تعرضت أسواق الكربون لهزة عنيفة خلال العامين الماضيين وتوقعات بالتعافي خلال السنوات المقبلة.
العالم بحاجة إلى استثمارات بقيمة 90 مليار دولار إضافية في مشاريع ائتمان الكربون بحلول2030م.
توقعات بأن تلعب أسواق الكربون دورًا محوريًا في تسريع التحول الاقتصادي العالمي نحو مستقبل أكثر استدامة.
ثمة شركة أمريكية تدعى “إيه إي إس” كانت تخطط عام1988م لبناء محطات طاقة صغيرة تعمل بالفحم في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، لتقوم ببيع الكهرباء إلى شركات المرافق المحلية، ولكن الرئيس التنفيذي للشركة حينها “روجو سانت”، كان قلقًا بشأن تغير المناخ، لذا أطلقت الشركة أول مشروع لزراعة الأشجار في غابات الهيملايا، لتعويض ما تنتجه من انبعاثات، لتعد هذه هي البداية الحقيقية لظهور أسواق الكربون الطوعية.
وكانت أسواق الكربون الطوعية (أداة تمويل رئيسة في مكافحة تغير المناخ على مستوى العالم) قد تعرضت لهزةٍ عنيفة خلال العامين الماضيين، كما تعاني حاليًا مما يمكن وصفه بـ “أزمة ثقة”، يصاحبها انخفاض كبير في السيولة والطلب، بعد أن شهدت نموًا هائلاً خلال الفترة (2019م- 2021م)، يأتي ذلك، في الوقت الذي تكافح فيه كافة دول العالم آثار التغيرات المناخية، وتتبنى خططًا وبرامج للتخفيف والتكيف معها.
الائتمان الكربوني
وقفز الائتمان الكربوني الطوعي بنسبة %86 في عام 2021م مقارنةً بعام 2019م، وتم تغذية هذا الارتفاع من خلال التزامات الشركات المتزايدة بتحقيق الانبعاثات الصفرية، والتوقعات المتفائلة بشأن حجم السوق المحتمل، فعلى سبيل المثال، تعهد “سيتي بنك”، أكبر المصارف في العالم، بالوصول إلى انبعاثات صفرية صافية بحلول عام 2050م، مع استخدام أرصدة الكربون لمعالجة هذه الانبعاثات، كما تعهدت شركة “فايزر” الطبية، إحدى أكبر شركات الأدوية الحيوية في العالم، بتحقيق انبعاثات صفرية صافية بحلول عام 2040م، وكذلك تخطط شركة “باسيفيك غاز آند إلكتريك”، وهي أكبر شركة مرافق في الولايات المتحدة، بالوصول إلى انبعاثات صفرية صافية بحلول عام 2040م، مع تقليل انبعاثات النطاقين (1 و 2) بنسبة %50 عن مستويات عام 2015م بحلول عام 2030م.
ومع ذلك، فقد شهد عام 2022م، تباطؤًا حادًا في نمو سوق الكربون الطوعي، وهو الاتجاه الذي استمر حتى عام 2023م، وقد أسهمت عوامل مختلفة، بما في ذلك التعقيد المتزايد لآليات السوق ودور أرصدة الكربون في استراتيجيات الاستدامة الأوسع، في هذا التراجع، حيث انسحب عديد من الشركات البارزة، مثل “شل” و”نستله” و”إيزي جيت” و”فورتيسكو ميتالز جروب”، من هذه السوق، بسبب ما يمكن تسميته بالشكوك المتزايدة حول فعالية هذه المشاريع، فضلاً عن المخاوف بشأن فوائدها المناخية الفعلية واتهامات التضليل البيئي.
