28 مليون سيارة تضم 24 مجموعة من محركات السيارات الأوروبية التي تم بيعها منذ عام 2014م جاهزة لاستخدام الوقود الاصطناعي الذي طورته المملكة
إن قيادة سيارة تعمل بمحرك احتراق داخلي، دون القلق بشأن الانبعاثات التي تخرج منها. هو حلم يتقاسمه الدول والأفراد وكل عشاق وسائل التنقل الخاصة في العالم، خاصة مع التحديات التي تواجهها السيارات الكهربائية المتعلقة بتوفر الرقائق الإلكترونية والليثيوم وتوفر محطات الشحن والقدرة على السفر لمسافات طويلة، وهو ما قد يفسح المجال بشكل كبير نحو الاعتماد على نوع مبتكر من الوقود يطلق عليه “الوقود الصناعي أو المبتكر”، وهو بمثابة شكل أوسع من الوقود الهيدروكربوني، الذي يتم تطويره كيمائيًا من الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، يتم الحصول عليه سواء من الهواء مباشرة أو من المنشآت الصناعية.
وبلا شك تتسابق كافة دول العالم إلى التقنيات المتقدمة التي تحقق الأهداف المتعلقة بخفض الانبعاثات والحياد الكربوني، للحد من التغيرات المناخية، ويعتقد البعض أنها قد تجد ضالتها في هذا النوع من الوقود، ويمكن القول بأن هناك ما يمكن وصفه بـ “التنافس” بين الشركات العالمية في الدخول إلى عالم الوقود الاصطناعي، رغبة منها في التوافق مع الخطط والتوجهات العالمية المرتبطة بالوصول إلى هدف الحياد الكربوني، وأن التجارب التي تجريها حاليًا ربما تساهم بشكل كبير بالتوصل إلى تقنيات منخفضة التكلفة في المستقبل لاسيما أن تكلفة إنتاجه باهظة تزيد 100 مرة على تكلفة المشتقات النفطية المستعملة في تشغيل السيارات التقليدية، أو بالتقنيات النظيفة مثل الهيدروجين والبطاريات الكهربائية.
ليست وليدة اللحظة
وتجدر الإشارة إلى أن هذه التقنية التي تعتمد على الماء والهواء، ليست وليدة اللحظة، لكنها تعود إلى ما قبل 100 عام، وابتكرها العالمان الألمانيان “فرانز فيشر” و”هانس تروبش”، لكن الملاحظ حاليًا أن العديد من الشركات الدولية تجري تجارب أولية لإنتاج الوقود الاصطناعي، منها: بورش الألمانية، وسيمنس إنرجي الألمانية، وإكسون موبيل الأمريكية.
وتعد شركة “بورش” المتخصصة في تصنيع السيارات الرياضية الألمانية، من أكبر المستثمرين في مجال الوقود الاصطناعي، حيث أعلنت عن استثمار 100 مليون دولار في إنشاء منشأة جديدة لها في دولة تشيلي، بطاقة إنتاجية تصل إلى 130 ألف لتر، تزيد إلى 550 مليون لتر بحلول عام 2026م، وهي كمية صغيرة للغاية، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، استخدمت ما يقرب من 612 مليار لتر من البنزين في عام 2021م وحده.
