الاستثمار الملف

المملكة والولايات المتحدة.. آفاق استثمارية واعدة

واشنطن تعتبر استثمار المملكة 600 مليار دولار ترتفع في مرحلتها الثانية إلى تريليون دولار بالولايات المتحدة “بداية فترة ذهبية جديدة من الشراكة“.

إجمالي التبادل التجاري بين المملكة والولايات المتحدة خلال العشر سنوات الماضية بلغ حوالي 1.34 تريليون ريال.

شركة “أوراكل” الأمريكية تعلن عن ضخ استثمارات بقيمة 14 مليار دولار في المملكة على مدى السنوات العشر القادمة.

شركة داتا فولت تشرع في خططها لاستثمار 20 مليار دولار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للطاقة في الولايات المتحدة.

 

تُمثّل الزيارات الرسمية رفيعة المستوى بين الدول، ولا سيما بين القوى الاقتصادية الكبرى والدول ذات الثقل الإقليمي، فرصًا استراتيجية لإعادة تشكيل خارطة العلاقات التجارية والاستثمارية.

ومن هذا المنطلق، جاءت زيارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إلى المملكة كحدث اقتصادي محوري، حمل في طياته مؤشرات قوية على انفتاح أوسع بين أكبر اقتصاد في العالم، وواحدة من أسرع الدول نموًا.

وقد شكّلت الزيارة منعطفًا نوعيًا في مسار التعاون الاستثماري بين البلدين، حيث تم توقيع اتفاقيات بمليارات الدولارات شملت قطاعات الدفاع، الطاقة، البنية التحتية، والتكنولوجيا، وفتحت هذه الشراكات آفاقًا جديدة أمام القطاع الخاص في البلدين، مما أسهم في تعزيز دور الشركات في نقل التكنولوجيا، وتوسيع نطاق الاستثمار العابر للحدود، وخلق فرص اقتصادية ملموسة على أرض الواقع.

محطات بارزة في العلاقات بين البلدين

وتُعدُّ العلاقات الاقتصادية بين المملكة والولايات المتحدة واحدة من أبرز العلاقات متعددة الروابط ومتنوعة المصالح، باعتبارها تربط بين اقتصاد ينمو بشكل متسارع ويحقق نجاحات ملموسة في مختلف المجالات، وبين أكبر اقتصاد في العالم، ولشمولها العديد من المجالات، وعلى رأسها الطاقة والنفط، والصناعات الدفاعية والعسكرية، فضلاً عن الاستثمار المباشر.

وكانت العلاقات بين البلدين قد شهدت محطات بارزة، منذ انطلاقها عام 1933م عندما منحت المملكة امتياز التنقيب عن النفط لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا، وهو ما مهَّد لأول اكتشاف نفطي بالمملكة عام 1938م، إذ دشَّن اللقاء التاريخي بين الملك “عبدالعزيز” والرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” عام 1945م، مرحلة من التعاون بمختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وغيرها، فيما شهدت حقبة الخمسينيات نموًا تدريجيًا للاستثمارات الأمريكية في قطاع النفط والبنية التحتية.

وفي عام 1974م تم تدشين (اللجنة السعودية الأمريكية المشتركة)، وهي اتفاقية إطارية لتطوير النشاط الاقتصادي والتجاري بين البلدين والتعاون في مجالات التصنيع والتعليم والتكنولوجيا والتنمية الزراعية؛ حيث أُقيم الاجتماع الأول للجنة المشتركة خلال استقبال الملك فيصل بن عبدالعزيز للرئيس الأمريكي “ريتشار نيكسون” خلال زيارته للمملكة.

وفي التسعينيات من القرن الماضي تم توقيع عديد من الاتفاقيات الدفاعية والصفقات العسكرية، بين السعودية والولايات المتحدة، كما تأسست مشروعات تعاون في الصناعات الدفاعية، فضلاً عن التعاون في مجال التدريب ونقل الخبرات، فيما تم في بداية الألفية الجديدة مجلس الأعمال السعودي الأمريكي بهدف إزالة معوقات التجارة والاستثمار بين البلدين، وشهد عام 2007م، توقيع صفقات تسلح ضخمة، بلغت 20 مليار دولار، لتحديث أنظمة الأسلحة والقيادة والاتصالات الحديثة.

