لطالما شكَّلت الثروة الحيوانية عنصرًا محوريًا في نشأة وتطور عديد من المدن حول العالم، فمنذ القرن التاسع عشر ظهرت بعض المدن الكبرى كمراكز لتربية الماشية وتجارة الجلود والصوف، مثل: مدينة “بوينس آيرس” في الأرجنتين، التي ازدهرت بفضل صناعة اللحوم، ومدينة “ألبي” في فرنسا التي عُرفت تاريخيًا بصناعة الجلود.
وتعد هذه المدن الحيوانية بمثابة محاور اقتصادية تعتمد بشكل كبير على تربية الأبقار والأغنام والإبل وغيرها، لتلبية الطلب المحلي والعالمي على اللحوم والألبان والمنتجات الثانوية. ومع مرور الزمن، تطورت هذه المدن لتجمع بين التقاليد القديمة والتقنيات الحديثة، مما جعلها نماذج فريدة للتنمية المستدامة المرتكزة على الثروة الحيوانية. واليوم، تتجه المملكة لتكون ضمن خريطة هذه المدن العالمية لأداء دور حيوي في ضمان الأمن الغذائي ودفع عجلة الاقتصاد الريفي.
سمكة داخل الصحراء
وتولي المملكة أهمية خاصة لقطاع الثروة الحيوانية ضمن خطتها لتحقيق الأمن الغذائي، وكانت أطلقت مطلع العام الماضي ما يُعرف بـ “الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية”، والتي يندرج ضمن أهدافها تحقيق الأمن الغذائي والمائي وفق مستهدفات رؤية 2030م.
وتهدف الخطط المستقبلية للمملكة ضمن مسارات دعم الأمن الغذائي وتنمية الاقتصاد الوطني، إلى بناء عديد من المدن الحيوانية في مناطق مختلفة، مع التركيز على تعزيز الصادرات الحيوانية إلى الأسواق الإقليمية والدولية، وقد أعلنت في يناير 2025م عن إنشاء أولى هذه المدن في محافظة حفر الباطن بالمنطقة الشرقية، وذلك على مساحة أكثر من 11 مليون متر مربع، مع إجمالي مساحة بناء 7.5 مليون متر مربع، بقيمة 9 مليارات ريال، بتصميم فريد من نوعه على شكل “سمكة داخل الصحراء”، بحيث دمج بيئة المدينة التخطيطية وفقًا لمفهوم تكاملي للعمل والحياة معًا، مستهدفةً إنتاج نحو مليوني رأس من الأغنام سنويًا، مما يجعلها مركزًا رئيسًا لتلبية الطلب المحلي والدولي على اللحوم الحمراء.
وسوف تتضمن المدينة مرافق وحظائر متطورة لتربية الماشية ومصانع للأعلاف ومستشفى بيطري ومصانع تحويلية لإنتاج اللحوم الحمراء تستخدم فيها أحدث التقنيات، وتعتمد المدينة على الطاقة المتجددة من خلال 15 مليار كيلو وات ساعة من الكهرباء الخضراء سنويًا ويستهدف إنتاج 140 ألف لتر من الحليب يوميًا، و100 طن من الأعلاف بالساعة، ومسلخًا آليًا على مساحة 170 ألف متر مربعًا، كما تنتج المدينة مليونًا ونصف متر من الجلود.
بيئة للعمل والمعيشة
بحسب رئيس مجلس إدارة الجمعية التعاونية للثروة الحيوانية، المهندس عبدالله الغامدي، فإن المشروع يستند إلى تصميم حضري متكامل، يجمع بين بيئة العمل والمعيشة، ويحتوي على مناطق للإنتاج الحيواني، الأعلاف، الألبان، معالجة الجلود والصوف، الأسمدة العضوية، إضافة إلى كلية ومعهد متخصص لتأهيل الكوادر الوطنية بالتعاون مع وزارة البيئة والمياه والزراعة، وجامعة حفر الباطن، وجهات دولية كالمركز الوطني الصيني ومعهد هونان، وتُغطي منطقة الأعلاف نحو 210 آلاف متر مربع، بطاقة إنتاجية تبلغ 100 طن في الساعة، فيما يُتوقع أن يُنتج مصنع السماد العضوي أكثر من 200 ألف طن سنويًا. وتم تصميم وحدات الحظائر لتناسب البيئة الصحراوية، مع استخدام الألواح الشمسية لتقليل الانبعاثات الكربونية.
