أسواق النفط

النفط إلى أين؟

إذا دخل الاقتصاد العالمي مرحلة الركود فإن احتمالية انخفاض الأسعار ستكون قائمة

أسواق النفط ستشهد شدًا وجذبًا بين العديد من القوى خلال الفترة القادمة

منظمتا “أوبك” و”أوبك بلس” لديهما قدرة الحفاظ على توازن الأسواق واستقرارها

 

دخلت أسواق الطاقة عام 2023م بحذرٍ شديدٍ، بسبب تقلبات أسعار سوق النفط وتحديات الإنتاج، وكذلك الأوضاع والاضطرابات السياسية والأمنية حول العالم.

ويأتي ذلك، ليزيد الأمور تعقيدًا، فيما يتعلق بقراءة السوق والتوقعات والتقديرات الخاصة بأسعار النفط، والتي باتت مهمة شاقة وأمرًا في غاية الصعوبة، وهو ما دفع الكثير من الخبراء في سوق النفط لتفادي مسألة التنبؤ بأسعار النفط، بسبب قدم نظريات السوق من جهة، وبسبب التطورات المتسارعة على أرض الواقع، وتعدد العوامل والمحددات وربما تضاربها في بعض الأحيان.

وهكذا، فإن الأمر ـ إلى جانب دراسة العوامل المتعلقة بإنتاج النفط وأسواق الطاقة ومعدلات النمو الاقتصادي وغيرها ـ أصبح يتطلب دراسة تأثيرات قضايا سياسية وأمنية أُخرى، وكمثال، فإن أي انخفاض كبير في إمدادات النفط نتيجة أحداث سياسية أو أوبئة أو كوارث من المؤكد أنه سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

بين الارتفاع والانخفاض

ففي عام 2011م ومع اندلاع الاضطرابات في كل من ليبيا وسوريا واليمن، فضلاً عن عدم الاستقرار في العراق، انقطعت إمدادات لها قيمتها في سوق النفط، أبرزها النفط الليبي عالي الجودة لتتجاوز الأسعار الـ 100 دولار للبرميل، ثم ارتفعت في 2012م إلى 112 دولارا، مع ارتفاع الطلب والتوقعات الإيجابية للنمو الاقتصادي، ولكن مع تزايد المعروض من النفط لدرجة “التخمة”، بدأت الأسعار في الانخفاض لتصل في 2016م إلى حوالي 27 دولارا، وبعدها بدأت رحلة صعود أخرى، ليصل في 2019م إلى حوالي 65 دولارا.

ومع تفشي جائحة كورونا، وتراجع نمو الاقتصاد العالمي كان واضحًا انخفاض الطلب على النفط خلال عام 2020م وهو ما أدى إلى انخفاض الأسعار، الأمر الذي دفع الدول المنتجة للنفط إلى الخفض التدريجي لإنتاجها؛ حيث تراجع الإنتاج بنحو 6.6 مليون برميل يوميًا، (أي بنسبة %6.7) عن معدلات الإنتاج التي بلغت في 2019م حوالي 98.5 مليون برميل يوميًا، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ارتفعت أسعار   النفط من حوالي 95 دولا للبرميل لتصل إلى 127 دولارا، قبل أن تؤدي وفرة الإمدادات في النصف الثاني من عام 2022م إلى الانخفاض مرة أخرى لتصل في منتصف مايو 2023م إلى حوالي 75 دولارا.

باسم أنطون

تحديد أسعار النفط

وغني عن القول، إن الصعوبات الواضحة في تحديد أسعار النفط تؤدي إلى اختلاف توقعات المحللين والبنوك الاستثمارية، والمؤسسات المعنية، بشأن اتجاه الأسعار على المدى القصير، وعلى سبيل المثال، فقد رأى البعض أنها ستتأرجح خلال عام 2023م بين الـ 70 و80 دولارًا، بينما راهن آخرون أنها ستصل إلى مستوى 120 دولارًا للبرميل.