وكذلك شهدت الفترة ما بين (2011م– 2016م)، شراكات وتعاون في مجالات التعليم والتقنية، كما دخلت المملكة في شراكات مع شركات، مثل شركة بوينج، وكذلك شركتي “رايثيون” و”لوكهيد مارتن”، وهما من أكبر الشركات في مجال الصناعات العسكرية وتقنيات الطائرات، فضلاً عن تعزيز الاستثمارات في الطاقة والتكرير داخل الولايات المتحدة، مثل قيام شركة أرامكو بإدارة مصفاة بورت آرثر في تكساس بالكامل.

أما عام 2017م، وأثناء زيارة الرئيس “ترامب” للمملكة في فترة ولايته الأولى فقد تم الإعلان عن مجموعة ضخمة من الصفقات بين السعودية والولايات المتحدة بحوالي 400 مليار دولار، وخلال عامي (2022م و2023م)، حدث توسع كبير في استثمارات صندوق الاستثمارات العامة السعودي داخل السوق الأمريكي، وكذلك توطد التعاون في مجال مشروعات الطاقة النظيفة والتحول الرقمي.

رؤية المملكة للشراكة مع الولايات المتحدة

وتتجلى رؤية المملكة في أهمية الشراكة مع الولايات المتحدة، في التصريحات الرسمية المواكبة لزيارة “ترامب” للمملكة، إذ أكد ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، الأمير مـحمد بن سلمان، أن بلاده تعمل على تعميق الشراكة الاستراتيجية والعلاقات الاقتصادية بين البلدين، والتي بدأت مع توقيع اتفاقية امتياز التنقيب عن النفط عام 1933م، مع شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا”، وأضاف بأن المملكة هي أكبر شريك اقتصادي للولايات المتحدة في المنطقة وتجمعهما علاقات اقتصادية عميقة منذ أكثر من 90 عامًا، بدءًا بالطاقة ووصولاً إلى المعرفة والابتكار، مضيفًا أن التعاون بين الرياض وواشنطن لا يقتصر على الاقتصاد، بل يشمل أيضًا العمل المشترك لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة والعالم.

وأوضح ولي العهد أن المملكة تسعى للانتقال من اقتصاد قائم على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد متنوع يعتمد على المعرفة والابتكار، وهو ما ينعكس في الرغبة على الشراكة مع واشنطن، خلال الفترة القادمة بقيمة 600 مليار دولار، من بينها اتفاقيات تتجاوز الـ 300 مليار دولار، كما أن هناك مساعي لزيادة الشراكة إلى تريليون دولار.

الرؤية الأمريكية للشراكة مع المملكة

ومن جانبها وصفت الولايات المتحدة استثمار المملكة 600 مليار دولار في الولايات المتحدة، بأنه أمر “يعزز الروابط الاقتصادية بين البلدين التي ستستمر لأجيال قادمة”، واصفةً الاتفاقيات بأنها “تاريخية وجوهرية”، وتمثل “بداية فترة ذهبية جديدة من الشراكة بين الولايات المتحدة والمملكة”.

وفي هذا الإطار، أكد الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب” أن العلاقة بين بلاده والمملكة ستظل قوية، وأن واشنطن اتخذت خطوات لتعزيز هذه الشراكة، وأن الاتفاقيات، التي تم توقيعها بمليارات الدولارات بين البلدين، سيكون لها أثرها في تعزيز التعاون الاقتصادي بين الجانبين، مثمنًا جهود المملكة لتطوير القطاعات غير النفطية، واصفًا تجاوز إيرادات هذه القطاعات إيرادات القطاع النفطي، بأنه “تحولٌ مذهلٌ”، قائلاً إن “الرياض تسير في طريقها لتصبح عاصمة عالمية ومركزًا للأعمال على مستوى العالم”.

انعكاسات توسع الشراكات على البلدين

وبشكل عام، فإن توسع الشراكة الاقتصادية بين المملكة والولايات المتحدة حقق نتائج إيجابية ملموسة تمثّلت في تعزيز تدفق الاستثمارات الثنائية وتنويع مجالات التعاون خارج الإطار التقليدي للطاقة والدفاع.

فعلى مستوى المملكة أسهمت هذه الشراكات في تسريع تنفيذ برامج رؤية 2030، من خلال استقطاب رؤوس الأموال الأمريكية، ونقل التقنية، وتعزيز المهارات البشرية، خاصة في قطاعات واعدة مثل: الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، والرعاية الصحية، وقد أتاح ذلك فرصًا نوعية للقطاع الخاص في المملكة للنمو والتوسع في بيئة تنافسية مدعومة بالمعرفة والخبرة الأمريكية المتقدمة.

أما على الجانب الأمريكي، فقد شكّلت سوق المملكة المتسارعة في التحول والإنفاق الاستثماري الكبير فرصة جذابة للشركات الأمريكية الكبرى والمتوسطة، خاصة تلك الباحثة عن أسواق جديدة وشركاء استراتيجيين خارج الإطار التقليدي للغرب.

