كرييتڤ ميتاڤيرس

“الميتاڤيرس”.. هل تراجع الشغف؟!

مليار دولار استثمارات يومية في “ميتاڤيرس” و5 تريليونات دولار إيرادات متوقعة، وكبرى الشركات العالمية دخلت إليه

التجارة الإلكترونية والعقارات والتعليم أبرز القطاعات المستفيدة من “ميتاڤيرس” ويمنح رواد الأعمال وصغار المستثمرين فرصًا ذهبية

 

في روايته الشهيرة “تحطم الثلج”، التي صدرت عام 1992م، لم يكن يعلم مؤلفها “نيل ستيفينسون”، أن مصطلح الـ “ميتاڤيرس” الذي صاغه في إشارة إلى الحياة في العالم الافتراضي، سيثير ضجة كبيرة بعد نحو 31 عامًا، وتحديدًا عندما أعلنت شركة “فيسبوك” في أكتوبر 2021م عن تغيير اسمها إلى “ميتا”، وتدشين جيل جديد من الإنترنت، يعتمد على عدة تقنيات ناشئة كالواقع الافتراضي والواقع المعزز، ما يمنح المستخدمين الفرصة للدخول والتفاعل في بيئات مختلفة من العوالم الافتراضية، بشكل يتقارب إلى حدٍ كبير مع العوالم الواقعية.

ورغم ذلك، فإن ثمة شكوكا في قدرة شركة “ميتا” على تنفيذ مشروعها الضخم خلال السنوات المقبلة، حيث يواجه تحديات عدة في عامه الثالث بسبب قلة حماس الجمهور وصولاً إلى عدم تطبيق استراتيجيات حازمة في مواجهة مشكلات تتعلق بالأطفال، فضلاً عن غياب الخصوصية والمشكلات والهزّات المالية والقانونية التي تتعرض لها شركة “ميتا” ذاتها، التي خسرت 800 مليار دولار من قيمتها السوقية في أقل من عام.

استثمارات ضخمة

ما من شك أن تقنية الـ “ميتاڤيرس” حديثة وما زالت في مراحل تطورها الأولى، ولم تتضح صورتها بشكل كبير، وأن لدى المتحمسين نحوها مبالغة في الترويج لها، خاصةً وأن بينهم اختلافات وجدالا كبيرا حول ماهيتها، وأن الأمر قد يستغرق سنوات حتى تتضح الصورة الكاملة لها، لكنّها في الوقت نفسه تعد شكلاً من أشكال تطور منظومة الإنترنت؛ إذ لن يكون من خلالها التفاعل مع الإنترنت عبر الشاشات فقط، بل قد يتحول إلى واقع ثلاثي الأبعاد، يمكن الدخول إليه باستخدام معدات بسيطة.

ورغم أن البنية التحتية لهذا العالم لا تزال في طور الإنشاء، إلا أن كبرى الشركات العالمية دخلت هي الأخرى على الخط، وقامت بالفعل بالإعلان عن فتح فروع لها على منصات الـ “ميتاڤيرس” الوليدة، مثل: هورايزون وورلدز، التابعة لشركة ميتا، وكوكاكولا ونايكي لبيع الأحذية الرياضية ومصرف إتش إس بي سي، وبعض تطبيقات الألعاب الإلكترونية كـ “روبلوكس، فورتنايت” وغيرهم.

ويبدو أن إعصار الـ “ميتاڤيرس” يضرب شرقًا وغربًا؛ فأعلنت إحدى الشركات المملوكة للحكومة الصينية مؤخرًا في مقاطعة “خنان” بوسط البلاد، عن استثمارات بقيمة 22 مليون دولار في مشروعات ميتاڤيرس، كما أعلنت “تشجيانغ” عن خطط للتوسع في تقنيات ميتاڤيرس بالمقاطعة، وأيضًا أعلنت شركات يابانية عن إتاحتها فرص عمل في الـ “ميتاڤيرس”، للاستفادة من سوق متسارع النمو، يتوقع أن يبلغ حجمه 7.5 مليار دولار بحلول 2026م.

