اقتصاديات الصراع التجاري

“الحروب التجارية”.. من يدفع الفاتورة؟

مـا كسـبته الولايات المتحــدة الأمريكية مـن عوائـد المسـاهمين خسـرته فـي قدرتهـا الإنتاجية، فقـد تضـررت صناعـاتها للصلــب، والألمنيوم، وبنــاء الســفن، وغيرها.

فاتورة الواردات الأمريكية من الصين تُعادل وحدها زيادة ضريبية قدرها 400 مليار دولار على الأسر والشركات الأمريكية.

الأسواق الناشئة الأكثر تأثرًا بهذه الإجراءات، وكذلك الدول ذات الاعتماد العالي على التصدير ستعاني من تراجع الطلب الخارجي وخروج رؤوس الأموال.

 

في السنوات الأخيرة، عاد شبح الحروب التجارية ليخيّم من جديد على الاقتصاد العالمي، وسط تنامي السياسات الحمائية التي تعيد رسم مشهد التجارة الدولية. وبينما يشتد النزاع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، ويُعاد إحياء السياسات الحمائية كوسيلة لحماية الصناعات الوطنية، يتصاعد القلق من آثارها الممتدة التي لا تقتصر على طرفي النزاع فقط، بل تطال معظم دول العالم، خاصة تلك التي تقع على هامش القوى الكبرى، مثل دول الشرق الأوسط والدول النامية.

في خطوة وصفت بأنها الأعنف منذ ما يقرب من قرن، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 2 أبريل 2025م عن أكبر زيادة شاملة في الرسوم الجمركية، تحت عنوان “يوم التحرير”، مستعيدة بذلك ممارسات تعود إلى قانون “سموت-هاولي” لعام 1930م، والذي رفع الرسوم الجمركية على أكثر من 20 ألف سلعة، ما أدى حينها إلى انهيار التجارة العالمية ومهَّد الطريق أمام الكساد الكبير.

جذور تاريخية للحروب التجارية

وعلى الرغم من أن الحروب التجارية تبدو ظاهرة حديثة، فإن جذورها تمتد عميقًا في التاريخ الاقتصادي العالمي. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، شهد العالم موجات متعاقبة من النزاعات التجارية، بدأت من أوروبا، مرورًا بأمريكا، وانتهاءً بآسيا. فقد اندلعت حروب تجارية بين فرنسا وإيطاليا (1886م – 1898م)، وبين فرنسا وسويسرا (1892م – 1895م)، وأيضًا بين ألمانيا وروسيا (1893م – 1894م).

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، برزت التوترات بين الولايات المتحدة والمجموعة الاقتصادية الأوروبية، وبلغت ذروتها في الثمانينيات، عندما شهد الاقتصاد العالمي تقلبات حادة في أسعار الطاقة والعملات، وارتفاع معدلات التضخم، وتفجرت المشكلات المالية باختلالات كبرى في موازين المدفوعات، وسط تراجع القدرة التنافسية الغربية (الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي) أمام الصعود الآسيوي بقيادة اليابان ودول “النمور الآسيوية”، مثل: (هونج كونج، تايوان، كوريا الجنوبية، وسنغافورة)، والتي تعاظمت أهميتها في مجال الصناعات التكنولوجية.

عودة السياسات الحمائية ومأزق منظمة التجارة

وفي الآونة الأخيرة لاسيما مع التحولات العميقة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، شهدت منظمة التجارة العالمية مؤخرًا ضغوطًا متزايدة في ظل توجه دول كبرى، على رأسها الولايات المتحدة، إلى تبني سياسات حمائية تتعارض مع مبادئها الأساسية. إذ تقوم فلسفة المنظمة على تحرير التجارة بين أعضائها ورفض القيود التجارية التي تعيق حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال، إلا أن السياسات الأمريكية الأخيرة تهدد بتقويض هذا الإطار العالمي.