وبشكلٍ عام، وقبل سرد تفاصيل ومبررات كل اتجاه لارتفاع أو انخفاض الأسعار، فإنه من المهم الإشارة إلى أن هناك العديد من العوامل التي ستؤدي دورًا في تحديد أسعار النفط خلال الفترة الحالية، أهمها: الأوضاع الاقتصادية ومعدل نمو الاقتصاد العالمي ومستوى الطلب على النفط، وحجم الانكماش الاقتصادي وانعكاسه على مستوى الطلب على النفط، وحالة المناخ والطقس حول العالم، وخاصةً في أوروبا وفي أمريكا وارتفاع أو انخفاض الحاجة إلى المشتقات النفطية، وكذلك استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، والعقوبات الدولية الاقتصادية على موسكو، ورد فعل روسيا على السقف السعري والحظر المفروضين عليها، وتأثير الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على النفط والمشتقات النفطية، ومدى الانفتاح الاقتصادي للصين وعودتها إلى الإنتاج بعد إنهاء سياسة “صفر كوفيد”.

وأن أحد العوامل الحاسمة هو قرارات وسياسات منظمة الدول المصدرة للبترول “أوبك”، وتحالف الدول المنتجة للنفط المتحالفة معها “أوبك بلس”، والتي تتخذ قراراتها في ضوء دراسة كلّ العوامل السابقة، وتقرّر  ـ بناء على ذلك ـ ضخ كميات إضافية في السوق أو خفض الإنتاج، فعندما أعلن تحالف “أوبك بلس” تخفيضات الإنتاج بشكل مفاجئ في أبريل الماضي ارتفعت الأسعار بنحو تسع دولارات للبرميل لتصل إلى ما فوق 87 دولارًا، إلا أن أسعار خام برنت فقدت مكاسبها منذ ذلك الحين، وتراجعت أسعاره وجرى تداول العقود الآجلة لخام برنت دون 78 دولارًا للبرميل.

تحالف أوبك بلس

ويرى أنصار هذا الاتجاه أن الاحتمال الأكبر لاتجاه أسعار النفط خلال المدى القصير، هو ارتفاع الأسعار للعديد من العوامل، ومنها أن “أوبك بلس” قد تحاول رفع أسعار النفط عن طريق خفض حصص الإنتاج في عام 2023م أو عن طريق الحفاظ على حصص الإنتاج، كما هي في مواجهة الطلب المتزايد على النفط.

وكان بالفعل، قد اتفق تحالف “أوبك بلس” بأن تخفّض المملكة إنتاجها بقدر أكبر في يوليو الجاري، في إطار اتفاق أشمل لخفض الإمدادات حتى 2024م في وقت يحاول فيه التحالف التصدي لتراجع أسعار النفط، وبالإضافة إلى تمديد التخفيضات الحالية البالغ حجمها 3.66 مليون برميل يوميا، اتفق التحالف على خفض أهداف الإنتاج الإجمالية بمقدار 1.4 مليون برميل يوميًا إضافية اعتبارًا من يناير 2024م ليتراجع إجمالي انتاج التحالف إلى 40.46 مليون برميل يوميًا، وشملت التغييرات خفض حصص الانتاج الخاصة بروسيا ونيجيريا وأنجولا لتتماشى مع مستويات الإنتاج الحالية.

أما العامل الثاني هو أنه من المرجح أن يزيد الطلب في ظل رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في شراء كميات كبيرة من النفط لتعويض العمليات التي تمّت ببيع كميات قياسية من احتياطي النفط الاستراتيجي الأمريكي، فيما يرتبط العامل الثالث ببدء الصين بالفعل في إنهاء سياسة “صفر كوفيد” وسياساتها التقييدية بشأن الجائحة، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على النفط، ومن ثم ارتفاع الأسعار.

تأثير الانفتاح الصيني

وثمة من يُقلل من تأثير الانفتاح الصيني، مثل شركة أبحاث الطاقة “ريستاد إنرجي”، التي اعتبرت أن ربط ارتفاع وانخفاض أسعار النفط بسياسة الإغلاق في الصين أمر مبالغ فيه، وأن التأثير سيكون طفيفًا على طلب بكين على النفط على المدى القصير، وإنه يظل سيناريو انخفاض أسعار النفط قائمًا، في ظل وجود مؤشرات على قرب دخول الاقتصاد العالمي لمرحلة ركود، ففي حالة حدوث ذلك، سينخفض الطلب على النفط، وتتراجع أسعاره.

ويرى أنصار هذا الفريق، الذي يتوقع انخفاض أسعار النفط، أنه حتى لو حدث ارتفاع في الأسعار، فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة معدلات التضخم، وهو ما سيقضي على الطلب، ومن ثم ستتراجع الأسعار مرة أخرى.

ومن ناحيةً أُخرى، فإن أسعار النفط قد تنخفض في حالة إنهاء الخلافات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا واستئناف شراء الغاز الطبيعي والنفط الروسي الرخيص، وكذلك في حالة إنهاء الخلاف بين الولايات المتحدة وإيران ورفع العقوبات المفروضة.