قطرة في محيط
وعلى الرغم مما ما قدَّمته أسواق الكربون من تمويل للبلدان الأقل نموًا عام 2023م، إلا أنه كان محدودًا ويمكن وصفه بـ “القطرة في المحيط”، حيث بلغت قيمته 403 ملايين دولار فقط، أي %1 من إجمالي المساعدات الإنمائية الثنائية وأقل بكثير من التريليون دولار المطلوبة سنويًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030م، وكان “بنك أوف أمريكا”، قد حذَّر من نقص شديد في السيولة، مشيرًا إلى هبوط حجم سوق الكربون الطوعية، بأكثر من %20، مسجلاً 723 مليون دولار فقط.
وفي السياق نفسه، دعت غرفة التجارة الدولية إلى ضرورة وضع ضوابط صارمة لحوكمة وشفافية أسواق الكربون الطوعية، وتوسيع نطاقها، كأدوات أساسية للحد من الانبعاثات وتوجيه الموارد المالية إلى العمل المناخي، وخاصة في المناطق المعرضة للخطر، مشيرةً إلى أنه مع تسعير %24 فقط من الانبعاثات العالمية حاليًا، يمكن أن تلعب هذه الأسواق دورًا رئيسًا في سد فجوة التمويل الحاسمة للحفاظ على أهداف اتفاقية باريس.
90 مليار دولار
وتساعد أسواق الكربون الطوعية الشركات والحكومات على تعويض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري من خلال شراء أرصدة الكربون الطوعية، إذ لا تدعم هذه الأسواق خفض الانبعاثات فحسب، بل توجه أيضًا موارد مالية كبيرة إلى مشاريع الاستدامة.
وأوضح الرئيس التنفيذي لشركة “إم إس سي آي” الأمريكية المتخصصة في مؤشرات الأسواق، “هنري فرنانديز”، أن العالم يحتاج إلى 90 مليار دولار إضافية من الاستثمار في مشاريع ائتمان الكربون بحلول عام 2030م، للوصول إلى هدف الحد من ارتفاع درجة حرارة الكوكب بمقدار 1.5 درجة، مشيرًا إلى أن الشركات التي تستخدم كميات كبيرة من الائتمان الكربون، في المتوسط، تزيل الكربون بمعدل ضعف الشركات التي لا تستخدمه، وذلك وفقًا لأبحاث أجريت على نحو 4 آلاف شركة عالمية.
معايير جديدة
وصادقت نحو 200 دولة، على هامش مؤتمر الأطراف التاسع والعشرون 2024م، الذي عقد في أذربيجان، على معايير جديدة للأمم المتحدة لأسواق الكربون الدولية، في خطوة اعتبرها مختصون، بأنها تمهد الطريق نحو السماح للدول بتداول أرصدة الكربون، بعد ما يقرب من عقد من المناقشات المُعقدة، وقالت مؤسسة “كاربون ماركيت ووتش”، على لسان “جيل دوفراسن”، “إن هذا يجعل النظام أقرب خطوة كبيرة إلى الوجود الفعلي في العالم الحقيقي”.
كما أشارت الخبيرة البريطانية في قضايا البيئة، “ماري كيمبلاي”، إلى أن هذه المعايير الجديدة المدعومة من الأمم المتحدة، من شأنها تمكين الشركات والحكومات من بيع وشراء تصاريح الكربون (يتضمن التصريح الواحد إزالة أو منع طن من ثاني أكسيد الكربون)، وبالتالي ستكون سوق أكثر جاذبية من السوق الطوعية الحالية، مشيرةً إلى أن هذه الخطوات يمكن أن تفتح المجال لتدفقات استثمارية بقيمة 250 مليار دولار سنويًا.