كما أسهمت هذه العلاقة في تعزيز مكانة الولايات المتحدة كشريك اقتصادي مفضل في المنطقة، ومنحت القطاع الخاص الأمريكي فرصًا للوصول إلى مشاريع ضخمة في مجالات البنية التحتية، التكنولوجيا، والخدمات المالية، ما ينعكس بدوره على خلق وظائف وتعزيز الصادرات الأمريكية، وهكذا، تتجلى الشراكة الاقتصادية بين البلدين كعلاقة تكاملية تحقق مكاسب استراتيجية متبادلة وتسهم في استقرار المناخ الاقتصادي الإقليمي.

التبادل التجاري الاستثمارات المتبادلة

وخلال العشر سنوات الممتدة الماضية، بلغ إجمالي قيمة التبادل التجاري بين المملكة والولايات المتحدة حوالي 1.34 تريليون ريال، من بينها صادرات سعودية إلى أمريكا بقيمة 638 مليار ريال، وواردات إلى المملكة بقيمة 702 مليار ريال، وبلغت أعلى قيمة لصادرات المملكة خلال العشر سنوات الماضية حوالي 95.6 مليار ريال، وذلك عام 2018م، فيما كان عام 2015م هو ذروة الواردات بقيمة 89.7 مليار ريال، بينما وصلت أعلى قيمة للتبادل التجاري بين البلدين إلى 170.2 مليار ريال في عام 2015م أيضًا.

ومن أبرز الصادرات السعودية للولايات المتحدة المنتجات المعدنية، والمنتجات الكيميائية العضوية، والأسمدة، والألمنيوم ومصنوعاته واللدائن ومصنوعاتها، فيما تتمثل الواردات السعودية من الولايات المتحدة في السيارات وقطع الغيار، والمركبات الجوية، والأجهزة والمعدات الكهربائية، والأجهزة الطبية.

وينظر صندوق الاستثمارات العامة إلى الولايات المتحدة باعتبارها وجهة رئيسة لاستثماراته، ولذلك فقد ضخ الصندوق في الولايات المتحدة حوالي %40 من إجمالي استثماراته حول العالم، ولدى المملكة استثمارات كبيرة في الولايات المتحدة؛ إذ بلغت قيمة المحفظة الاستثمارية للصندوق في الشركات الأمريكية المدرجة 27 مليار دولار بنهاية عام 2024م، أما الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية، فقد بلغ نحو 127 مليار دولار، فضلاً عن الاستثمار في الأصول المالية الأمريكية الأخرى.

وتتوزع استثمارات المملكة في الولايات المتحدة بشكلٍ عام، على عديد من القطاعات، وأبرزها، التكنولوجيا والعقارات والذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية والسيارات الكهربائية والسياحة وغيرها، وفي المقابل، فقد بلغ عدد الشركات الأمريكية، التي تستثمر في المملكة حوالي 1300 شركة، من بينها 200 شركة قررت أن يكون مقرها الإقليمي للمنطقة في المنطقة.

وبلغ رصيد الاستثمار الأمريكي المباشر في المملكة حوالي 202 مليار ريال (54 مليار دولار)، حتى عام 2023م، وهو ما يمثل %23 من إجمالي الاستثمارات المباشرة في المملكة؛ حيث تصدرت قطاعات النقل والتخزين، والصناعة التحويلية، وتجارة الجملة والتجزئة القطاعات الجاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر.

بنية تحتية ومشاريع عقارية متنوعة

وقد تم الاتفاق مؤخرًا على توطيد التعاون بين الرياض وواشنطن في مجال البنية التحتية، إذ من المقرر أن تقوم مجموعة من الشركات الأمريكية، مثل شركة هيل إنترناشونال وأيكوم وجاكوبز وبارسونز، ببناء مشروعات بنية تحتية رئيسة، مثل مطار الملك سلمان الدولي، ومنتزه الملك سلمان، ومشروع ذا فولت، ومدينة القدية، وغيرها، كما أنه وبالتعاون بين مؤسسة “ترامب” و”دار جلوبال”، تم الإعلان عن مشروع “برج ترامب جدة”، وهو عبارة عن ناطحة سحاب مكونة من 47 طابقًا، وهو ما يجعله من من أطول المباني في مدينة جدة، وتبلغ تكلفة المشروع حوالي 533 مليون دولار.

