كرييتڤ كهرباء

وداعًا للكهرباء المفقودة

المادة الحمراء، التي ظل العلماء يطاردونها لعقود من الزمن وظنوا أنها من وحي الخيال يمكنها أن تؤدي إلى ظهور شبكات طاقة قادرة على نقل الكهرباء بسلاسة وخلق طاقة غير محدودة

يصل إجمالي الفقد الفني الناتج عن عمليات توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها، إلى أكثر من 26 ألف جيجاوات في الساعة سنويًا، تكفي لتشغيل 7 ملايين منزل لمدة عام

 

ظل العلماء يطاردونها لعقود من الزمن وظنوا أنها من وحي الخيال إلى أن أعلن الدكتور “رانجا دياس” وفريق عمله في جامعة روتشستر بنيويورك عن وصولهم للمادة المعجزة أو الحمراء، وهي مادة خليط من الهيدروجين والنيتروجين واللوتيتيوم، يمكنها أن تكون موصلاً فائقًا تتدفق الكهرباء من خلالها بدون مقاومة وفقدان، وذلك في درجة حرارة الغرفة العادية، ما يبشر  في حال نجاح التجربة بإحداث ثورة في عالم الإلكترونيات، وتوفير بطاريات تدوم فترات أطول، وإيجاد شبكات الطاقة ذات كفاءة عالية وتوفير نحو 200 مليون ميغاواط من الطاقة في الساعة الواحدة.

 

ولطالما كان من الصعوبة بحسب العديد من العلماء في مجال الطاقة الكهربائية،  القضاء على فقدان الطاقة مع تحركها على طول الأسلاك الموصلة للكهرباء بإيجاد موصلات فائقة يمكنها توصيل التيارات الكهربائية دون مقاومة، بخاصة أنها طريقة يُصنّفها العلماء بأنها غير عملية كونها تحتاج عادة إلى تبريد وضغط شديدين من أجل القضاء على فقدان الكهرباء عبر الأسلاك، بيد أن هذه “المادة الحمراء” التي تم الإعلان عنها وثمة تشكك كبير حول قدراتها، يمكنها أن تؤدي إلى ظهور شبكات طاقة قادرة على نقل الكهرباء بسلاسة ودون إهدار يُذكر، وكذلك خلق طاقة غير محدودة واستغلالها في العديد من المجالات كالنقل فائق السرعة والمعدات الطبية وغيرها.

د. رانجا دياس

خليط من العناصر

فإن أن “المادة الحمراء” صُنعت بواسطة خليط من عنصـــر اللوتيتيــوم النادر والهيدروجين وجزء صغير من النيتروجين وستكون قادرة على نقل الكهرباء بدون مقاومة وتمرير المجالات المغناطيسية حول المادة، فهي مادة لونها أزرق تتحول إلى وردي ثم إلى اللون الأحمر (ومن هنا جاءت التسمية)، وتوصف بأنها فائقة التوصيل، كونها تُنهي على الطاقة المفقودة في خطوط النقل الرابطة بين محطات توليد الكهرباء وشبكات التوزيع، بسبب ارتفاع الحرارة في الأسلاك الناتجة عن تدفق التيار الكهربائي، إذ تعمل هذه المادة في درجات حرارة عالية ومنخفضة، وتنتج طاقة غير محدودة.

وحتى تعمل الموصلات الحالية بكفاءة، تحتاج إلى ضغط هائل، فضلاً عن تبريد شديد، لذا تعد بديلاً مكلفًا من الناحية الاقتصادية، لكن تزويدها بالمادة الحمراء يجعلها أقل كلفة، حيث تستطيع العمل في درجة حرارة (21 درجة مئوية “69 درجة فهرنهايت”، وضغط “1 جيجا باسكال”، وهو ضغط أقل بكثير من أي مواد توصيل يتم استخدامها حاليًا، وهو ما دعا العلماء، إلى وصف المادة الحمراء بأنها “فجر جديد”، وأن استخدامها يساهم في الاندماج النووي، وبالتالي إنتاج طاقة غير محدودة، لذا يطلق عليها أيضًا “المادة المُعجزة”.

فعندما تكون مادة ما فائقة التوصيل، تتدفق الكهرباء من خلالها بدون مقاومة، مما يعني أنه لا يتم فقد أي من الطاقة المعنية كحرارة. لكن كل موصل فائق تم تصنيعه حتى الآن يتطلب ضغوطًا عالية للغاية، ومعظمها تطلب درجات حرارة منخفضة جدًا.

الشكوك حول المادة

وبالتالي فإن الوصول إلى مثل هذه المادة يمثل اختراقًا علميًا، حيث ستمتلك الأجهزة الكهربائية مكونات فائقة التوصيل خلال السنوات الخمسة المقبلة، وهذا يعني أن الهواتف وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الطبية ستحتاج إلى طاقة كهربائية أقل لتشغيلها، ولن تفقد الطاقة سريعًا.

ومع ذلك، فلا تزال الشكوك حول هذه المادة قائمة بين العلماء، وهناك بعض العلماء لديهم تحفظات عليها، بل أن باحثين أخرين أعلنوا أنهم لا يستطيعون تكرار النتائج، وأن المادة الجديدة قد لا تكون فائقة على الإطلاق، وذلك بعد أن كافحت مجموعة أخرى لتكرار النتائج، وكانت بالفعل قد أظهرت ورقة بحثية عام 2020م حول الموصلات الفائقة التي أعلن حينها أنها تعمل في درجة حرارة الغرفة، عدم قدرتها على ذلك وبالفعل تم سحبها، وغالبًا ما يرى هؤلاء من العلماء أن هذا الفاقد يعد جزءًا لا يتجزأ في رحلة الكهرباء ولا يمكن جعله صفرًا في أي حال من الأحوال.