وتشير تقديرات عدة إلى أن حجم استثمارات الشركات ورؤوس الأموال في عالم “ميتاڤيرس” بلغ 120 مليار دولار خلال الأربعة أشهر الأولى من عام 2022م فيما بلغت قيمة الأراضي المباعة عبر المنصة نحو 1.9 مليار دولار حتى أغسطس 2022م متوقعةً بأن يبلغ معدل النمو السنوي لمنتجات “ميتاڤيرس” 31% حتى عام 2028م وأن تصل قيمته السوقية إلى 2.5 تريليون دولار، بإيرادات في حدود 5 تريليونات دولار بحلول 2030م وأن يقضي ربع سكان العالم ما لا يقل عن ساعة واحدة يوميًا داخله بحلول عام 2026م.

نيل ستيفينسون

استثمارات ضخمة

ويبدو أن التمدد الـ “ميتاڤيرسي” لن يستثني أحدًا، وأن الجميع يتسابق إلى الولوج إليه، حيث أعلنت العديد من الدول العربية عن الولوج إلى العالم الافتراضي، وتقديم عدة خدمات من خلاله، في إطار جهودها لاستغلال الوسائل المتقدمة في تطوير خدماتها للمواطنين.

ففي إطار حرص المملكة على استخدام التقنيات الحديثة في شتى المجالات، واتخاذها خطواتٍ ملموسة في هذا الشأن، أعلنت وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان ـ على هامش مؤتمر “ليب 2023م”ـ عن إطلاق نافذة “سكني ميتاڤيرس”، التي تسهم في تحسين تجربة المستفيدين في تملك المسكن، دون الحاجة إلى الزيارات الميدانية، حيث عملت الوطنية للإسكان على تطويرها باستخدام التقنيات الناشئة مواكبةً للتوجهات العالمية.

وبهدف تثقيف زوّار بيت الله الحرام وتعريف الحجيج بكامل مناسك الحج في غضون 3 دقائق فقط، أعلنت جامعة الملك عبد العزيز  عن إطلاق أول منصة “ميتاڤيرس” بالتعاون مع المكتب الاستشاري للذكاء الاصطناعي خلال مشاركتها في معرض “إكسبو الحج” يناير الماضي، وقد أشادت مجموعة بوسطن الاستشارية العالمية في دراسة لها بخطوات المملكة في مجال التقنيات المتقدمة، معتبرةً أن المملكة أظهرت استعدادًا هائلاً للاعتماد على “الميتاڤيرس”، وأنّها تيح مجالاً مشجعًا لكل المواهب في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، متوقعةً بأن يجذب سوق “الميتاڤيرس” في المملكة استثمارات ضخمة في السنوات المقبلة.

وعلى صعيد مماثل، أعربت الحكومة المصرية عن عزمها استخدام تطبيقات “الميتاڤيرس” في تحسين مستوى الخدمات المحلية المقدمة للمواطنين، من خلال تدريب العاملين على تطبيقات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي وإتاحة خدمات المراكز التكنولوجية على “الميتاڤيرس”، وأعلنت كذلك وزارة الاقتصاد الإماراتية عن افتتاح مقر جديد لها على “الميتاڤيرس”، يمكن لأي شخص في العالم زيارته والتعرف على ما تقدمه من خدمات.

ويمكن القول إن هذه التطورات والخطوات التي تتخذها الدول العربية لاستخدام هذه التقنية يعزّزها النمو الكبير في العمليات الرقمية والزيادة الهائلة في أعداد مستخدمي الإنترنت والمستفيدين من الخدمات الإلكترونية، وهو ما يعكس رغبتها في الاستفادة مما توفره التكنولوجيا الحديثة من فرص استثمارية واعدة، وخلق ملايين الوظائف خلال السنوات المقبلة.

التجارة الإلكترونية

وتعد التجارة الإلكترونية من أكبر القطاعات المستفيدة من عالم “ميتاڤيرس”، حيث تمثل فرصة مواتية للمستثمرين والشركات الناشئة في الدول العربية في هذا المجال؛ إذ تشير التقديرات إلى أن حجم التجارة الإلكترونية في منطقة الشرق الأوسط بلغ 49 مليار دولار بنهاية 2022م وأن التسوق يأتي على رأس أولويات 70% من المستخدمين لـ “ميتاڤيرس”، كما تناولت دراسة حديثة التأثيرات المحتملة لمشروع “ميتاڤيرس” على الأسواق والتجارة بشكل عام، لتؤكد أن الطبيعة اللامركزية لهذا المشروع ستوفر فرصًا جيدة للشركات (خاصة الناشئة) في الوصول إلى أسواق جديدة، حيث لا قيود أو حواجز على عرض المنتجات وتداولها، لكنّها شدّدت على ضرورة تنظيم هذا السوق، لاسيما من الناحية القانونية، مع ضرورة وجود هيئات حكومية تشرف على جميع المعاملات الرقمية.