كما أعلنت مؤسسة “ترامب” عن رغبتها في تطوير مشروعين في الرياض، أحدهما برج سكني فاخر، والآخر يتضمن مجتمعًا سكنيًا متكاملاً مع ملعب جولف.

وفيما تُعتبر هذه المشروعات، بمثابة توسع للاستثمارات الأمريكية في منطقة الخليج، بالتعاون مع شركاء محليين مثل “دار جلوبال”، فإن هذه المشروعات تُعد في الوقت نفسه جزءًا من المساعي السعودية للتطوير والاستثمار في قطاع العقارات الفاخرة، من أجل تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية.

 

الشراكات الاستثمارية في التقنيات المتطورة

من المقرر وفقًا للاتفاقيات، أن تقوم كلٌ من شركة (جوجل، داتا فولت، أوراكل، سيلز فورس، إيه إم دي، أوبر) باستثمار 80 مليار دولار في التقنيات المتطورة، وهو ما سيؤدي إلى نقلة توعية في المملكة والولايات المتحدة.

وفي هذا الإطار، فقد أعلنت شركة “أوراكل” الأمريكية عن ضخ استثمارات بقيمة 14 مليار دولار في السعودية على مدى السنوات العشر القادمة لتوفير أفضل تقنيات الحوسبة السحابية، تأكيدًا لالتزامها بالمساهمة في دعم تحقيق أهداف رؤية 2030، كما تم توقيع اتفاقية بين الهيئة العامة للنقل وشركة أوبر لتدشين شراكة استراتيجية لإطلاق المركبات ذاتية القيادة في المملكة؛ حيث ستعمل الهيئة على الاستفادة من شبكة أوبر لتوجيه الرحلات، وتوسيع نطاق وصول المستهلكين إلى تكنولوجيا المركبات ذاتية القيادة.

ومن المقرر أن تشرع شركة داتا فولت في خططها لاستثمار 20 مليار دولار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للطاقة في الولايات المتحدة.

ودشنت شركة “هيوماين” التابعة لصندوق الاستثمارات العامة والمتخصصة في الذكاء الاصطناعي، مع شركة “أمازون ويب سيرفيسز” شراكة استراتيجية لاستثمار أكثر من خمس مليارات دولار لبناء “منطقة للذكاء الاصطناعي” في المملكة.

وأكدت شركة “هيوماين” أنها ستشرف على تطوير مراكز البيانات وأنظمة الطاقة المستدامة والاتصالات العالمية بالألياف الضوئية، في حين ستوفر شركة إيه إم دي الأمريكية الرقائق والبرمجيات، من أجل بناء مراكز بيانات تمتد من المملكة إلى الولايات المتحدة.

كما أعلنت شركة “هيوماين” عن خططها لجذب كبار المستثمرين الأمريكيين في قطاع التكنولوجيا، إلى جانب إطلاق صندوق رأس مال بقيمة 10 مليارات دولار، بهدف الاستثمار في شركات ناشئة في الولايات المتحدة وأوروبا وأجزاء من آسيا، كما أكدت الشركة أنها تجري محادثات مع شركات أمريكية بارزة، منها “OpenAI”، و”xAI” التابعة لإيلون ماسك، وشركة “Andreessen Horowitz”.

شراكات الصناديق والصناعات الدفاعية

وعلى صعيد آخر تم تدشين مجموعة من الشراكات الاستثمارية، من خلال الاستثمار في عديد من الصناديق الخاصة بالولايات المتحدة، مثل صندوق الاستثمار في الطاقة بقيمة 5 مليارات دولار، وصندوق نيو إيرا لتكنولوجيا الطيران والدفاع بقيمة 5 مليارات دولار، وصندوق إنفيلد سبورتس العالمي للرياضة بقيمة 4 مليارات دولار.

إلى جانب الإتفاقيات الموقعة بين البلدين، وبالتزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي للمملكة، فقد أُقيمت في الرياض، فعاليات منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي، بمشاركة أكبر شركات ورجال المال والأعمال في الولايات المتحدة والعالم، فضلاً عن وزراء ومسؤولين بارزين من البلدين، الذي ناقش مجموعة واسعة من الموضوعات والمجالات، التي تحظى باهتمام مشترك من الجانبين، وعلى رأسها الطاقة والاستدامة، والتمويل، والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والصناعات التحويلية وقطاعي الفضاء والدفاع، والموارد المعدنية.

