معايرة الإنفاق الاستثماري تسهم في توجيه الموارد المالية نحو المشروعات الأكثر فائدة وتأثيرًا في الاقتصاد الوطني.
التجربة الأمريكية أبرزت أهمية معايرة الإنفاق كأداة لتحقيق النمو الاقتصادي والتوازن بين الدعم الحكومي والاستدامة المالية.
تُشكل “معايرة الإنفاق الاستثماري” جزءًا أساسيًا من الخطط التنموية للبلدان، وتُعدُّ من الأدوات الرئيسة التي تعتمدها الدول لتحقيق النمو الاقتصادي المستـــدام، وتوجيـــه الموارد الماليــــة نحو المشاريـــع الأكثر فائــدة وتأثيرًا في الاقتصاد الوطني.
يُقصد بـ “معايرة الإنفاق الاستثماري” قياس وتقييم مدى كفاءة وفاعلية الإنفاق الاستثماري المالي لدولة معينة أو وزارة أو جهة أو حتى شركة ما، وذلك بهدف التأكد من أن المخصصات المالية والإنفاق الاستثماري يتم استخدامها بشكل يحقق الأثر المطلوب والأهداف والنتائج المرجوة من هذا الإنفاق.
وبمعنى آخر، فإن معايرة الإنفاق تعني تقييم وتوجيه الموارد المالية بشكل يتناسب مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، ويشمل ذلك تقييم فعالية المشروعات المقترحة ومدى مساهمتها في تحقيق التنمية المستدامة.
وتتمثل أهمية معايرة الإنفاق في أن تقييم مدى كفاءته يضمن الاستخدام الأمثل للموارد المالية ويساعد في التأكد أن الاستثمارات تُستخدم بفاعلية، مما يعزز العوائد المالية؛ إذ تُسهم معايرة الإنفاق في اتخاذ قرارات استثمارية سليمة، بما توفره من بيانات دقيقة وواقعية تساعد في اتخاذ قرارات استراتيجية مبنية على تحليل علمي، فضلاً عن أنها تسهم في تحديد المجالات الأكثر ربحية، وهو ما يساعد في توجيه الموارد المالية إلى تلك المجالات بشكل سلس وفعال، فضلاً عن المساعدة في إدارة المخاطر بكفاءة، بما توضحه من صورة متوقعة للمخاطر المرتبطة بالاستثمار، وهو ما يسمح باتخاذ التدابير اللازمة لتقليل آثارها السلبية وتجنبها بالكامل.
وفورة النشاط الاقتصادي
وثمَّة علاقة بين معايرة الإنفاق وفورة النشاط الاقتصادي، وهو المصطلح الذي نقصد به تلك الفترة، التي تشهد حالة من النمو الاقتصادي السريع والازدهار وزيادة الإنتاج والاستثمار وارتفاع الطلب على السلع والخدمات، وانخفاض البطالة، وتحدث هذه الفورة غالبًا بسبب السياسات الاقتصادية الملائمة، أو الابتكار التكنولوجي، أو زيادة الاستهلاك.
ومن هنا تبرز العلاقة بين معايرة الإنفاق وفورة النشاط الاقتصادي، والتي غالبًا ترتكز على تأثير الاستثمارات على النمو الاقتصادي، فزيادة الإنفاق تزيد من الإنتاجية وتسهم في توفير مزيد من فرص العمل، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الاستهلاك والنمو، وبالتالي يحدث نشاط اقتصادي متسارع، لذلك يتم معايرة الإنفاق الاستثماري لضمان استدامة النمو ولمنع حدوث تضخم أو التقليل من ارتفاعه، وكذلك للحيلولة دون حدوث فقاعات اقتصادية نتيجة زيادة الاستثمارات عن الطلب الفعلي.
