يقل عن 70 مطعمًا يقدم نفس الأطباق التي يقدمها، قائلاً: إنه للأسف مهما كنت ناجحًا ومميزًا سيعرف الأخرون نشاطك ويقلدونك، وبعضها سيفتح في جوارك، عدد المطاعم تضاف لعشرين ضعفًا، وهذا جعل التميز أقل).

ويشدد العتيبي على أن القوة الشرائية باتت أقل بسبب التضخم الذي طال العالم أجمع خاصة مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة لارتفاع تكاليف المطاعم، وأضاف بأن المطعم الذي كانت فاتورته على المستهلك 300 ريال، اليوم باتت 500 ريال على الأقل، والمشكلة أن أصحاب المطاعم مضطرون لرفع الأسعار لمواكبة ارتفاع التكاليف، لكي تكون قادرة على البقاء في السوق، ويتابع: بعض المطاعم لجأت لتقليل الكميات أو جودة المنتج لتفادي رفع الأسعار، ولكن هذا الخيار ثبت أنه غير صحيح، لأن المستهلك ذكي ويعرف الفرق.

فرص واعدة

فيما يرى وليد الرضوان، وهو مستثمر وصاحب مطعم، على أن السوق حاليًا في فترة ركود، وكوضع عام، المطاعم تعاني من انخفاض المبيعات، ولكن على الرغم من ذلك نشاهد الكثير من المطاعم الجديدة، مضيفًا: صحيح أن سوق المطاعم سوق واعد ويحقق دخلاً جيدًا، ولكن تحقيق النجاح فيه يحتاج لآن يكون لدي الفرد شيء مميز، وتسويق جيد، وقدرة مالية على الاستمرار، وتحمل تقلبات السوق، بشكل عام هناك تباطئ في المبيعات.

ويكشف الرضوان، أن وضع المقاهي أكثر صعوبة، بقوله: إن معظم المطاعم، وخاصة المقاهي تقدم النشاط ذاته، دون تميز، كما أن كثرة الدخول في السوق، جعل العرض أكثر بكثير من الطلب، وهذا يقلل من الربحية، وتضطر البعض لتخفض الأسعار على حساب الربحية، على سبيل المثال، أسعار الدجاج ارتفعت بشكل كبير خلال الفترة الماضية، وهو شيء أساسي في معظم الأصناف، وشدد الروضان على أهمية أن: يهتم من يدخل النشاط بالموقع، وأن يكون لديه سيولة كبيرة للتسويق، ونفس طويل للاستمرار، عدا ذلك لا يجب التفكير في إنشاء مقهى.

 

معدلات النمو

وأخيرًا يمكن القول أن القطاع رغم أنه مليء بالفرص الواعدة، وهو يحل ثانيًا في إحصاءات الإنفاق، وتوقع تقرير “منشآت” الذي صدر في مطلع العام عن حجم السوق لخدمات الأطعمة والمشروبات، بأن معدل نمو مبيعات المطاعم والمقاهي سيبلغ %7.66، لتصل إلى 93.6 مليار ريال في 2025م، وتوقع التقرير كذلك أن تستأثر المنطقتان الغربية والوسطى على ما نسبته %71 من إجمالي السوق بحجم معاملات سيصل إلى 34.7 مليار ريال، و31.9 مليار ريال لكل منهما خلال الثلاث سنوات المقبلة، وأشار التقرير إلى مواصلة مطاعم الوجبات السريعة في الاستحواذ على الحصة الأكبر من السوق والمقاهي في المملكة بعد تحقيقها %35.4 من إجمالي المبيعات في عام 2022م مع توقعات بارتفاعها إلى %35.6 في عام 2025م لتصل لما يعادل 33.3 مليار ريال، كما توقع التقرير احتفاظ المقاهي بمكانتها من حيث الحصة السوقية بـ%29.1، من إجمالي السوق أي ما يعادل 27.2 مليار ريال في عام 2025م وتثبت الحصة السوقية للمطاعم مع الخدمة عند %19.3،  من إجمالي المبيعات حتى عام 2023م، غير أن هذه الأرقام والتوقعات لا تنعكس بشكل كامل على المطاعم والمقاهي، فإن هذا الارتفاعات يقابلها خروج كبير من السوق، فالفترة الحالية أشبه بفترة تصحيح للقطاع، ليبدأ بعدها القطاع في تحقيق التوازن والانتعاش.