المملكة تحقق إنجازًا مهمًا في تطوير البنية المُستدامة ورصف أول طريق باستخدام مخلفات الهدم والبناء.
مشروعات إعادة تدوير هذه مخلفات الهدم والركام توفر فرصًا استثماريةً واعدة مع عائد استثمار يصل إلى %32 سنويًا.
تقنية التنشيط الحراري للأسمنت يُمكن أن تُتيح استخدامات جديدة لنفايات البناء والهدم والتي تُعدّ الخرسانة مُكوّنًا أساسيًا منها.
في ظل التحديات البيئية المتزايدة وندرة الموارد الطبيعية، أصبح البحث عن حلول بناء مستدامة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، وأمام ما ينتجه الأسفلت التقليدي من استنزاف الموارد وزيادة الانبعاثات الضارة، برز الأسفلت البيئي كابتكار رائد في مجال البنية التحتية، حيث يجمع بين الكفاءة الهندسية وحماية البيئة من خلال استخدام الركام المعاد تدويره من مخلفات الهدم.
وكما هو معروف تجد مخلفات الهدم والبناء طريقها إلى المرادم البيئية للتخلص منها بوسائل شتى، لكن التقنيات الحديثة، حولتها إلى قيمة مضافة، حيث يتم إعادة تدويرها واستخدامها في قطاعات عدة، أبرزها رصف الطرق، وفي هذا السياق، حققت المملكة إنجازًا مهمًا في تطوير البنية التحتية المُستدامة، ورصف أول طريق باستخدام هذه المواد المُعاد تدويرها في خليط الأسفلت، تم تنفيذه بالتعاون بين بلدية الأحساء والمركز الوطني لإدارة النفايات، والذي يعد بمثابة خطوة رائدة تتوافق مع أهداف رؤية 2030م، والتي تُركز على التحول إلى الاقتصاد الدائري، وتحقيق معدل إعادة تدوير نفايات البناء والهدم بنسبة %60 بحلول عام 2035م، مما يُقلل بشكلٍ كبير من الأثر البيئي ويُعزز كفاءة استخدام الموارد، فضلاً عن تحويل التحديات البيئية إلى فرص، بما يُعزز ريادة المملكة في تسخير التقنيات الحديثة والمبتكرة في تحقيق أهدافها الإنمائية والمستدامة.
وكانت المملكة قد بدأت في تنفيذ عدد من المشروعات التي من شأنها تحقيق الاستدامة في قطاع الطرق، منها تشجيع السيارات الكهربائية، والحافلات الكهربائية، علاوةً على تطبيق برامج تحفيزية لحث المواطنين والمقيمين على التحول إلى المركبات الصديقة للبيئة بدلاً من السيارات الخاصة، إذ تُعد هذه الخطوات جزءًا من عدة مبادرات إبداعية لتطوير خدمات النقل.
مخلفات البناء كنوز ضائعة
وأكد عديد من الدراسات والأبحاث الأهمية الاقتصادية والبيئية لاستخدام مخلفات البناء في رصف الطرق، حيث أشارت دراسة أجرتها إحدى الجامعات الأهلية في الهند، إلى أن تحقيق الاستدامة في قطاع البناء، يستلزم إعادة استخدام نفايات الهدم، كمواد أساسية في رصف الطرق، حيث أجري عديد من الاختبارات، أبرزها امتصاص الماء، وأثبتت أنه حتى مع احتواء نفايات البناء والهدم على نفايات أخرى مثل الأنقاض والغبار، إلا أنه لا يزال من الممكن استخدامها في بناء الطرق بتكلفة أقل من عمليات الرصف التقليدية.
وأوضحت الدراسات أن إعادة استخدام الخرسانة المهدمة، يعمل على تحسين الظروف البيئية من خلال تقليل الضغط على المناجم، وبالتالي تقليل تلوث الهواء الناتج عن تصنيع الركام في كسارات الأحجار، والحد من تلوث المركبات التي تستخدم لنقل المواد الخام من الكسارات إلى مواقع البناء، ولفتت إلى أن نفايات البناء والهدم ليست نفايات، بل هي مادة مناسبة يمكن استخدامها في الأساسات السفلية لبناء الطرق في المدن والمراكز الحضرية وضواحيها، وأكدت ضرورة وضع استراتيجية متكاملة لإدارة الموارد في كل دولة، حتى يتسنى الاستغلال الأمثل لما وصفته بـ”الكنوز الضائعة”.
