قامة الولايات المتحدة بطباعة 13 تريليون دولار خلال عام 2021، ووصلت تكلفة الطباعة إلى ما يزيد عن المليار دولار
عدد الأوراق النقدية لليورو المتداولة في المنطقة بلغت بنهاية عام 2017م حوالي 21.4 مليار ورقة نقدية ما يعني أنها ارتفعت بمقدار ثلاث مرات مقارنةً بعام 2002م
أخذت تزداد في الآونة الأخير ة لافتات (لا نتعامل إلا بالبطاقات البنكية)، و ازداد رواج شعار (العملات الرقمية مستقبل النقود في العالم)، وكان واضحًا ثمة سعي وخطوات متسارعة لتطوير التعاملات المالية وإصدار العملات الرقمية؛ حيث قامت الحكومات ذاتها باستحداث وتدشين الأسس القانونية والتشريعات الخاصة بالعملات الرقمية، الأمر الذي أثار العديد من الأسئلة والأفكار حول مستقبل الأوراق النقدية (البنكنوت)، ومدى ملاءمتها ومواكبتها للأحداث والأزمات المتتالية التي يمر بها العالم، وكذلك تكلفة إصدارها مقارنة بغيرها من العملات.
تطورت عملية طباعة النقود تاريخيًا، وبالطبع فقد كانت هناك تكلفة اقتصادية لطباعة العملة، لذا فقد جرت محاولات متعددة في السابق وحاليًا لاستبدال العملات الورقية بعملات معدنية توفيرًا لنفقات الطباعة للعملات الورقية، وأيضًا لتقليص نفقات استبدالها نتيجة التهالك والتلف، وعلى سبيل المثال فقد قامت الولايات المتحدة بطباعة 13 تريليون دولار خلال عام 2021م ووصلت تكلفة الطباعة إلى ما يزيد عن المليار دولار؛ حيث تكلف طباعة الورقة فئة الدولار الواحد 7.5 سنتات، بينما تكلف طباعة الورقة فئة 100 دولار حوالي 17 سنتًا.
مشكلات الطباعة
وأحد المشكلات التي تواجه طباعة العملة الورقية حاليًا بجانب التهالك والتلف هو تكلفة الطباعة، حتى أنها وصلت في بعض الدول إلى 40% من قيمتها، وهي تكلفة كبيرة أدت حتى إلى خلو بعض الأسواق من الأوراق النقدية المزورة بسبب التكلفة المرتفعة.
وفي الوقت الذي تشير فيه التقارير إلى أن سوق صك العملة أو طباعة الأموال سينمو 4% سنويًا ليصل إلى 15.65 مليار دولار في 2025م فإن البنوك المركزية باتت لديها خيارات متعددة، سواء فيما يتعلق باختيار مواد العملة سواء ورقي أو معدن أو بوليمر أو بلاستيك أو فيما يتعلق بالتقنيات الأمنية والتصميم.
وبشكلٍ عام ووفقًا لدراسة أعدها صندوق النقد الدولي فإن العالم حاليًا يتجه لإنتاج النقود من مادة البوليمر لانخفاض تكلفتها وطول عمرها الافتراضي، فضلاً عن كونها صديقة للبيئة.
صعوبة التنبؤ
ولا يمكن التنبؤ بمستقبل الأوراق النقدية، إلا بعد قراءة الصورة كاملة ومعرفة التطورات التي تتم على الجانب الآخر، وتحديدًا التطورات الحادثة في مجال الدفع الرقمي والعملات الرقمية، باختلاف أنواعها، على اعتبار أن تلك العملات، هي التي يمكن أن تزيح وتسحب البساط من الأوراق النقدية.
وتشير التقارير إلى أن هناك 105 دولة حول العالم تدرس وتستكشف مسألة إصدار البنوك المركزية لعملاتها الرقمية، كما أن 50 دولة منها تخطو قدمًا نحو تطوير عُملتها، بينما قامت 10 دول بإطلاق عملاتها الرقمية بالفعل.