تجربتا الصين والولايات المتحدة
وهناك عديد من الدول، التي قامت في فترات معينة بمعايرة الإنفاق الاستثماري، كالصين التي قامت بمعايرة الإنفاق الاستثماري بعد الأزمة المالية العالمية في 2008م، حيث نفذت حزمة تحفيزية ضخمة لتعزيز النمو، تتضمن ضخ استثمارات كبيرة في البنية التحتية بقيمة 4 تريليونات يوان (حوالي 586 مليار دولار أمريكي)؛ إذ ركزت الحكومة الصينية في إنفاقها الاستثماري، على مشروعات البنية التحتية، كالطرق والسكك الحديدية والإسكان؛ حيث أدت هذه الاستثمارات بالفعل إلى انتعاش الاقتصاد وزيادة الناتج المحلي الإجمالي والوظائف، ولكنها أدت إلى تضخم في أسعار الأصول وارتفاع مستويات الديون، وتراجع العوائد على الاستثمارات وثارت بعض المخاوف من التباطؤ الاقتصادي ومن حدوث فقاعة اقتصادية.
وعلى إثر ذلك، قامت الصين بمعايرة ومراجعة الإنفاق الاستثماري، لتكتشف أن هناك ضرورة لمراجعة الإنفاق الاستثماري في ظل أن بعض المشروعات الاستثمارية لم تكن فعالة، وبناء على نتائج معايرة الإنفاق والمراجعة، تم زيادة الاستثمارات في مجالات الابتكار والتكنولوجيا، والاستثمارات المستدامة في الطاقة المتجددة، وحاولت الصين ضمن خططها، عدم الاعتماد فقط، على الاستثمارات والتصدير، ولكنها سعت إلى الاعتماد على الاستهلاك المحلي والخدمات، وتحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع الشركات الوطنية على زيادة الاستثمارات في البحث والتطوير، والاهتمام بجودة الاستثمارات وليس الكم فقط.
وأيضًا الولايات المتحدة، التي قامت خلال فترة الأزمة والركود الكبير (2007م2009-م)، بتطبيق خطة تحفيزية لإنقاذ الاقتصاد، ترتكز على توجيه استثمارات كبيرة للمشروعات العامة، بلغت حوالي 787 مليار دولار، وكان الهدف الرئيس هو دعم الأوضاع الاقتصادية وخلق الوظائف وتعزيز النمو، من خلال الاستثمار في البنية التحتية، مثل الطرق والجسور، وكذلك في الطاقة المتجددة والتعليم والرعاية الصحية.
وبعد بدء تنفيذ الخطة، وبهدف تحسين آليات الإنفاق المستقبلي، ومن خلال معايرة الإنفاق الاستثماري، تم تقييم تأثير هذه الاستثمارات على النمو الاقتصادي والبطالة، ومع أن المراجعة أثبتت أن تلك الاستثمارات حققت انتعاشًا اقتصاديًا سريعًا، وأسهمت في خفض معدل البطالة إلا أن ذلك لم يكن كافيًا، الأمر الذي كان يتطلب مراجعة أخرى.
وفي هذا الإطار، سعت الولايات المتحدة إلى تحفيز الاستثمار الخاص وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بما يكفل زيادة الاستثمارات الموجهة نحو مشروعات البنية التحتية، كما اعتمد الاحتياطي الفيدرالي سياسة الفائدة المنخفضة لتشجيع الاقتراض والاستثمار.
وفي إطار التقييمات الدورية للإنفاق الاستثماري لمعرفة مدى فعاليته في تحفيز النمو، قررت الحكومة الأمريكية توجيه الاستثمارات نحو مجالات الابتكار والتكنولوجيا والاستثمارات المستدامة والخضراء والمشروعات صديقة للبيئة.
وكان من أهم الدروس المستفادة في تجربة الولايات المتحدة، هي أنها أبرزت أهمية معايرة الإنفاق الاستثماري كأداة لتحقيق النمو الاقتصادي، والتوازن بين الدعم الحكومي والاستدامة المالية.
صندوق النقد يؤيد المملكة
وكان صندوق النقد الدولي أعلن في سبتمبر الماضي أن اقتصاد المملكة، قد حقق تقدمًا هائلاً في إطار التحول الاقتصادي غير المسبوق الذي تشهده المملكة، كما وأيد الصندوق في تقريره الأخير خطوات المملكة لإعادة معايرة إنفاقها الاستثماري، حيث ساعد في الحد من مخاطر فورة النشاط الاقتصادي، داعيًا إلى مواصلة تصحيح أوضاع المالية العامة بالسعودية ومواصلة الجهود لدعم الإيرادات غير النفطية بالمملكة، بعد أن ساعدت معايرة الإنفاق الاستثماري، في الحد من مخاطر فورة النشاط الاقتصادي وإبراز أولويات الحكومة ودعم توقعات المستثمرين.