فيذكر أنه عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، في وقت لم يكن فيه الاقتصاد العالمي قد تعافى بعد من جائحة كورونا، توقع البعض أن يتجاوز سعر برميل النفط الـ 150 دولارًا وربما الـ 200 دولار، خاصًة بعد قرار الاتحاد الأوروبي حظر استيراد النفط الروسي، إلا أن الأمور لم تسر في هذا المسار، حتى الآن، وتأرجحت الأسعار في مايو 2023م في حدود الـ 75 دولارا.

ثبات العوامل السياسية

وعلى الرغم من توقع بنك مورجان ستانلي ارتفاع سعر خام برنت إلى 110 دولارات للبرميل في 2023م وتوقع بنك الاستثمار الهولندي أن يصل إلى 104 دولارات، إلا أن التقديرات الأكثر واقعية، هي ألا يتجاوز سعر برميل النفط حدود الـ 100 دولار خلال العام الحالي.

وفي هذا السياق، يرى الخبير في شؤون البترول “باسم أنطون”، أن التوقعات بارتفاع أسعار النفط في 2023م إلى 120 دولارًا للبرميل هو أمر غير منطقي، لأن مستويات الطلب الحالية على النفط لن تكون قادرة على الوصول بالأسعار إلى هذا المستوى، ومن جهة أخرى فإنه سيكون أمر ا غير مقبول للعديد من الجهات الدولية، لما سيؤدي إليه ذلك من تضخم في أسعار جميع السلع والبضائع.

وهكذا، فإن من المرجح أن ترتفع أسعار النفط في النصف الثاني من عام 2023م مقارنةً بالنصف الأول من العام نفسه، بحيث تتأرجح الأسعار بين 75 و90 دولارًا بشرط ثبات العوامل السياسية، وعدم حدوث طفرات اقتصادية، أو صدور قرارات أُخرى بخفض الإنتاج، وهو الأمر الذي يتوافق مع توقعات بنك أوف أمريكا، الذي توقع أن تكون الأسعار في مستوى الـ 90 دولارًا.

الاحتمال الأقوى

ومن المتوقع، وفقًا لدراسة صادرة عن منظمة الدول العربية المصدرة للنفط “أوابك” أن ينمو الطلب على الطاقة حتى عام 2040م بمعدل يتراوح بين 25 – %28 من الطلب في 2019م بحيث يشكل النفط والغاز نحو %53 من قطاع الطاقة المستقبلي.

ومن جانب آخر، فإن من الواضح أن أسواق النفط ستشهد شدًا وجذبًا بين العديد من القوى، خلال الفترة القادمة، خاصةً أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، تسعى لاستمرار أسعار النفط المنخفضة على الأقل في المدى القصير، حتى تقتنص الفرصة وتقوم بزيادة مخزونها الاستراتيجي من جهة، ومن جهة أخرى، منع زيادة معدلات التضخم، بل وتراجع تلك المعدلات، حتى تستطيع الخروج من مشكلاتها الاقتصادية ودعم مواطنيها في مواجهة ارتفاع الأسعار، وخفض سعر الفائدة ليكون عند مستوياته السابقة ما بين صفر و%0.50.

وهكذا، فإنه وعلى الرغم من المخاوف الماثلة فيما يتعلق بانخفاض أسعار النفط بسبب الركود، وعلى الرغم من المؤشرات المعاكسة، التي تنبئ بارتفاع الأسعار بسبب نمو الطلب العالمي على النفط ومحدودية نمو إنتاج النفط الصخري المحتمل، فإن الاحتمال الأقوى، هو اتجاه الأسعار نحو الارتفاع.

لكن من المؤكد أنه في حال ارتفاع الطلب على النفط إلى مستويات غير متوقعة، فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط، وهو ما سينعكس على انخفاض الطلب، مرة أخرى، وهي الدائرة المستمرة لنظرية العرض والطلب.

وفي هذا الإطار، يبرز الدور الذي يمكن أن تلعبه منظمتا “أوبك” و”أوبك بلس” الحفاظ على توازن الأسواق واستقرارها، وذلك مع تأكيد “أوبك بلس” أنها ستعتمد الأسلوب الاستباقي في قراراتها المستقبلية، تمامًا كما فعلت مؤخرًا عندما قرّرت تخفيض إنتاجها لخلق توازن في السوق.