وثمة دراسة ألمانية حديثة أشارت إلى أن مواد النفايات المُعاد تدويرها يمكن أن تلعب دورًا رئيسًا في بناء الطرق في أوروبا، مما يُؤدي إلى انخفاض كبير في التكاليف واستهلاك الطاقة وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وأضافت بأن هذه النفايات التي تشمل الزجاج ومخلفات البناء والهدم والمنتجات منتهية الصلاحية، تُعد بدائل مناسبة نظرًا لأدائها المماثل للمواد التقليدية، وتوافرها بكميات كبيرة، مع وجود أنظمة فعالة لجمعها، إضافةً إلى ذلك لا توجد تطبيقات بديلة ذات قيمة أعلى لهذه النفايات، كما أن التخلص منها بالطرق التقليدية كالحرق مُكلف للغاية، وأن تكلفة الرصف بهذه المواد ستشهد انخفاضًا بنسبة %31، و%76 في الطاقة المستخدمة، و%860 في انبعاثات الغازات، مقارنةً بالمواد التقليدية المستخدمة في عمليات الرصف.
الرصف البيئي يغزو العالم
ويتزايد الاعتماد على الرصف البيئي بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة في مختلف دول العالم، ففي أوروبا وأمريكا الشمالية، على سبيل المثال، ثمة توقعات بنمو كبير في إعادة استخدام مخلفات البناء والهدم، وبأن تصل السوق إلى حوالي 50 مليار دولار بحلول 2031م بمعدل نمو سنوي مركب قدره %4.5، حيث تولي الشركات والحكومات على حد سواء الأولوية لمبادئ الاقتصاد الدائري للحد من النفايات وتعزيز قدرات إعادة التدوير.
وتشجع مبادرات “الصفقة الأوروبية الخضراء”، على استعادة المواد البلاستيكية المُستخدمة في البناء، مما يضمن إعادة دمجها في دورة التصنيع، كما حققت دول مثل: ألمانيا وهولندا والسويد معدلات إعادة تدوير نفايات البناء والهدم تتجاوز %80، وبالمثل، في أمريكا الشمالية، تتعاون شركات مثل رابطة صناعة البلاستيك مع مُعالجي نفايات البناء والهدم لإعادة استخدام المواد البلاستيكية المُستخدَمة بعد البناء في رصف الطرق وإنتاج المواد المُركبة.
وقد نجح مركز دنفر الفيدرالي، التابع لإدارة الخدمات العامة الأمريكية، في إعادة تدوير 75 ألف طن من مخلفات الهدم والبناء في منطقة جبال روكي، كانت في طريقها إلى مكبات النفايات، لاستخدامها في رصف الطرق، وبلغت قيمة الوفورات المُحققة 37 ألف دولار، فضلاً عن تجنب الازدحام المروري والانبعاثات البيئية الضارة الناتجة عن قيام 319 شاحنة لنقل هذه المخلفات إلى المكبات المُخصصة.
وفي أستراليا وتحديدًا في مدينة “كونكس” التابعة لولاية فيكتوريا، يتم استخدام الخرسانة المصنوعة من %90 من مخلفات مشاريع البناء، ونسبة %10 أسمنت، في تنفيذ مشروعات أرصفة المشاة ورصف الطرق المحلية، حيث أشار مجلس المدينة إلى أن عمرها الافتراضي يتراوح بين 50 إلى 100 عامًا، وفي ولاية فيكتوريا ذاتها، نجحت في رصف مجموعة من الطرق الرئيسية، بمواد معاد استخدامها من نفايات الهدم والبناء بنسبة %100، وأشارت حكومة الولاية، إلى استخدام ما يصل إلى %40 من الأسفلت المُعاد تدويره في بعض طبقات الطرق، وأن أنابيب الصرف في الطرق تم تصنيعها من البلاستيك المعاد تدويره بنسبة %100.