ويؤكد أحد مستثمري قطاع المواشي، مهنا اليابس على أن مدينة الثروة الحيوانية المزمع إقامتها في حفر الباطن، سيكون لها تأثير كبير على القطاع، قائلاً إن المملكة دولة تستهلك اللحوم بشكل كبير لا يكاد يخلو بيت ولا مطعم منها لهذا هي قطاع واعد جدًا، والاستثمار فيه مربح حتى أكثر من العقارات والمقاولات، ولكنه أشار إلى الافتقار لمثل هذه المدن المنظمة، فعلى سبيل المثال هناك فرق كبير جدًا بين مدينة الأنعام في القصيم، وبين أسواق المواشي في باقي المدن، متمنيًا بأن تكون مدينة حفر الباطن بالمستوى نفسه وأفضل، وأضاف متحدثًا عن واقع القطاع بأنه يحتاج إلى مزيد من الرقابة وتوفير الخدمات التي يحتاجها القطاع، وأهمها مراقبة الأسواق وتنظم القطاع بشكل أفضل.
آلاف فرص العمل
ومن جانبه يؤكد المحلل الاقتصاد، علي المزيد، أن المدينة المزمع إنشاؤها ستكون من أكبر الأسواق في المملكة وفي المنطقة عمومًا، مشددًا على أنها ستخلق آلاف فرص العمل، كما أنها سترتب السوق الذي يعاني من العشوائية خاصة في المواسم، ويكون أكثر انضباطًا في صالح جميع الأطراف، المربيين، والباعة، وأيضا المشترين، وشدد على أن هناك حاجة ماسة للعديد من مدن الثروة الحيوانية، سواء في الرياض أو جدة والمنطقة الشرقية والجنوبية، وأضاف أن المملكة من أكثر دول العالم استهلاكًا للحوم، وهذا الأمر يحتاج لتنظيم السوق، والمدن الجديدة هي خطوة واسعة نحو ذلك، وسيكون لها انعكاس اقتصادي واضح مما يشجع المستثمرين في دخول السوق، خاصة وأنه حاليًا غير جاذبة لسيطرة العمالة الوافدة عليها، وهو أمر من المؤكد أنه سيتغير مع دخول مدن الثروة الحيوانية حيز التنفيذ.
أثر اقتصادي واستثماري واعد
وعقب إعلان المشروع، بدأت عدة بنوك سعودية وخليجية التفاوض لتمويل ما بين 10 إلى %15 من تكلفته، بالتوازي مع دعم مالي رئيس من مستثمرين صينيين، وتمويل من صندوق التنمية الزراعية والصندوق الصناعي السعودي. وتشير تقديرات الخبراء إلى أن المشروع سيُعزز من جاذبية الاستثمار في القطاع الحيوي، ويُعيد هيكلة سوق الماشية الذي يعاني من فوضى موسمية؛ إذ يقول خبير الثروة الحيوانية، عبدالله الشهري إن المشروع يمثل تحولاً مهمًا، مؤكدًا على أن الفكرة رائعة خاصة وأنها مدينة متكاملة، ولكنه ينبه بضرورة تنظيمها بشكل جيد، وأن يشرف المختصون عليها، خاصة في مجال الأعلاف والبيطرة، وقال إن السوق المحلية لا تزال غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد على اللحوم، ولهذا يتم اللجوء للاستيراد من الخارج، وأضاف بأن الفرص مواتية لتوسيع السوق، ولكن لكي تبني ثروة حيوانية جيدة، لابد من وضع قيود على ذبح الإناث إلا عندما تصل لسن لا يمكنها التوالد فيها، يتم بيعها بسعر رخيص للمطاعم، وأيضًا في حال توفير البيطرة والأعلاف، هنا سيكون تم توفير نحو %70 من المصاريف ولا يبقى إلا تكاليف العمالة.