 

هدر الكهرباء

ولكن إذا أثبتت التجارب العلمية جدوى كلية أو جزئية لهذه المادة، فأنها بلا شك  ستحقق ثورة اقتصادية كُبرى ذات فوائد هائلة، لاسيما مع سعي دول العالم قاطبة إلى تأمين احتياجاتها من الكهرباء وسط الطلب المتنامي عليها منزليًا وصناعيًا وخدميًا وأن الدول في انتظار  الحلول العلمية المبتكرة تقليل حجم الفاقد من نقل التيار الكهربائي؛ ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، يصل إجمالي الفقد التقني أو الفني، الناتج عن عمليات توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها عبر الشبكات، إلى أكثر من 26 ألف جيجاوات في الساعة سنويًا، تكفي لتشغيل 7 ملايين منزل لمدة عام، أو شحن 6.8 مليون سيارة كهربائية.

وبحسب مركز إحصاءات وتحليل بيانات الطاقة الأمريكي فإنه في عام 2019م كان متوسط الفاقد الكهربائي في مختلف الولايات الأمريكية خلال مرحلتي النقل والتوزيع حوالي %5، هذا وتبلغ بحسب آخر بيانات متوفرة للبنك الدولي، نسبة الطاقة الكهربائية المفقودة أثناء النقل والتوزيع من إجمالي الطاقة المولدة نحو %14 في الدول العربية، وفي المملكة بحسب إحصاءات محلية فإن كمية الفاقد الكهربائي تكون أكثر من 14.000 جيجاوات في الساعة للعام 2020م وبتكلفة تقريبية تتجاوز ملياري ريال، وكذلك في الجمهورية المصرية، على سبيل المثال، تصل قيمة الخسائر السنوية الناتجة عن الفقد الفني في شبكات نقل وتوزيع الكهرباء حوالي 4 مليارات جنيه، وتزيد نسبة هذه الخسائر في بعض المناطق في العالم مقارنةً بالعالم العربي، ففي جنوب آسيا تصل إلى %19، وفي باكستان %17، وأثيوبيا %19، كينيا وتنزانيا %18 لكل منهما، وفي الهند %19، وجمهورية الكونغو الديمقراطية %21، ومن ثم تعطي هذه المادة المُكتشفة حديثاً، أملاً كبيرًا في حل مشكلات “هدر الكهرباء”، وتوفير مليارات الدولارات سنويًا.

ثورة اقتصادية

ورغم الشكوك حول قدرات المادة الحمراء التي أشرنا إليها سلفًا، إلا أن نجاحها واستخدامها يُحقق فوائد اقتصادية عديدة، في شتى المجالات، لعل أولها:  التغير المناخي: إذ لا ينتج عن استخدام هذه المادة أية انبعاثات ضارة للبيئة، خاصة المتعلقة بالكهرباء،  وهو ما يساعد الدول في مساعيها للوصول إلى صفر انبعاثات بحلول 2050م، وفي هذا السياق، أكد الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، البروفيسور بيتيري تالاس، أن قطاع الطاقة مسؤول عن %75 من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، مشددًا على أن تحسين الكفاءة في توصيل واستخدام الطاقة، سيدعم جهود خفض الانبعاثات، وأن المادة الحمراء سوف تساعد في تخزين الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لفترات غير محدودة، ونقلها عبر مسافات كبيرة دون خسائر.

وثانيًا: أنه بلا شك أن استخدام هذه المادة السحرية في بطاريات السيارات الكهربائية، سيعمل على بقاء الشحن لفترة أطول، وسيقضي على مشكلة قلة عدد نقاط الشحن في بعض الدول، وسيقلل شعور المستخدمين لها بأنها وسيلة نقل إضافية وليست أساسية، بسبب عدم ثقتهم بقدرتها على السير لمسافات طويلة، وهو ما يساهم بدوره في سرعة انتشارها خلال السنوات المقبلة.

وثالثًا: أن هذه المادة ستحدث طفرة كبيرة في هذا السوق المتنامي خاصة الأجهزة كبيرة الحجم، فمثلاً تستخدم أجهزة الرنين المغناطيسي مادة “الهيليوم السائل” شديد البرودة، بواقع 10 آلاف لتر للجهاز الواحد خلال عمره الافتراضي (حوالي 13 عامًا)، وهو عنصر نادر ومُكلف، لذا فليس من المستغرب أن نجد في المستقبل القريب أجهزة رنين مغناطيسي بدون هذا العنصر، وكذلك أقل حجمًا، بما يمكن حملها إلى أي مكان.

ورابعًا: ثمة توقعات بأن يصل عدد الهواتف الذكية في العالم إلى حوالي 7 مليارات هاتف بحلول 2027م وفي المتوسط يستهلك الهاتف سنوياً طاقة كهربائية بقيمة 2 دولار، وفقاً لبعض الدراسات، وبالتالي فإن قيمة استهلاك الطاقة الكهربائية ستصل إلى 14 مليار دولار سنوياً، وهذه التكلفة ستنخفض بشكل كبير، إذا تم استخدام “المادة الحمراء” في بطاريات الهواتف.