حجم سوق النفط الخام العالمي قُدّر عام 2022م بنحو 2.87 تريليون دولار، فيما بلغ إجمالي حجم التجارة العالمية في نفس العام نحو 25 تريليون دولار
اليوان لا يحتل سوى %3 من حجم المعاملات العالمية مقارنة بـ %40 للدولار، ولم يتم الاحتفاظ به ضمن الاحتياطيات لبعض الدول، إلا في الآونة الأخيرة
لأكثر من 80 عامًا، ويتربع الدولار الأمريكي على عرش المعاملات المالية العالمية، ويُصنف بالعملة الأكثر استخدامًا وقبولاً في التجارة والاستثمار العالمي، ويأتي كعملة الاحتياطي العالمي الأولى، إذ أن أكثر من %60 أي ما قيمته 12.8 تريليون دولار من الاحتياطيات الدولية مُقيمة بالدولار، بينما %20 منها فقط مُقيمة باليورو والباقي بعملات أُخرى، مُعززًا مكانته بجملة من العوامل السياسية والاقتصادية وغيرها، خلقت طوال العقود الماضية ثقة وتصورات آمنة للمستثمرين الدوليين أفرادًا كانوا أو مؤسسات في الأسواق المالية الأمريكيــة، ولكن ظهرت مؤخرًا طروحــات جديدة بشأن الحد من هيمنته العالمية، مما يطرح تساؤلاً عن مستقبل الدولار في المعاملات المالية العالمية.
تعود جذور هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي إلى توقيع اتفاقية بريتون وودز عام 1944م التي نَظمت التجارة العالمية وتدفقات رأس المال للدول التي دُمرت قدرتها التصنيعية وبنيتها التحتية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وذلك بتوجيه الفائض التجاري للولايات المتحدة حينها إلى هذه الدول، مما جعل الدولار الأمريكي ـ الذي كان مرتبطًا بالذهب عند سعر 35 دولارًا للأونصة ـ العملة الرئيسية لتحديد أسعار عملات الدول الأُخرى، ورغم فك الارتباط في سبعينيات القرن الماضي بين الدولار والذهب، لم تتأثر مكانة وقيمة الدولار؛ إذ استطاعت الإدارة الأمريكية حينها إجراء ترتيبات أبقت على قيمة الدولار باعتباره العملة الأولى لاحتياطات الدول، ولكن في الوقت نفس أخذ منحنى الفوائض للولايات المتحدة في التراجع وصولاً لعجزٍ مستمر حتى الآن.
تزعزع الثقة
وفي الآونة الأخيرة شهد الاقتصاد العالمي جملة من التحوّلات، منها التطورات التكنولوجية فيما يتعلق ونظم المدفوعات وظهور العملات الرقمية التي تمثل أحد أهم التهديدات لهيمنة الدولار، حيث ظهر اتجاه جديد لإنشاء سلة عملات رقمية أميركية تدعم الحفاظ على مكانة الدولار في المدفوعات الدولية، وترافق ذلك مع تحوُّل مراكز القوى الاقتصادية تدريجيًا في اتجاه اقتصادات الأسواق الصاعدة بقيادة الجمهورية الصينية، وتزايد الاختلالات في الحسابات التجارية العالمية، وتوالي الأزمات والهزات المالية المتكررة، والحالة السياسية الحرجة التي يمر بها العالم جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وتفاقم معدلات التضخم والتسبب في مشاكل كثيرة للدول النامية والناشئة، فضلاً عن الدين الأجنبي الضخم للحكومة الأمريكيّة مقارنةً بنتاجها المحلي الإجمالي، الذي يشبه إلى حد كبير الوضع البريطاني في أوائل القرن العشرين عندما فقد الجنيه الإسترليني موقعه فيما يتعلق والاحتياطات العالمية. هنا أخذت تتزعزع الثقة في الدولار الأمريكي وعاودت الدعوات بوضع حد لهيمنة العملة الأمريكية؛ إذ طالب الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، في قمة أبريل 2023م لتجمع “بريكس” بضرورة معرفة سبب استمرار العالم في بناء كل تجارته تقريبًا على الدولار الأميركي، بل وبدأت تحركات فعلية تجاه التقويض من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي؛ فهذا تحالف “بريكس” الذي يضم كلاً من روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، ويُشكل قرابة الـ %23 من الاقتصاد العالمي، و%18 من تجارة السلع، و%25 من الاستثمار الأجنبي، ويشهد توسعًا من ناحية البلدان المستعدة للانضمام إليه، يعمل على إطلاق عملة احتياطية دولية تعتمد على سلة من عملات دول التكتل وحظيت بقبول من 19 إلى 41 دولة.