نجاح السياسات الحكومية
ووفقًا لتقرير وزارة البيئة والمياه والزراعة الصادر في يونيو الماضي، يبدو أن المملكة في حالة من النمو المستمر في إطار تعزيزها للثروة الحيوانية، فقد سجلت المملكة 782 مشروعًا للثروة الحيوانية، شكّلت مشاريع الدواجن منها %89. واحتلت منطقة الرياض المرتبة الأولى في عدد المشاريع بنسبة %31، تليها عسير، ومكة، والمنطقة الشرقية.
كما أعلنت الوزارة عن ارتفاع إنتاج اللحوم الحمراء إلى أكثر من 270 ألف طن في عام 2023م، بنسبة اكتفاء ذاتي بلغت %61، وهو ما يعكس نجاح السياسات الحكومية في دعم الإنتاج المحلي.
وتعتبر الثروة الحيوانية في المملكة، واحدة من الموارد الاقتصادية المهمة، وهي تشمل أنواع الحيوانات المدجنة والأليفة والمستأنسة، كالإبل، والخيل، والبقر، والغنم، والطيور، والنحل، وتُعد من الأنشطة الممتدة تاريخيًّا في المملكة، حيث اعتاد السكان تربية المواشي لقدرتها على التكيف مع البيئات المختلفة، وبسبب الآلية غير المعقدة لاستخلاص منتجاتها وبيعها، بما في ذلك اللحوم، والحليب، والصوف، والجلود.
في مطلع مارس 2025م، كشفت الوزارة عن أن المملكة سجلت وفرة ملحوظة في إنتاج اللحوم الحمراء، بعد أن بلغ الإنتاج أكثر من 270 ألف طن خلال عام 2023م، مما أسهم بشكل كبير في دعم الإنتاج المحلي وتعزيز الأمن الغذائي في البلاد، وعكس الجهود المستمرة لتحقيق الاكتفاء الذاتي بنسبة تصل إلى %61.
نمو مستمر للثروة الحيوانية
وبحسب الهيئة العامة للإحصاء فإن إجمالي عدد الأغنام عام 2023م بالمملكة بلغ 29.4 مليون رأس، وعدد الضأن 22 مليون رأس، وعدد الماعز 7.4 مليون رأس، فيما بلغ إجمالي عدد الإبل 2.2 مليون رأس، وكانت نسبة الإبل التي أعمارها أقل من أربع سنوات %32، في حين بلغت نسبة الإبل التي أعمارها أربع سنوات فأكثر %68 من إجمالي الإبل.
وعلى صعيد آخر أوضحت إحصاءات الثروة الحيوانية لعام 2023م في المملكة أن إجمالي كمية الدجاج اللاحم المنتج بلغ أكثر من 1.1 مليون طن على مستوى المناطق الإدارية، وقد جاءت منطقة الرياض في المرتبة الأولى من حيث كمية إنتاج الدجاج اللاحم، حيث بلغ إنتاجها منه 282 ألف طن، بينما جاءت منطقة مكة المكرمة في المرتبة الثانية بإنتاج بلغ 185 ألف طن، تليها منطقة حائل في المرتبة الثالثة بإنتاج بلغ 171 ألف طن.
وبذلك، تمثل الثروة الحيوانية في المملكة اليوم أكثر من مجرد قطاع إنتاجي، بل هي ركيزة استراتيجية للأمن الغذائي، ومحرّك قوي للتنمية الاقتصادية المستدامة. ومن خلال المشاريع الطموحة كمدينة حفر الباطن الحيوانية، تسير المملكة بخطى واثقة نحو بناء مستقبل متكامل يجمع بين التكنولوجيا، والاستثمار، وحماية الموارد الطبيعية. إنها ليست فقط خطوة نحو الاكتفاء الذاتي، بل نحو الريادة الإقليمية والعالمية في صناعة تعتمد على جذور تاريخية عميقة، ورؤية مستقبلية طموحة.