وفيما توقعت شركة “بي سي جي” للخدمات الاستشارية أن يحل الدفع الرقمي محل الدفع بالعملة الورقية والمعدنية في المستقبل القريب، ورأى الرئيس السابق لمصرف دويتشه بنك الألماني، جون كريان ، أن الدفع النقدي سيختفي خلال أقل من عشر سنوات، واصفًا الدفع النقدي بأنه مكلف بشكل مخيف وغير فعال.
وتسعى مملكة السويد لأن تصبح أول دولة في العالم تستغني عن العملات الورقية في تعاملاتها، بعد أن تراجع استخدامها بنسبة 80% حيث يستخدمها السويديون في شراء 20% من حاجاتهم فقط، وكان استطلاع للرأي أجراه البنك المركزي السويدي على سؤال: كيف سددت قيمة مشترياتك مؤخرًا؟، أجاب 70% ممن شملهم الاستطلاع، بـ “البطاقة” في حين أجاب 15% فقط بالقول “نقدًا”، وفي دراسة أجرتها شركة “ديلويت”، فإن واحدًا من بين كل 3 أشخاص بالدنمارك وواحدًا من بين كل 4 في السويد يستخدمون الهاتف المحمول في دفع قيمة مشترياتهم.
الدفع غير النقدي
بعد أن أدت العديد من العوامل خلال الفترة الأخيرة وعلى رأسها جائحة كورونا إلى إثارة حالة من النقاش حول التخلي عن الأوراق النقدية، خاصةً مع رواج وصعود العملات الرقمية والمشفرة، أصبح السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هو: هل ستختفي الأوراق النقدية؟
ومع أن هناك تزايدًا وانتشارًا كبيرًا في الدفع غير النقدي، سواء في الدول المتقدمة أو الناشئة، وعلى الرغم من توجه العالم بأكمله نحو الرقمنة في كافة القطاعات والمجالات، إلا أن شركة “جيزيكه أند ديفرينت” الألمانية، المتخصصة في طباعة العملات والبطاقات المالية توقعت بأن الأوراق النقدية لن تختفي من التداول خلال التعاملات اليومية في المستقبل المنظور، موضحةً أن إنتاج العملات الورقية في أوروبا لم يتراجع، بل ينمو حتى لو كان نموًا بسيطًا، كما أن الإنتاج يرتفع في شرق أوروبا أما في أفريقيا فإنه مرتفع للغاية.
وتشير إحصائيات البنك المركزي الأوروبي إلى أن عدد الأوراق النقدية لليورو المتداولة في المنطقة بلغت بنهاية عام 2017م حوالي 21.4 مليار ورقة نقدية، وهو ما يعني أنها ارتفعت بمقدار ثلاث مرات مقارنةً بعام 2002م الذي شهد بدء تداول اليورو، وفي ألمانيا تشير بعض التقارير إلى أن الألمان لديهم الرغبة في الدفع النقدي، وحتى عندما اقترح وزير المالية الألماني السابق “فولفجانج شويبله” وضع حد أقصى للعملة النقدية، وذلك في إطار الجهود المبذولة لمكافحة الجريمة، وعلى الرغم من نفى وجود نية لإلغاء العملة النقدية، إلا أن المقترح أو الفكرة واجهت معارضة شديدة.
وإذا كانت بعض المطاعم في السويد باتت ترفض الدفع نقدًا، فإن بعض المقاهي في برلين تشترط الدفع النقدي، وحتى في الصين، التي تشير الدراسات التاريخية إلى أنها أول بلد طبع العملة الورقية، يتزايد فيها الدفع عبر تطبيقات الهواتف الذكية، ومع ذلك فإن إنتاج العملات الورقية مستقر على الأقل، ولم يتم رصد تراجع في الإنتاج.