منصة شهادات الكربون
وبعد يومٍ واحدٍ من إقرار المعايير الجديدة، وفي حدث يمكن وصفه بـ”التاريخي”، أعلنت المملكة عن إطلاق منصة تداول شهادات الكربون، على هامش مشاركتها في مؤتمر المناخ، من خلال طرح 2.6 مليون طن من أرصدة الكربون، بما يمثل دعمًا قويًا لأهداف المملكة في تحقيق الحياد الصفري، وذلك بمشاركة 22 شركة محلية ودولية، بما في ذلك بعض الشركات التابعة لشركة أرامكو السعودية وشركة البتروكيماويات “سابك” و”ريد سي جلوبال”، وتتضمن هذه السلة مجموعة متنوعة من 17 مشروعًا للمناخ في جميع أنحاء العالم، معظمها في البلدان النامية في الجنوب العالمي مثل بنجلاديش والبرازيل وإثيوبيا وماليزيا وباكستان وفيتنام.
وأشاد الخبير البريطاني في أسواق الطاقة العالمية، “سيريل ويدرشوفن”، بإطلاق منصة تداول شهادات الكربون، وأشار إلى أنها تعد استكمالاً لخطوات المملكة الرائدة في هذا المجال، ومن أبرزها تأسيس شركة سوق الكربون الطوعي الإقليمية عام 2022م، بملكية %80 لصندوق الاستثمارات العامة، و%20 لمجموعة تداول القابضة، وتوقيع مذكرة تفاهم بين الشركة واللجنة الوطنية لآلية التنمية النظيفة في أكتوبر 2024م، في إطار مساعيها لدعم جهودها للحد من الانبعاثات الكربونية، مشيرًا إلى أن المملكة لديها كافة الإمكانات التي تؤهلها لتكون واحدة من أكبر أسواق الكربون الطوعية في العالم بحلول عام 2030م.
وأضاف “ويدرشوفن”، قائلاً: “بالنسبة لأسواق الكربون العالمية، فإن خطوة المملكة تشكل دفعة كبيرة، خاصة وأن الرياض تتبنى دائمًا نهجًا طويل الأجل ولا تبحث عن مكاسب سريعة”.
ومن المتوقع أن الخطوات التي تتخذها المملكة وغيرها من دول الشرق الأوسط، أن تدفع نمو سوق الكربون الطوعي بشكلٍ كبير خلال السنوات المقبلة، وسط توقعات بأن تحقق سوق الائتمان الطوعي للكربون معدل نمو سنوي مركب بنسبة حوالي %35 خلال الفترة (2024م – 2030م)، مرهونة بتطبيق المعايير الجديدة التي ترعاها الأمم المتحدة، وخطط الشركات بتحقيق انبعاثات صفرية صافية.
فرص استثمارية
وتقدم أسواق الكربون فرصًا استثمارية كبيرة، لا تقتصر على الحوافز الاقتصادية لخفض الانبعاثات فحسب، لكنها تمتد إلى تشجيع الشركات على الاستثمار في مجالات البحث والابتكار، لتقديم حلول مبتكرة لخفض الانبعاثات، فضلاً عن تقديم حوافز لزيادة الاستثمارات في المجالات البيئية واستعادة التنوع البيولوجي والحفاظ على النظم البيئية الطبيعية، والانخراط في مشروعات “تعويض الكربون”.
وأوضح مدير المحافظ الاستثمارية بشركة “لومبارد أودير لإدارة الأصول”، “كالوم لي”، أن أسواق الكربون ستستمر في التوسع على مدى السنوات القادمة، خاصةً في الأسواق الجديدة والناشئة، ومن المتوقع أن تشهد زيادة في الحجم بمقدار ستة أضعاف حتى عام 2030م، معربًا عن اعتقاده بأن توسع هذه الأسواق يقدم فرصًا كبيرة للمستثمرين، نظرًا لأن هذه الأسواق الجديدة ستفرض حدودًا أكثر تقييدًا للانبعاثات، مشيرًا إلى أن أسواق الكربون ستلعب دورًا محوريًا في تسريع التحول الاقتصادي العالمي نحو مستقبل أكثر استدامة، لافتًا إلى أن أسعار الكربون في الأسواق الرئيسة كانت واحدة من أكثر فئات الأصول ربحية على مدى السنوات الخمس الماضية.