 

الرسوم الجمركية بين الحماية والتدمير

وتلجأ الدول إلى فرض الرسوم الجمركية لتحقيق جملة من الأهداف، من بينها حماية الصناعات الوطنية، وزيادة الإيرادات، وتقليص العجز التجاري. ولكن رغم هذه المنافع الظاهرة، تحمل هذه السياسات آثارًا جانبية خطيرة، منها ارتفاع الأسعار، اضطراب سلاسل الإمداد، تراجع أسواق الأسهم، وتباطؤ النمو الاقتصادي، خاصة في الاقتصادات الناشئة، ما يثير تساؤلات عديدة حول أهداف هذه الرسوم وتداعياتها، خاصة على منطقة الشرق الأوسط التي تلعب دورًا محوريًا في الاقتصاد العالمي بفضل ثرواتها النفطية وموقعها المتميز على الخريطة الاقتصادية العالمية..

ومع تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين منذ عام 2018م، بدأت الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية على سلع صينية تشمل الحديد والصلب والألومنيوم، لترد الصين بالمثل، وتشتعل نيران الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، لتتحول مع الوقت إلى أزمة اقتصادية ذات أبعاد عالمية.

تصعيد جمركي غير مسبوق

في أبريل 2025م، بلغت الرسوم الجمركية الأمريكية ذروتها، حيث فرضت واشنطن تعريفات تصل إلى %145 على الواردات من الصين، وفرضت نسبًا متفاوتة على دول أخرى مثل اليابان (%24)، سويسرا (%31)، فيتنام (%46)، تايوان (%32)، والهند (%26)، بينما فرضت %20 على واردات دول الاتحاد الأوروبي.

أما القارة الإفريقية، فجاءت في المرتبة الثانية من حيث الضرر، حيث طالت الرسوم أكثر من 20 دولة بنسب تتجاوز %30. وشملت القائمة معظم دول شرق وجنوب شرق آسيا، ما أدى إلى اتساع نطاق الأزمة وتحولها إلى أزمة عالمية بكل المقاييس.

 

الصين ترد والاقتصاد العالمي يتأثر

لم تتأخر الصين في الرد، إذ فرضت رسومًا بنسبة %84 على الواردات الأمريكية، ما زاد من حدة التصعيد وأثار مخاوف من ركود اقتصادي عالمي. وأكدت مديرة صندوق النقد الدولي، “كريستالينا غورغييفا”، أن هذا التوجه قد يؤدي إلى “مزيج سام” من التباطؤ الاقتصادي وحرب تجارية شاملة، في وقت لا يتجاوز فيه النمو العالمي %3.2، وهو معدل هزيل مقارنة بالاحتياجات التنموية العالمية.

وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة قرابة 585 مليار دولار، بينها 440 مليار واردات أمريكية من الصين، مقابل 145 مليار واردات صينية من أمريكا، ما يعكس عجزًا تجاريًا أمريكيًا قدره 295 مليار دولار في 2024م.

أسواق المال تدفع الثمن

كان أول المتضررين من التصعيد هو أسواق المال، حيث تهاوت مؤشرات البورصات العالمية. ففي نيويورك، تراجع المؤشر بنسبة %3، فيما سجلت بورصة تايوان أكبر خسارة في تاريخها بنسبة %9.7.

أما بورصة هونغ كونغ فقد انهارت بنسبة %13.22، وانهار مؤشر نيكاي في طوكيو بنسبة %2.75.

في الخليج العربي، هبط مؤشر السوق السعودية بنسبة %6.78، وتراجعت البورصة الكويتية بنسبة %5.7، والقطرية بنسبة %4.2، وبورصن مسقط بنسبة %2.6. كما سجلت أسعار النفط أدنى مستوياتها منذ عام 2021م، متأثرة بتراجع الطلب العالمي.