ومن أستراليا إلى البرازيل، حيث نجح باحثون في جامعتي “ساو باولو” و”برينستون”، في تطوير نهجًا جديدًا لإعادة تدوير نفايات الأسمنت وتحويلها إلى بديل مستدام ومنخفض الكربون، وأشاروا إلى أن تقنية التنشيط الحراري للأسمنت، يُمكن أن تُتيح استخدامات جديدة لنفايات البناء والهدم، والتي تُعدّ الخرسانة مُكوّنًا أساسيًا منها.
وذكر قائد فريق البحث وأستاذ هندسة البناء في جامعة “ساو باولو”، “سيرجيو أنجولو”، أن عادةً ما تنتهي نفايات البناء في مكبات النفايات، أو إذا أُعيد تدويرها، تُستخدم في تطبيقات منخفضة الجودة مثل الأرصفة أو التربة”، وأضاف بقوله إنه من المُثير للاهتمام أن نُظهر قدرتنا على إعادة تدوير نفايات الأسمنت المُعاد تدويرها وتحويلها إلى تطبيقات عالية الجودة، يمكنها خفض انبعاثات صناعة الأسمنت بنسبة تصل إلى %61.
خيار اقتصادي وفرص استثمار واعدة
واعتبر الخبير في شركة “ميلوت” الأمريكية المتخصصة في معدات إعادة التدوير، “جوني هولتينن”، أن إعادة تدوير مخلفات البناء، وخاصة الخرسانة، له العديد من الفوائد الاقتصادية، فغالبًا ما تكون تكلفة إعادة تدوير المواد أقل من تكلفة التخلص منها في مكبات النفايات، هذا، إلى جانب التوفير في تكلفة استخدام المواد المعاد تدويرها، مما يجعل إعادة التدوير خيارًا اقتصاديًا جذابًا، فضلًا عن أن إعادة التدوير أكثر ملاءمة للبيئة، خاصةً إذا تمت إعادة تدوير هذه المخلفات في المواقع باستخدام الكسارات المُتنقلة.
وأضاف “هولتينن”، أن التوسع في استخدام المواد المُعاد تدويرها بشكلٍ متزايد ليشمل مجالات كانت تقتصر تقليديًا على المواد الخام، مثل رصف الطرق، يستوجب ضرورة وضع الأطر التشريعية المنظمة، ففي ولاية نيوجيرسي الأمريكية، على سبيل المثال، هناك قانون يمنع التخلص من أي مواد قابلة لإعادة التدوير في مكبات النفايات، وبالتالي يُعاد تدوير الخرسانة ومخلفات الهدم في أغلب الأحيان.
ويمكن القول بأن الرصف البيئي الذي يعتمد على مخلفات البناء والهدم المُعاد تدويرها، من شأنه خفض تكلفة الإنشاء ورصف البنية التحتية بنسبة تتراوح بين %35-20، فضلًا عن تقليل فاتورة استيراد بعض مواد الرصف من الخارج، كما أن مشروعات إعادة تدوير هذه المخلفات توفر فرصًا استثماريةً واعدة بعائد استثمار قد يصل إلى %32 سنويًا، وذلك أمام توجه الحكومات نحو الاستدامة، فالعديد من الدول تفرض قوانين تفضيل المواد المعاد تدويرها في المشاريع الحكومية، مما يخلق سوقًا مضمونة، فضلاً عن الحوافز الضريبية والدعم المالي للمشاريع الخضراء في قطاع البنية التحتية.
ومن أبرز الفرص الاستثمارية في هذا المجال، هو إنشاء وحدات إعادة تدوير الركام، والاستثمار في كسارات ومصانع لمعالجة مخلفات الهدم وتحويلها إلى ركام عالي الجودة، وإقامة مصانع لإنتاج الأسفلت المُدمج به مواد معاد تدويرها، والتعاقد مع الحكومات أو كبرى شركات المقاولات لتوريد الأسفلت البيئي لمشاريع الطرق، فضلاً عن الاستثمار في البحث والتطوير لابتكار خلطات أسفلتيه أكثر كفاءة باستخدام النفايات.
ويبقى أن الأسفلت البيئي ليس مجرد اتجاه بيئي، بل فرصة استثمارية حقيقية تتناسب مع متطلبات العصر، حيث تجمع بين الربحية والمسؤولية الاجتماعية، فالاستثمار في الاقتصاد الدائري ليس خيارًا، بل ضرورة استراتيجية لمن يريد البقاء في الصدارة.