أسواق العملات المشفرة

عودة البتكوين!

في رسالة تعود إلى القرن الثامن عشر، كتب الأب المؤسس للولايات المتحدة بنيامين فرانكلين ذات مرة: “لا شيء يمكن أن يقال على أنه مؤكد، باستثناء الموت والضرائب”. ربما، في العصر الحديث، علينا أن نُضيف إلى هذه المقولة “زيادة تنظيم سوق العملات المشفرة”، التي تعود للواجهة ثانية بعد القرار الأمريكي الذي طال انتظاره.

 

ويمكن القول إن مستثمري العملات المشفرة قضوا عام 2023م، في انتظار الأخبار الجيدة، فبعد انهيار (FTX) أكبر بورصة العملات المشفرة في العالم أواخر عام 2022م، حينها تم تداول العملة الرقمية الشهيرة البيتكوين بما يزيد قليلاً عن 16 ألف دولار، وهو بعيد كل البعد عن أكثر من 60 ألف دولار تم تداولها بها خلال طفرة العملات المشفرة في عام 2021م..

لكن خلال الأشهر القليلة الماضية، بدأت الأمور تتحسن، وأصبح مستثمرو العملات المشفرة مقتنعين أكثر فأكثر بأن هيئات الأوراق المالية والبورصات ستوافق على جهود استمرت لسنوات من قبل شركات الصناديق لجلب صندوق تداول فوري للبيتكوين إلى السوق، وهو ما حدث بالفعل في شهر يناير 2024م، حين وافقت هيئة الأوراق المالية والبورصة الأمريكية على السماح بإنشاء صناديق تداول بيتكوين في الولايات المتحدة، والسماح للمستثمرين بالتداول على العملة المشفرة دون الاحتفاظ بالعملة نفسها، وهو ما يسهل على المتعاملين بالأسواق المالية على الاستثمار على سعر العملة فقط، ما يعني تقليل المخاطر، ودخول مزيد من رؤوس الأموال إلى هذه السوق المتقلبة والمثيرة للجدل..

قرار تاريخي

ويمكن وصف القرار الأمريكي بـ “التاريخي” كونه أضفى شرعية على تداول العملات المشفرة، تساعد في ضخ استثمارات ضخمة في سوق العملات المشفرة، وسط توقعات بأن تصل قيمة الحصيلة المتوقعة جراء هذا القرار إلى 100 – 150 مليار دولار خلال العامين المقبلين، وقد ارتفعت منذ بدء الحديث عن هذه الصناديق قيمة البيتكوين بنسبة 155% خلال عام 2023م، فالموجة الجديدة من صناديق الاستثمار المتداولة للبيتكوين تجعل من السهل أكثر من أي وقت مضى على المستثمرين في الأصول التقليدية، مثل الأسهم والسندات، أن يغمسوا أصابعهم في العملات المشفرة، بدلاً من الاضطرار إلى فتح حساب منفصل لشراء العملات المشفرة (غالبًا برسوم تداول عالية)، كما يمكن للمستثمرين في صناديق الاستثمار المتداولة الاحتفاظ بالبيتكوين جنبًا إلى جنب مع استثماراتهم الأخرى في حسابات الوساطة الخاصة بهم..

صناديق بنكهات مختلفة

ويقول رئيس قسم أبحاث الأصول الرقمية في شركة “فان إيك”، ماثيو سيجل، وهي شركة استثمار تقدم واحدًا من الصناديق الـ 11 الجديدة: “نعتقد أنها خطوة كبيرة إلى الأمام من شأنها أن تخلق طلبًا كبيرًا نظرًا للتوفير في التكاليف لمشتري التجزئة والأمن المتاح للمشترين من المؤسسات”، مضيفًا أن هذه الصناديق الجديدة ستسمح قريبًا للمستشارين الذين يتعاملون مع العملاء ذوي الثروات العالية ومؤسسات الأموال الكبيرة بالبدء في دمج العملات المشفرة في محافظهم الاستثمارية، متوقعًا مزيدًا من صناديق الاستثمار المتداولة للعملات المشفرة الجديدة وبنكهات مختلفة..

ومن جانبه، يذكر رئيس قسم الأبحاث في شركة الاستشارات المالية الأمريكية “فيتافاي”، تود روزنبلوث، أنه لا مفر من أن تكون لدينا صناديق استثمار متداولة مرتبطة بالإيثر، كعملة مشفرة ثانوية يمكن للناس الاستثمار فيها”، وأشار إلى أن الباب أصبح الآن مفتوحًا لمجموعة من صناديق الاستثمار المتداولة التي تشمل البيتكوين بالإضافة إلى الأصول الأخرى..

مخاطر عدة

ويبدو أن هذا الضوء الأخضر التنظيمي كان متوقعًا منذ عدة أشهر؛ إذ قفز سعر البيتكوين بنسبة 70% تقريبًا منذ أكتوبر 2023م، حيث توقع مستثمرو العملات المشفرة أن الاستخدام الواسع النطاق لصناديق الاستثمار المتداولة في البيتكوين من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الطلب على العملة المشفرة، كما ارتفع سعر الإيثريوم، ثاني أكثر العملات المشفرة شعبية، وسط تكهنات بأن مديري الصناديق سوف ينشؤون صناديق استثمار متداولة حولها.