وتتعاون شركة “زيرو بتروليوم” البريطانية التي نجحت بالتعاون مع سلاح الجو البريطاني، أواخر عام 2021م في تسيير أول رحلة جوية بالاعتماد على وقود الطائرات الاصطناعي بالكامل مع شركة “رولز رويس” العملاقة، في إجراء تجارب لاستخدام الوقود الاصطناعي في محركات “رولز رويس” المتنوعة، حيث تخطط الأخيرة إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050م، وفي ولاية تكساس الأمريكية، من المنتظر أن يتم إنشاء أول مصنع لإنتاج الغاز الاصطناعي العام المقبل، بحسب إعلان شركة “توتال انرجيز” وشركة “تري إنرجي” البلجيكية، ومن المتوقع أن تصل طاقته الإنتاجية إلى ما يتراوح بين 100-200 ألف طن متري من الغاز الاصطناعي، وأيضًا أعلنت شركة “داسيا” الرومانية المتخصصة في صناعة السيارات أنها ستشارك في رالي داكار في عام 2025م بنموذج أولي يعمل بالوقود الاصطناعي، تنتجه شركة “أرامكو السعودية”، كما وجهت المنظمة العالمية لمصنّعى السيارات دعوة إلى جميع الشركات العاملة في صناعة محركات السيارات بالاتجاه إلى الوقود الاصطناعي، كجزء من المسار نحو الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2050م مع ضرورة تطوير التقنيات الحالية بشكل يساهم في خفض تكلفة إنتاجه.
قبلة الحياة للسيارات
ويمكن التأكيد على أن الوقود الاصطناعي سيعطــــي قبلــــة الحيــــــاة للسيــــارات ذات محركات الاحتراق الداخلي، حتى تعيش فترة أطول، حيث قرر الاتحاد الأوروبي بشكل نهائي حظر بيع السيارات التي تعمل بمحركات احتراق داخلي بحلول عام 2035م، وتقدمت عدد من الشركات المصنعة بالتماس إلى المفوضية الأوروبية بشأن إعفاء السيارات التي تعمل بالوقود الاصطناعي من هذا القرار، لكنه تم الإعلان مؤخرًا عن اتفاق ألمانيا، أكبر منتج للسيارات في العالم، مع المفوضية على استثناء المحركات العاملة بالوقود الاصطناعي.
ومع ذلك، تشير دراسة إلى أنه بحلول عام 2035م سيتم إنتاج وقود اصطناعي يكفي فقط لنحو 2% من السيارات في أوروبا، وهذا يعني أن 5 ملايين فقط في دول الاتحاد الأوروبي المتوقع أن يصل عددها إلى 287 مليون سيارة يمكن أن تعمل بهذا الوقود، كما أن تكلفته قد تصل في ألمانيا على سبيل المثال إلى 2.8 يورو للتر الواحد بحلول 2030م وهو بذلك أعلى بنسبة 50% من تكلفة الوقود العادي اليوم.
أرامكو وستيلانتس
وكعادتها دائمًا في استكشاف المنتجات المتوافقة مع المعايير البيئية العالمية لخدمة عملائها حول العالم وخاصة في مجال النقل، باعتبارها أحد أهم الشركات العالمية الرائدة في مجال الطاقة والبتروكيماويات، توصلت أرامكو السعودية مع ستيلانتس، وهي شركة تصنيع سيارات متعددة الجنسيات، إلى أن 28 مليون سيارة تضم 24 مجموعة من محركات السيارات الأوروبية التي تم بيعها منذ عام 2014م جاهزة لاستخدام الوقود الاصطناعي الذي طورته الشركة السعودية، دون الحاجة إلى أي تعديل في تقنية نقل الحركة.
واعتبر كبير تقنيي النقل في أرامكو السعودية، عامر العامر، أن هذه النتائج تُعزز وجهة نظر الشركة بأن الوقود الاصطناعي يمكن أن يكون حلاً سهلاً الاستخدام في المركبات الحالية، وعندما يتم إنتاجه عبر مسار منخفض الكربون يمكن أن يلعب دورًا مهمًا في تقليل انبعاثات الكربون في قطاع النقل ودعم تحول الطاقة المنظم.
وتشير تقديرات شركة “ستيلانتس” إلى أن استخدام الوقود الاصطناعي الذي تطوره “أرامكو السعودية” في نحو 28 مليون سيارة ضمن أسطول مركباتها في الدول الأوروبية، سيساهم في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 400 مليون طن بين عامي 2025م-2050م.
