من خلال سياسات حكومية قوية أظهرت المملكة مرونةً واستقرارًا ملحوظين في إدارة معدلات التضخم حتى انخفضت في أغسطس الماضي إلى 2% مقابل 2.3% و2.7% في شهري يوليو ويونيو على التوالي
كان عام 2022م هو عام التضخم المشتعل حيث شهد أكبر موجات تضخمية منذ عقود وارتفاع الأسعار هو العنوان الأبرز له
لاشك في أن التضخم هو “العدو الأول” للتنمية، حيث يشهد العالم ارتفاعًا في أسعار السلع والخدمات وضعف القوة الشرائية للعملات الوطنية بنسب متفاوتة، فما إن بدأت دول العالم تتنفس الصعداء بعد انتهاء جائحة كورونا أواخر عام 2021م وما واكبها من الإغلاق التام أو الجزئي وغيرها من التدابير الوقائية، التي أثّرت بشكل كبير على سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، ومن ثم ارتفاع معدلات التضخم، حتى تعرّضت لهزّة عنيفة أُخرى تمثلّت في الأزمة الروسية ـ الأوكرانية مع بداية عام 2022م، التي ساهمت بشكل كبير في ارتفاعات قياسية في التضخم، ربما لم تشهدها دول العالم منذ أزمة “الكساد العالمي” في ثمانينيات القرن الماضي.
عام التضخم المشتعل
وتشير بيانات البنك الدولي إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق في مختلف دول العالم خلال عام 2022م مقارنة بالعامين السابقين عليه؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية سجل التضخم 8% مقارنة مع 4.7% في عام 2021م و1.2% في عام 2020م، وفي المملكة المتحدة بلغ التضخم 7.9% مقابل 2.5% في عام 2021م كما بلغ متوسط التضخم في دول الاتّحاد الأوروبي 8.8% مقارنة مع 2.6% عام 2021م، وفي الدول أعضاء منظمة التعاون والتنمية، وصل التضخم إلى 8.2% مقابل 2.8% عام 2021م، وفي الدول منخفضة ومتوسطة الدخل سجل 9.1% عام 2022م مقابل 4.2% عام 2021م.
وأطلق الخبراء على عام 2022م بأنه عام التضخم المشتعل، حيث شهد أكبر موجات تضخمية منذ عقود، حيث كان ارتفاع الأسعار هو العنوان الأبرز لهذا العام، ففي الولايات المتحدة الأمريكية ـ على سبيل المثال ـ فقدت بعض الأسر مدخراتها التي جمعتها على مدار عامين، حيث واصل البنك الفيدرالي رفع أسعار الفائدة (10 مرات متتالية خلال الفترة مارس 2022م – يونيو 2023م)، مما ساهم في زيادة تكاليف الديون الائتمانية والقروض.
وتوقع صندوق النقد الدولي في أحدث تقاريره انخفاض التضخم العالمي من 8.7% عام 2022م إلى 7% بنهاية العام الجاري، ثم إلى 4.9% عام 2024م وتراجع التضخم الكلي في نحو 76% من الاقتصادات في عام 2023م غير أنه يتوقع استمرار الفروق الأولية في مستوى التضخم بين الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، وأشار إلى أن التباطؤ المتوقع في معدل التضخم يعكس تراجع أسعار السلع الأولية والانخفاض المتوقع في مستويات النشاط الاقتصادي نتيجة التشديد النقدي، وفي الوقت نفسه من المتوقع تراجع التضخم عالميًا، باستثناء الغذاء والطاقة بوتيرة أكثر تدرجًا خلال عام 2023م بمقدار 0.2 نقطة مئوية فقط ليصل إلى 6.2.
المملكة تكبح التضخم
ورغم الارتفاعات القياسية في معدلات التضخم العالمي، نجحت دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة المملكة في كبح جماح التضخم وسجلت معدلات أقل بكثير من مثيلاتها في مختلف دول العالم عام 2022م حيث بلغ معدل التضخم في المملكة 2.4%، وفي الإمارات 4.8%، وقطر 4.9%، والبحرين 3.6%.
وشهدت المملكة انخفاضًا تدريجيًا في معدلات التضخم منذ أكثر من عام، فقد سجل 2% في أغسطس الماضي، مقابل 2.3% و2.7% في شهري يوليو ويونيو على التوالي، وأشارت بيانات الهيئة العامة للإحصاء إلى أن ارتفاع الأسعار يرجع بشكل رئيسي إلى زيادة أسعار السكن والمياه والكهرباء والغاز وأنواع وقود أخرى بنسبة 9%، لكن أسعار الأغذية والمشروبات ارتفعت بشكل طفيف في حدود 0.4%، وعلى أساس سنوي سجل التضخم أعلى مستوياته في يناير 2023م وبلغ 3.4%، وهو ما يؤكد على نجاح السياسات المالية التي اتبعتها المملكة منذ عام 2020م للحفاظ على التضخم في مستوياته الطبيعية.
وذكر كبير محللي الشرق الأوسط في شركة الأبحاث البريطانية “يورومونيتور انترناشيونال” نيكولا كوسيتش أنه على النقيض من الاتجاه العالمي أظهرت المملكة العربية السعودية مرونة واستقرارًا ملحوظين في إدارة معدلات التضخم، وذلك في المقام الأول من خلال سياسات حكومية قوية، ففي السنوات الأخيرة اتسم المشهد الاقتصادي العالمي بالتقلبات المضطربة وعدم اليقين وكان أحد المخاوف الأكثر انتشارًا هو تصاعد معدلات التضخم في معظم الاقتصادات العالمية، والتي تغذيها السياسات النقدية التوسعية غير المسبوقة، والعجز المالي، وصدمات العرض، والتي تسببت في ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية وتعطيل سلاسل التوريد العالمية.