اتجاهين وتحديات
ومن الواضح أن هناك اتجاهين في التنبؤ بمستقبل العملات الورقية، أحدهما يرى أن الأزمات العالمية التي مر بها العالم مؤخرًا مع التطور التكنولوجي الهائل والتحول الرقمي ستؤدي إلى قيام العملات الرقمية بالهيمنة المطلقة على الاقتصاد والتعاملات المالية الدولية، والاتجاه الأخر يقلل من ذلك ويرى أن التعامل النقدي سيظل سائدًا في التعاملات اليومية لأسباب تتعلق بنفسية الأشخاص وتعود الكثير من الأشخاص حول العالم على الدفع النقدي أو لعدم ثقتهم المطلقة بعد في الدفع الرقمي ويدل على استمرار قيام الحكومات بطبع الأوراق النقدية بنفس المعدلات وربما أكثر كما ذكرنا.
وإذا حاولنا الترجيح بين الاتجاهين وأيهما سيهيمن فلابد من الإشارة إلى أن ذلك سيرتبط بعدد من التحديات والمخاطر والاختبارات الماثلة، ومنها: علاقة العملات المشفرة بالبيئة، إذ يرى الخبراء أن جميع العملات المشفرة ضارة بالبيئة نسبيًا؛ ففي تقرير أعدته جامعة كامبريدج فإن تعدين البيتكوين يستهلك أكثر من 120 تيرا وات في الساعة سنويًا وهو ما يعادل الاستهلاك السنوي للطاقة الكهربائية لبلد مثل: ماليزيا أو الأرجنتين، كما أن إنتاج عملة بيتكوين على سبيل المثال يستهلك حاليًا ما يقدر بنحو 0.6% من إنتاج الكهرباء العالمي.
وأحد أهم التحديات التي تواجه العملات الرقمية والتعاملات المالية الرقمية وأنظمة الدفع العابرة للحدود هو اختلاف مصالح الدول ذاتها، فعلى سبيل المثال، تشير بعض التقارير، ومنها ورقة العمل الصادرة عن صندوق النقد الدولي في مارس 2022م بأن هناك تحولاً في الاستثمارات العالمية من الدولار الأمريكي نحو اليوان الصيني الرقمي، الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة قد تكون مطالبة بإعادة النظر في الاستثمار في العملات الرقمية للبنوك المركزية من أجل الحفاظ على الهيمنة العالمية للدولار، كذلك، فإن بعض الدول قد تستخدم العملات الرقمية لتجاوز العقوبات الاقتصادية، وهو ما حدث مؤخرًا عندما أعلنت روسيا عن خطط للتجارة مع الصين باستخدام الروبل الرقمي بحلول عام 2023م لتجاوز الحظر المفروض عليها من قبل نظام (SWIFT)، كما أعلن صراحة مسؤولون في البنك المركزي الهندي مخاوفهم من “دولرة” الاقتصاد الهندي معتبرين أن انتشار “الدولرة” من خلال العملات المشفرة سيؤثر سلبًا على المصالح السيادية للهند ويهدد استقرار النظام المالي.
وأخيرًا، فإن توجه العالم نحو الاستمرار في التعامل النقدي أو التحول نحو الدفع الرقمي سيرتبط بالتجارب والدراسات الحالية، ومنها مدى التقدم الذي ستحققه الصين من إطلاق اليوان الرقمي، ومنها مدى حسم الأوروبيين لموقفهم بشأن اليورو الرقمي، فحتى الآن يتساءل البعض هناك عن أهميته وجدواه، كما أن الأمر سيرتبط بتكاليف إصدار العملة وبمخاطر استخدام العملات الرقمية بشكل عام، واستخدامها من قبل البعض في غسيل الأموال والاحتيال وكيفية ضمان استمرار المواطنين والشركات في الوصول إلى الأمان الرقمي في التعاملات المالية، الأمر الذي يؤكد أهمية البنية التحتية السليمة للدفع عبر الحدود باعتباره أمرًا بالغ الأهمية للتجارة الدولية والأنشطة الاقتصادية.