العملة الجديدة
ولكن ثمة بعض الإشكاليات التي ربما قد تواجهها هذه العملة المقترحة، فمن جانبها تدفع الصين منذ سنوات باتجاه اليوان؛ إذ ترى أحقيتها بأن تكون عملتها هي العملة الاحتياطية العالمية الرئيسية، ووسيلة الدفع الرئيسية في التسويات الدولية، هذه الرؤية التي ربما لن تعطي الزخم للعملة الاحتياطية الجديدة للبريكس، فضلاً عن أن الهند التي تُبدي قلقها من سيطرة الصين على التحالف واقتناعًا غير مكتمل حول العملة الجديدة؛ وتستهدف تحديد أولويات عملتها المحلية الروبية، وتعزيزها بدلاً من الاعتماد على العملات الأخرى، وكان وزير الشؤون الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار، قد أكد بأن الهند ليس لديها خطط لعملة الـ “بريكس”، وأنها قد تتراجع عن إنشاء العملة الجديدة.
اليوان الصيني
وبالعودة إلى اليوان، الذي ربما يمتلك بعضًا من القدرة على منافسة الدولار، فإنه رغم منح صندوق النقد الدولي له عام 2015م وضعية العملة الاحتياطية، بإضافته إلى سلته الخاصة بحقوق السحب “SDR” والتي تشمل الدولار والجنيه الاسترليني والين الياباني واليورو، وما تتخذه الحكومة الصينية من خطوات لتشجيع استخدام اليوان في المعاملات المالية والتجارية الدولية وتحرز هذه الخطوات تقدمًا نوعًا ما، فإن اليوان لا يحتل سوى %3 من حجم المعاملات العالمية مقارنة بـ %40 للدولار، ولم يتم الاحتفاظ به ضمن الاحتياطيات لبعض الدول، إلا في الآونة الأخيرة وتحديدًا عام 2021م لتمثل حصته نحو %7 من العملات الأجنبية في البنوك المركزية، ما يؤشر بأن الأمر قد يستغرق سنوات قبل أن ينمو اليوان لمستوى منافسة الدولار الأميركي، فضلاً عن أن الصين لا زالت تفتقر لسمات السيولة والمرونة والحرية في حركة رؤوس الأموال والشفافية بشأن أسواقها المالية، وذلك مقارنة بالعملات الدولية الرئيسة الأخرى، كاليورو والين الياباني، وأيضًا الدولار.
تحركات المواجهة
وبشكل عام، فإن تحركات مواجهة هيمنة الدولار الأميركي تواجه تحديا كبيرا لا يتعلق فقط بإشكاليات تحالف البريكس أو قدرات العملة الصينية على المنافسة، وإنما يتعلق أيضًا بتلك الأسس القوية التي يتمتع به الدولار الأمريكي والموقع المهيمن في التجارة العالمية والمعاملات المالية، مدعومًا بقوة الاقتصاد الأميركي فلا تزال الولايات المتحدة جذابة لبقية دول العالم من حيث السماح بتدفق رأس المال إليها بحرية وامتصاص المدخرات واختلالات الطلب لبقية دول العالم، ولا يزال كذلك سوق الأسهم الأمريكية أكبر سوق للأوراق المالية وأكثرها سيولة في العالم، ولا يزال يتم تسوية ما نسبته %75 من التجارة الدولية بما فيها النفط بالدولار.
الهيمنة مستمرة
وبحسب تقرير نشره موقع سكاي نيوز العربية في أبريل 2023م، أظهر أن حجم سوق النفط الخام العالمي قُدّر في عام 2022م بنحو 2.87 تريليون دولار، فيما بلغ إجمالي حجم التجارة العالمية في العام نفسه نحو 25 تريليون دولار، وبالتالي فإن تجارة النفط لا تحتل سوى %11 فقط من إجمالي حجم التجارة العالمية، وأكد التقرير أيضًا أن أكبر مساهم في دعم الدولار اليوم هو الدين وليس النفط، مشيرًا إلى أن الأمر لا يتعلق بالديون الصادرة من الولايات المتحدة، بل من الخارج؛ إذ أن نحو %64 من إجمالي الديون الصادرة خارج الولايات المتحدة تكون بالدولار، فضلاً عما يمثله الدولار حاليًا من عملة ارتكاز لنحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وما يمتلكه من قدرات تمُكّن الولايات المتحدة من وقف وصوله إلى البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، كقرارها ضد روسيا بتجميد ما قيمته 630 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي وقوّضت بشدة قيمة الروبل الروسي.
وأخيرًا يمكن القول إن الدولار سيظل عملة الاحتياطي المهيمنة عالميًا لفترة ليست بالقصيرة، نظرًا لافتقار البدائل المتاحة للعديد من المقومات التي تمتّع بها الدولار على مدار العقود الماضية وكذلك المقوّمات التي يتمتع بها الاقتصاد الأمريكي ككل، وأن الخروج من هيمنة الدولار يتطلب من الدول أو التحالفات الساعية بتقويض الهيمنة إلى إجراء حزمة من الإصلاحات المالية والمؤسسية الكبيرة.