وتعول المملكة على معايرة الإنفاق لضمان أن توجيه الاستثمارات والإنفاق الاستثماري يسهم في تحقيق النمو ويساعد في تحسين الأداء الاقتصادي ويدعم أهداف رؤية 2030م.
فكما نعلم، فإن رؤية 2030م تتضمن عدة أهداف استراتيجية، منها: تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، من خلال تعزيز قطاعات جديدة، وتحسين جودة الحياة، من خلال الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، وزيادة فرص العمل، من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتعزيز الابتكار.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية المعايرة المستمرة والدقيقة للإنفاق الاستثماري؛ إذ تهدف المملكة إلى توجيه إنفاقها الاستثماري ومواردها المالية إلى مشروعات بعينها لها تأثير كبير على النمو، وعلى رأس ذلك قطاع التعليم والتدريب، وتعزيز القدرات الصناعية الوطنية، من خلال دعم الابتكار وتطوير التقنيات الحديثة، والاستثمار في تطوير السياحة ودعم الابتكار في قطاع التكنولوجيا الرقمية وتعزيز ريادة الأعمال.
فضلاً عن تعزيز مشروعات البنية التحتية الكبرى، ومنها تحسين شبكة النقل والسكك الحديدية والطرق الجديدة، ومن هذه المشروعات أيضًا مشروع نيوم، الذي يهدف إلى إنشاء مدينة ذكية، تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا.
تجربة المملكة في معايرة الإنفاق
ومن جانب آخر، فإن المملكة في إطار مراجعة إنفاقها الاستثماري وسياساتها الاقتصادية والمالية تحرص على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من خلال تحسين بيئة الأعمال.
وفي إطار معايرة الإنفاق الاستثماري والتقييم الدوري والمراجعة المستمرة له، فإن حكومة المملكة ووزارتها المختصة تعمل على تحليل الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية وتحديد أولويات الاستثمار بناءً على الأثر المتوقع، وتعتمد في ذلك على التكنولوجيا الحديثة في تحليل البيانات والتقييم، مما يساعد على تحسين عملية اتخاذ القرار.
وبشكل عام، فإن تجربة المملكة في معايرة الإنفاق الاستثماري تعد إيجابية، حيث تم إحراز تقدم ملحوظ نحو تحقيق التنوع الاقتصادي والتنمية المستدامة، ومع ذلك، يجب معالجة التحديات التي تواجه معايرة الإنفاق الاستثماري، سواء بالنسبة لمجمل دول العالم، أو بالنسبة للمملكة تحديدًا.
فالأحداث الجيوسياسية والتغيرات في الاقتصاد العالمي، مثل الصراعات والنزاعات والأزمات المالية وتقلبات أسعار النفط، تؤثر على قدرة الحكومات المختلفة على معايرة الإنفاق الاستثماري بشكل فعال.
كذلك، هناك تحديات، تتعلق بالأوضاع الاقتصادية الداخلية، كالتضخم وارتفاع مستويات الديون، مما يؤثر في القدرة على تنفيذ المشروعات بكفاءة، ويمكن أيضًا أن تؤثر السياسات والإجراءات الحكومية، إذ تؤدي البيروقراطية إلى عرقلة عمليات اتخاذ القرار السريعة والفعالة في مجال الاستثمار.
وبالنسبة للمملكة، ورغم التقدم الكبير في تنويع الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على النفط، إلا أن القطاع النفطي لايزال يشكِّل نسبته نسبة كبيرة، وهو ربما ما يؤثر على استقرار الإنفاق الاستثماري، لذا تحرص المملكة على اتخاذ عدد من الخطوات، فيما يتعلق بكفاءة الإنفاق الاستثماري أو الخطط الاقتصادية بشكل عام، ومن ذلك التركيز على الاستدامة، وضمان أن تكون جميع المشروعات الاستثمارية مستدامة من الناحية البيئية والاجتماعية، والعمل على تحسين بيئة الأعمال، من خلال إجراء إصلاحات تشريعية، لتسهيل الاستثمار وتعديل القوانين وتقليل البيروقراطية وتسهيل الإجراءات وتعزيز الابتكار في جميع المجالات، من خلال الاستثمار في البحث والتطوير.