وأضاف أنه مع ذلك ومن خلال الجهود الحكومية السعودية السليمة للحد من التضخم والحفاظ على الاستقرار، التي تعكس مدى فعالية الاستراتيجيات الاقتصادية التي تنتهجها، حيث حققت نجاحًا كبيرًا في إدارة وباء كوفيد، واحتلت المرتبة الخامسة (من أصل 53 دولة) في تصنيف مرونة كوفيد لعام 2022م، إذ ساهمت هذه الإدارة الفعالة في أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية بسرعة، وإبقاء التضخم تحت السيطرة بشكل أكثر فعالية عن العديد من البلدان الأُخرى في جميع أنحاء العالم.
وأشار الخبير البريطاني إلى ارتباط جانب كبير من النهج الذي تتبعه المملكة تجاه الاستقرار التضخمي بسياسات مراقبة الأسعار، حيث أنها سباقة في تنظيم أسعار السلع والخدمات الأساسية، وهذا أمر محوري في منع التضخم الناجم عن التكلفة، وأشار إلى أنه ومن ضمن استراتيجيات تنظيم أسعار السلع والخدمات الأساسية جمعية حماية المستهلك التي تراقب تحركات الأسعار وتضمن عدم استغلال المستهلكين من خلال ارتفاع الأسعار غير المبرر، فضلاً عن تبني برامج اجتماعية قوية للمواطنين، من خلال تقديم الدعم للسلع الأساسية والإسكان والتعليم والرعاية الصحية، منها على سبيل المثال برنامج حساب المواطن، الذي يوفر تحويلات نقدية للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط لتعويض تأثير تكاليف المعيشة المتزايدة، وشدّد على أن مثل هذه التدابير ساهمت بشكل كبير في التخفيف من الضغوط على المستهلكين وخلق بيئة تضخمية أكثر استقرارًا.
وقد وضعت المملكة معايير يمكن وصفها بـ “المثالية”، للحفاظ على الاستقرار التضخمي وسط الرياح الاقتصادية العالمية المعاكسة، ومن خلال المنافسة القائمة في قطاع التجزئة، وضوابط الأسعار التي تفرضها الحكومة، والسياسات الاجتماعية القوية، وتثبيت سعر صرف الريال أمام الدولار، نجحت المملكة في التخفيف من الضغوط التضخمية التي عصفت بالاقتصادات الأخرى، حيث تعكس هذه السياسات الالتزام القوي بضمان رفاهية المواطنين، وليست فقط لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، رغم استمرار حالة عدم اليقين التي يعاني منها الاقتصاد العالمي.
وثمة توقعات لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بأن يبلغ معدل التضخم في المملكة 2.1% عام 2024م ونمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.9% في العام ذاته، وهو معدل أعلى من العديد من دول العالم، حيث توقعت أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 0.8%، والبريطاني بنسبة 1.3%، والاسترالي بنسبة 1.3% والبرازيلي بنسبة 1.7% في عام 2024م كما توقعت عدة تقارير دولية أن يسجل التضخم في المملكة 2.03% و2% عامي 2025م و2027م على التوالي.
توقعات التضخم العالمي
ورغم وجود بعض التوقعات المتفائلة بانحسار معدل التضخم العالمي وما تشير إليه التقديرات بتراجعه إلى قرابة الـ 5% عام 2026م، فإن الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة التي تتبعها البنوك المركزية في العالم، لن تستطيع وحدها السيطرة على معدلات التضخم، إذ لابد أن يتزامن ذلك مع تقييد الميزانيات العامة وخفض الإنفاق العام الذي من شأنه تقليل الضغط الملقى على كاهل الطلب الكلي.
وثمة خلاف دائر بين الخبراء والمختصين بشأن مستقبل التضخم العالمي، إلا أنه يمكن القول بأن المخاوف المتعلقة بمواصلة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، جراء استمرار أزمة سلاسل التوريد العالمية، بسبب تداعيات سياسة ما يعرف بـ”صفر كوفيد” التي تتبعها الصين، فضلاً عن عدم ظهور بوادر تلوح في الأفق بشأن الأزمة الروسية الأوكرانية، مازالت هذه التحديات تلقى بظلالها على مستقبل الاقتصاد العالمي نفسه، وهو ما دفع كبير الاقتصاديين بصندوق النقد الدولي “بيير أوليفييه”، إلى القول بأن هناك احتمالاً بتهاوي معدل النمو العالمي إلى أقل من 1% في العام المقبل.
ويؤكد مختصون على أن البنوك المركزية في العالم تدرك جيدًا أن التحديات التي تواجهها كبيرة ، وأن السيطرة على التضخم بالوسائل التقليدية تأخذ وقتًا طويلاً ومكلفًا، خاصة مع حزم الدعم الهائلة التي تقدمها لمواطنيها، والتي قد تأتي بنتائج عكسية، تتمثل في ارتفاع وتيرة الانفاق الاستهلاكي، وهو ما تسعى هذه البنوك لوقفه، لتضيف كل هذه العوامل وغيرها من التحوّلات الجيوسياسية التي يعيشها العالم في الوقت الراهن مزيدًا من الضبابية على المشهد العالمي، وتنذر بعودة خطر التضخم للتصاعد مرة أخرى.