لا تخطئ العين بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن بروز منتجات التقنية الرقمية بشكل واسع وتجاري، وبداية ارتباطها وتغلغلها في الحياة العامة للشعوب، وتحولها إلى مصدر اقتصادي كبير للدول من خلال قدرتها التوليدية للتطبيقات الواقعية، فضلاً عن كونها سلاحًا بيد من يتفوق في ابتكاراتها وتصنيعها.
ومنذ أواخر تسعينيات القرن الماضي والتقارير العالمية المتخصصة تشير إلى أن هناك مجالات علمية واقتصادية كثيرة ستتولد نتيجة تطور أدوات التقنية من الواجب استغلالها تباعًا، فشبكة الإنترنت “عبدت” الطريق لانتشار مشتقات التقنية الرقمية المختلفة، من برامج ومواقع وتطبيقات إلكترونية وصولاً إلى الأتمتة وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي وعلم البيانات الجديد (جمع وتحليل وتخزين البيانات رقميًا) الذي تحول إلى قطاع اقتصادي نام يُدعى اقتصاد البيانات؛ حيث يتوقع له في المستقبل أن يضاهي اقتصاد القطاعات التقليدية الأخرى، بما فيها قطاع الاتصالات الخدمي.
ولأهمية حقل البيانات في المستقبل من الناحية الاقتصادية أطلق عليها العالم البريطاني “كلايف هامبي” عام 2006م مسمى “النفط الجديد”، كما أطلق آخرون أيضًا على الذكاء الاصطناعي ذات المسمى، وسيتكرر المصطلح كلما أريد التعبير عن أهمية قطاع مستجد!
ما يعنينا في الأمر أنه على الدول الناشئة أو النامية أن تدرك أهمية المشاركة الفعلية في حلقات صناعة التقنية (مشاركة ونقل معرفة وتوطين) وألا تكون مجرد وعاءً تسويقيًا لمنتجات الآخرين، فالتسويق لوحده وإن كان يجلب المال في مرحلة ما إلا أنه لا يخدم مفهوم التنمية المستدامة.
وكون عالم التقنية متغيرًا ومتسارعًا في التطور وتكاليف تطبيقاته تنخفض مع تقادم الوقت ويحوي الكثير من الأسرار من حيث التكلفة والإمكانات الفعلية، فالأولى من تلك الدول أخذ مثل هذه المعايير في الحسبان (فقدت شركات التقنية الأمريكية مؤخرًا أكثر من تريليون دولار من قيمتها السوقية بعد ظهور تطبيقات صينية ناشئة مفتوحة المصدر للذكاء الاصطناعي “أبرزها تطبيق DeepSeek” تكلفتها تقل بشكل فارقا جدًا عن نظيراتها الأمريكية، مما ولد لدى البعض فكرة وجود مؤامرة في تقييم تلك الشركات الأمريكية (ظهر بعدها عدة تطبيقات صينية جديدة)!
وقفات:
- من الإجحاف وربما من باب الدهاء السياسي والإعلامي (من قبل البعض المستفيد) أن تتم مساواة وبخس أهمية سلعة النفط للعالم ومقارنته بمنتجات أخرى! فالنفط سلعة خام ناضبة وغير مُنتجة يتم استخراجه من باطن الأرض بخلاف منتجات التقنية أو غيرها، ولا زال يمثل مصدرًا منافسًا ورئيسًا للطاقة وسعره الراهن يعد متدن جدًا موازنة بحجم احتياج العالم له (ولمشتقاته) وضعف “وفرة” البدائل المنافسة له حاليًا.
- “اعترافات قاتل اقتصادي” هو عنوان كتاب للخبير الاقتصادي الأمريكي “جون بيركنز” نشر في عام 2004م، يمكن مشاهدة أحد التطبيقات العملية لما ذكر في الكتاب (طرق السيطرة على الأمم) من خلال ما يحصل لأوكرانيا حاليًا، حيث تم دفعها للحرب مع روسيا بتشجيع من شركائها الغربيين خاصة من الإدارة الأمريكية السابقة، وبالتالي، تم إغراقها بفخ الديون الغربية (الأمريكية بالذات) مقابل المساعدات التي قدمت لها أثناء الحرب، المفارقة أنه في شهر فبراير الماضي طالبها الرئيس الأمريكي ترامب بسداد ديونها واستغلال ما قيمته (500) مليار دولار من مواردها الطبيعية الأرضية النادرة لضمان تلقيها المساعدة ! المحصلة أن أوكرانيا خسرت جزءًا من الأراضي خلال الحرب وأيضًا كُبلت بالديون الأمريكية والغربية وكل وعود الدعم والانتصار التي قدمت لها من الإدارة الأمريكية السابقة قد تبخرت مع الإدارة الجديدة (سحر ودهاء وتعدد أوجه القاتل الاقتصادي).