وأعرب المستثمرون عن اعتقادهم بأن صناديق الاستثمار المتداولة قد تساعد في استقرار أسعار العملات المشفرة من خلال توسيع نطاق استخدامها، ولكن لا يزال كثيرون يشعرون بالقلق من أن الاستخدام الواسع النطاق لصناديق الاستثمار المتداولة، يمكن أن يضع كثيراً من المخاطر والتقلبات في حسابات التقاعد الأمريكية، وهي المخاوف نفسها التي أبدتها مفوضة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، كارولين كرينشو، التي عارضت قرار إنشاء صناديق الاستثمار بشدة، وقالت: “إنني أشعر بالقلق من أن هذه المنتجات سوف تغمر الأسواق وتهبط بشكل مباشر في حسابات التقاعد للأسر الأمريكية التي لا تستطيع تحمل خسارة مدخراتها بسبب الاحتيال والتلاعب الذي يبدو سائدًا في أسواق البيتكوين”.

تود روزنبلوث

وفي السياق نفسه، ذكر المدير الأول لشركة “موديز أنالاتكس”، يانيس جيوكاس، أن التقلبات سيئة السمعة في أسعار عملة البيتكوين، بالإضافة إلى قيمتها المتقلبة مقابل العملات المستقرة والعملات المشفرة الأخرى، يمكن أن تعرض المستثمرين الرئيسيين لمجموعة أقل شهرة من مخاطر الاستثمار”..

وعلى الرغم من فشلها في أن تكون بديلاً للعملات الورقية، ارتفعت عملة البيتكوين إلى ما يقرب من 68 ألف دولار في نوفمبر من عام2021م، وبعد مرور عام، انخفضت إلى أقل من 20 ألف دولار، حيث تجنب المستثمرون بشكل عام الأصول الأكثر خطورة نتيجة الأحداث الأخيرة التي تعرض لها قطاع العملات المشفرة، وحتى مع الإجراءات الأمريكية الصارمة لضبط سوق التشفير، لا تزال الصناعة تعكس مظاهر ما يطلق عليه “الغرب المتوحش الحديث”، حيث أثار اختراق الحساب الرسمي لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية على موقع التواصل الاجتماعي ” إكس” تساؤلات حول قدرة المحتالين على التلاعب بسعر البيتكوين وقدرة الجهات التنظيمية على إيقافهم..

ماثيو سيجل

مستقبل المشفرة

ويأتي القرار الأمريكي، في الوقت الذي مازالت تفرض فيه عديد من الدول قيودًا صارمة على العملات المشفرة، وذهبت دول أُخرى إلى حظر تداولها، ففي الاتحاد الأوروبي يتم حاليًا دراسة تشريع يفرض إجراء العناية الواجبة على شركات العملات المشفرة تجاه عملائها، ضمن حملة أوسع لمكافحة غسيل الأموال في الدول الأوروبية، ويأتي ذلك في الوقت الذي تدرس فيه الهيئات التنظيمية في كندا إجراء تغييرات على اللوائح التنظيمية التي تحكم كيفية تعامل صناديق الاستثمار العامة مع الأصول المشفرة، وهي التعديلات التي من شأنها تقييد هذه الصناديق، رغم امتلاكها صناديق المؤشرات المتداولة الفورية للبيتكوين منذ عام 2021م..

وبين مؤيد ومعارض للعملات المشفرة، تشير التطورات إلى أن الولايات المتحدة تسعى لأن تكون مركزًا عالميًا لها، بإجراءات تنظيمية قد تتشكَّل معالمها خلال الفترة المقبلة، حيث قطعت هذه العملات شوطًا طويلاً في فترة زمنية قصيرة..

يانيس جيوكاس

وتظهر تقارير عدة أن ملكية العملات المشفرة اليوم تبلغ حوالي 200-300 مليون شخص، وغالبًا ما توصف فيتنام بأنها السوق الأكثر نضجًا عندما يتعلق الأمر بتبني العملات المشفرة، ومن المتوقع أن تتضاعف قيمة سوق العملات المشفرة ثلاث مرات بحلـــول عام 2030م، لتصل إلى ما يقـــــرب من 5 مليـــــارات دولار، وهو ما يشير إلى أنها ستستمـــر في النمــــو وستصبح أحد الجوانب المركزية لحياتنا المالية في المستقبل..

ويقول الرئيس التنفيذي لمنصة التجارة الإلكترونية “سيلكس”، دانييلي سيرفادي: “باعتبارنا متحمسين ومؤمنين بالعملات المشفرة، نحتاج إلى البدء في النظر إلى صناعتنا بشكل أكثر انتقادًا.. نحن بحاجة التخلص من المحتالين”، معربًا عن اعتقاده بضرورة منح الثقة للشركات والمنصات التي تعمل في هذه السوق، ولا تثار حولها الشبهات”، مستطردًا بقوله “يجب على أصحاب المصلحة في صناعة العملات المشفرة الاستعداد لتشديد التنظيم، ومع ذلك، لا يجب أن يكون هذا أمرًا سيئًا، فقد تخنق بعض اللوائح التنظيمية الابتكار وتحد منــه، ولكن من المرجــــح أن تكون معظم لوائح العملات المشفرة بدائية للغاية؛ لأن الصناعة لم يتم تنظيمها كثيرًا حتى الآن”، مشددًا على ضرورة توفير ضمانات للعملاء ووضــع الحد الأدنى من المعاييـر لمشغلي العملات المشفرة.

دانييلي سيرفادي

ويمكن القول إن السنوات المقبلة من المتوقع أن تشهد مزيدًا من الدول التي تحظر استخدام العملات المشفرة أن تقوم بتطوير وتنفيذ أطرها التنظيمية والقانونية الخاصة لاستخدام هذه العملات، وذلك بالنظر إلى أن العملات المشفرة ظهرت لتبقى وستشهد استخدامًا عالميًا متزايدًا، وفي هذه الحالة، سوف تحتاج هذه الحكومات في النهاية إلى تبني العملات المشفرة إذا أرادت التنافس على المسرح العالمي.