وثمة مزايا فريدة للاستثمار في العقارات الافتراضية التي يوفرها “ميتاڤيرس”، أشارت إليها تقارير عدة وأهمها العوائد المرتفعة المتوقعة، خاصة مع الإقبال الكبير على هذه المنتجات، وقيام الشركات بشراء أو استئجار مساحات مختلفة لبناء متاجرها الافتراضية، وانخفاض الأسعار مقارنة بالعقارات التقليدية، حيث حقّق سوق العقارات الافتراضية معدل نمو مذهل بلغ 879%، لكنها نوّهت إلى المخاطر المحتملة في هذا النوع الجديد من الاستثمار، والتي تتمثل في تقلب الأسواق وعدم وجود لوائح تنظيمية رسمية لهذا العالم الافتراضي، وكذلك في مجال التعليم، من المتوقع أن يحدث ال، “ميتاڤيرس” ثورة هائلة، حيث يستطيع الطلاب الحصول على الدروس والمحاضرات والدورات التدريبية في بيئة تعليمية تشبه التقليدية، دون الحاجة إلى الدخول إلى المنصات التعليمية العادية، والتفاعل مع المعلّمين والزملاء بصورة أكثر سهولة، وبالطريقة نفسها، يوفر “ميتاڤيرس” فرصة ذهبية لأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة ورواد الأعمال في ممارسة أنشطتهم، دون الحاجة إلى شراء أو استئجار مقرّات لشركاتهم، والتي قد تكلفهم الكثير، وأيضاً عقد الاجتماعات وتوزيع المهام ومتابعة الأعمال وفرق العمل بسهولة.

مستقبل “الميتاڤيرس”

وعلى الرغم من هذه الفوائد والعوائد المتوقعة للــ “ميتاڤيرس”، فإن ثمة شكوكا في يتعلق بنجاحه، نظرًا للعديد من التحديات، بدءً من قلة الحماس الجماهيري للمشروع مرورًا بعدم احتوائه على استراتيجيات حازمة في مواجهة التنمر ضد الأطفال، فضلاً عن غياب الخصوصية، وانتهاءً بالمشكلات والهزات المالية والقانونية التي تتعرض لها الشركة المنتجة التي خسرت المليارات من قيمتها السوقية في أقل من عام؛ إذ خسرت في الربع الثالث فقط من عام 2022م نحو 3.7 مليار دولار مصحوبًا بتوقعات استمرار نزيف الخسائر خلال العام الحالي.

وفي مطلع العام الجاري، أعلنت المفوضية الإيرلندية لحماية البيانات، التي تنوب عن الاتحاد الأوروبي، عن تغريم “ميتا” حوالي 413 مليون دولار، بسبب انتهاكها القانون الأوروبي المتعلق بالبيانات الشخصية والتزاماتها المتعلقة بالشفافية ومعالجة البيانات الشخصية لأغراض دعائية.

ويقارن خبراء بين “ميتاڤيرس” ومشروعات أعلنت عنها كبرى شركات التكنولوجيا في السابق، وكان مصيرها الفشل، مثل نظارات جوجل، وأمازون “فايرفون”، ومايكروسوفت زون وويندز فون، وتوشيبا إتش دي “دي في دي” (قدرت خسائر الشركة حينها بنحو مليار دولار).

ومع ذلك، يبقى التفاؤل موجودا بشأن مواصلة شركة “ميتا” لمشروعها التاريخي، الذي سيغير عالم الإنترنت بشكل مذهل، حيث تشير دراسات إلى أنه بحلول 2050م سيعيش معظم سكان الكرة الأرضية في عالم الـ “ميتاڤيرس”، حيث مراكز التسوق والترفيه والشوارع والمطاعم وحتى أماكن العمل في العالم الجديد، كل ما عليك فقط هو ارتداء نظارتك الافتراضية، وهو ما يثير مخاوف تتعلق بالأضرار الصحية والاجتماعية، وخاصة لدى الأطفال والشباب، الناتجة عن الانعزال عن العالم التقليدي والانخراط بشكلٍ كبير في عالم رقمي موازٍ.