كما تتعاون أرامكو السعودية مع شركتي “رينو” و”جيلي” لصناعة السيارات، لإنشاء مصنع جديد لإنتاج محركات احتراق داخلي تعمل بالوقود الاصطناعي، بطاقة إنتاجية مستهدفة 5 ملايين محرك سنويًا، وذكر الرئيــــس التنفيذي لمجموعة رينو، لوكا دي ميو، إن مشاركة أرامكـــو السعوديـــة بخبرتها الفريـــــدة في أعمالنــــا ستعــــزز لدينا تطوير الابتكـــارات المتقدمـــــة في مجـــالات الوقود الصناعي والهيدروجين.
ويؤكد مختصون أن الخطوات التي تتخذها أرامكو في استكشاف وإنتاج الوقود الاصطناعي، يتماشى مع خطط المملكة لتطوير الاقتصاد الدائري، الذي من شأنه تقليل انبعاثات الكربون وإعادة تدويرها، وكذا خططها الطموحة للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2060م.
أبرز التحديات
ومن أبرز التحديات التي تواجه إنتاج الوقود الاصطناعي هو حاجته إلى كميات كبيرة من الكهرباء من مصادر طاقة متجددة، مما يجعل إنتاجه باهظ التكلفة، كما أن التوسع فيه يعني المزيد من الكهرباء المستدامة، ورغم ذلك فإن ميزته الأهم هي إمكانية تخزين الطاقة المنتجة من الوسائل المتجددة في الوقود التركيبي وهي مصادر لا يمكن إهمالها في المستقبل، لكنها ستصبح أرخص بكثير مستقبلاً (تصل تكلفة إنتاج لتر واحد من الوقود الاصطناعي حاليًا إلى 10 مرات من الوقود الأحفوري)، وإنه يمكن أن يقلل بشكل كبير البصمة الكربونية لوسائل النقل، ويرى مدير مركز المملكة المتحدة لاستغلال ثاني أكسيد الكربون “بيتر ستيرينغ”، إنه يمكن استخدام الطاقة النووية لحل مشكلة التكلفة العالية، حيث يتم إنتاجه من كميات كبيرة من الحرارة والكهرباء التي يمكن أن توفرها المفاعلات النووية، مشيرًا إلى أن التحول إلى وسائل النقل الكهربائية بحلول 2035م ليست بالحل السهل، ومن الممكن أن يكون الوقود الاصطناعي هو الحل الأمثل للطائرات، مشددًا على أن العالم بحاجة إلى نظام الطاقة الدائري بالكامل، بدلاً من “النظام الخطي” الذي لدينا مع الوقود الأحفوري، وأن الجميع يدرك المستقبل الهائل لهذا النوع من الوقود.
ويبقى أن مستقبل الوقود الاصطناعي أكثر إشراقًا، خاصة أن المواد اللازمة لإنتاجه تتسم بالوفرة والاستدامة، فضلاً عن أنه يقلل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 85% مقارنة بالوقود الأحفوري، بالنظر إلى احتوائه على 10 عناصر فقط، في حين يحتوي الوقود المعتمد على النفط على 30 إلى 40 مكونًا، يتم حرق معظمها ثم إطلاقها في الهواء، كما أنه أقل وزنًا وأسهل في النقل عبر خطوط وأنابيب لمسافات طويلة، علاوةً على أنه لا يتطلب إجراء تعديلات كبيرة في تصميم المحركات أو حتى محطات الوقود.
ورغم المزايا العديدة، مازال مدى فاعلية إنتاج الوقود الاصطناعي محل نقاش بين الخبراء والمتخصصين، خاصة فيما يتعلق بالتكلفة والجودة، حيث مازالت معظم الشركات الرائدة تراهن على السيارات الكهربائية في خططها المستقبلية، لاسيما مع توفر التكنولوجيات التي تستخدمها، وقطعها شوطًا طويلاً في تطوير هذه التقنية بشكل أسرع خلال السنوات الماضية.