 

مهلة للتفاوض وسط الفوضى

في ظل هذا التدهور الحاد، أعلنت إدارة الرئيس “ترامب” عن تجميد مؤقت للزيادات الجمركية لمدة 90 يومًا – باستثناء الصين – بهدف فتح نافذة للتفاوض. وردّ الاتحاد الأوروبي بالمثل، وأوقف إجراءاته المضادة مؤقتًا. ولكن رغم هذه التهدئة، فإن السياسات الأمريكية تكشف عن رؤية ترى أن العجز التجاري يمثل فشلًا اقتصاديًا ناتجًا عن اتفاقات غير متكافئة أفقدت أمريكا قدراتها الصناعية.

تكلفة باهظة على المستهلكين والشركات

وبحسب تقديرات شركة “جي بي مورغان”، فإن الرسوم الجمركية المفروضة على الصين تعادل زيادة ضريبية غير مباشرة بقيمة 400 مليار دولار على المستهلكين والشركات الأمريكية، مما يرفع تكاليف الاستيراد ويزيد التضخم. كما أن اليوان الصيني ارتفع بنسبة %1.6 منذ مارس 2025م، لكن من المتوقع أن يتراجع ردًا على الضغوط التجارية، ما قد يقلل النمو الصيني إلى %4.4.

 

الأسواق الناشئة على خط النار

تواجه الأسواق الناشئة، بخاصة تلك التي تعتمد على التصدير أو تشكل جزءًا من سلاسل الإمداد العالمية، تحديات جسيمة نتيجة التصعيد الجمركي. دول مثل الهند، الأرجنتين، ودول جنوب شرق آسيا وأفريقيا، تتضرر بشدة من تقلص الطلب على صادراتها، ومن خروج الاستثمارات الأجنبية الباحثة عن ملاذات آمنة.

كما أن ضعف العملات الوطنية وارتفاع تكاليف الإنتاج يهددان هذه الاقتصادات بأزمات مالية، خاصة في ظل افتقارها لأدوات الاستجابة السريعة التي تمتلكها الدول الكبرى.

 

الشرق الأوسط في قلب العاصفة

وتلعب منطقة الشرق الأوسط، الغنية بالموارد والنفط، دورًا حيويًا في الاقتصاد العالمي، ما يجعلها من أكثر المناطق تأثرًا بتقلبات التجارة الدولية. وقد أدت التوترات بين بكين وواشنطن إلى تراجع أسعار النفط بنحو %15، ما أثر على الإيرادات النفطية لدول الخليج، في وقت تتسابق فيه هذه الدول لتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن النفط.

إلا أن بعض الدول في المنطقة بدأت بالفعل باعتماد سياسات جديدة لتخفيف آثار التوترات التجارية، من خلال تنويع الشراكات التجارية، والتركيز على التصنيع المحلي، والاستثمار في القطاعات غير النفطية مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة.

 

التكلفة الاقتصادية… من يدفع الفاتورة؟

تتجاوز تأثيرات الحرب التجارية مسألة الرسوم الجمركية وحدها، لتشمل اضطراب سلاسل الإمداد، وتباطؤ الاستثمار العالمي، وزيادة تكاليف الإنتاج، وبالتالي رفع أسعار السلع النهائية، وهو ما يدفع ثمنه المستهلكون حول العالم.

أما الشركات، فتعاني من ارتفاع التكاليف وتقلب الأسواق، مما يؤدي إلى تقليص الإنتاج وخفض الوظائف. كما أن اضطراب الأسواق المالية وانخفاض الثقة الاستثمارية يزيد من حدة عدم اليقين الاقتصادي.

 

الجميع خاسر في الحرب التجارية

وتؤكد الوقائع أن الحروب التجارية لا تُنتج رابحين حقيقيين، بل سلسلة من الخسائر الجماعية. ففي عالم مترابط اقتصاديًا، يعني إغلاق الأسواق وتقييد حركة السلع والخدمات ارتفاع التكاليف، وزيادة التوترات، وتراجع النمو العالمي.

ومع تزايد الحديث عن إعادة تشكيل سلاسل الإمداد بعيدًا عن الصين، فإن الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة جديدة من التوتر والتغيير، تتطلب حلولاً جماعية، وحوارًا عالميًا قائمًا على التعاون وليس الصراع.