ولم تقتصر الزيارة على الاتفاقيات في المجالات المدنية، إذ تضمنت أيضًا توقيع إتفاقية بين المملكة والولايات المتحدة، تم وصفها بأنها أكبر اتفاقية مبيعات دفاعية في التاريخ، بلغت قيمتها 142 مليار دولار، لتزويد المملكة بأحدث المعدات والخدمات القتالية من أكثر من 12 شركة دفاع أمريكية، في مجال القوات الجوية والقدرات الفضائية، والدفاع الجوي والأمن البحري وأمن الحدود وتحديث القوات البرية، كما تضمنت تلك الاتفاقيات التعاون في مجال تحديث أنظمة المعلومات والاتصالات، والتدريب والتعليم، وخدمات الإسناد، والصيانة، وقطع الغيار.

وفي إطار التعاون في مجال الفضاء بين الرياض وواشنطن، وقَّعت وكالة ناسا ووكالة الفضاء السعودية اتفاقية للتعاون في مشروع “كيوب سات” لرصد الطقس الفضائي ضمن مهمة “أرتميس 2”.

ولا يعُد ذلك التعاون الأول بين الجانبين، بل سبقها عديد من أوجه التعاون، وكان من أهمها، قيام الهيئة السعودية للفضاء بالتوقيع مع وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، اتفاقية عام 2022م، انضمت المملكة بمقتضاها للتحالف الدولي في مجال الاستكشاف المدني واستخدام القمر والمريخ والمذنبات والكويكبات للأغراض السلمية.

الشراكة الاستثمارية بين القطاع الخاص في البلدين

وقد فتحت زيارة “ترامب” كذلك آفاقًا اقتصادية واسعة تعزز الشراكة الاستثمارية بين القطاع الخاص في البلدين؛ إذ أعلنت شركة “بوينغ” الأمريكية لصناعة الطائرات عن توقيع اتفاقية جديدة مع شركة “آفي ليس” المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، تشمل طلب شراء 20 طائرة من طراز 737-8، مع خيار لشراء 10 طائرات إضافية. وتُعد هذه الصفقة أول طلب مباشر من “آفي ليس” إلى “بوينغ”، ما يمثل خطوة استراتيجية نحو تعزيز أسطولها بطائرات حديثة عالية الكفاءة في استهلاك الوقود، الأمر الذي يساهم في توسيع قاعدة عملائها ودعم التحول المستدام في قطاع الطيران العالمي.

في السياق ذاته، تم التوصل إلى تحديث في اتفاقية النقل الجوي بين الجانبين، بما يتيح لشركات الطيران الأمريكية نقل البضائع بين المملكة ودول أخرى دون التوقف في الولايات المتحدة، مع منح الشركات السعودية الحقوق ذاتها تجاه السوق الأمريكي، مما يعزز انسيابية حركة الشحن ويزيد من كفاءة الخدمات اللوجستية.

وعلى صعيد الطاقة، أبرمت وزارة الطاقة السعودية ونظيرتها الأمريكية اتفاقية للتعاون في مجالات الابتكار، وتطوير البنية التحتية، وتمويل مشروعات الطاقة. كما تم توقيع مذكرة تفاهم تهدف إلى دعم التعاون في قطاع التعدين، وتطوير سلاسل التوريد للمعادن الحيوية، بما يعزز من مرونة الإمدادات وتنويع مصادرها.

في خطوة بارزة، أعلنت “أرامكو” السعودية، بالتزامن مع زيارة “ترامب”، عن استثمار بقيمة 3.4 مليار دولار في مصفاة “موتيفا” بولاية تكساس، بهدف التوسع في إنتاج الوقود والبتروكيماويات. كما وقعت الشركة مذكرات تفاهم مع شركتي “نيكست ديكيد” و”سيمبرا” الأمريكيتين لتوسيع أعمالها في قطاع الغاز الطبيعي المُسال في الولايات المتحدة، ضمن استراتيجيتها لتنويع مصادر الطاقة وتعزيز حضورها العالمي.

ومن جهتها، وقعت وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية اتفاقية مع وزارة الطاقة الأمريكية لتعزيز التعاون في قطاع التعدين، بهدف تنويع سلاسل الإمداد للموارد المعدنية الحيوية. كما أعلنت شركة “المناجم الكبرى للتعدين” السعودية عن إنشاء مركز عالمي لتأمين المعادن الاستراتيجية، من خلال مذكرة تفاهم بقيمة 9 مليارات دولار مع شركة “بورخان العالمية”، في خطوة تعكس التزام المملكة باستقطاب التقنيات الحديثة ودعم أهداف رؤية 2030 للتنوع الاقتصادي.

وفي مجال الطاقة المتجددة، وقعت المملكة اتفاقيات مع عدد من الشركات الأمريكية لتوطين صناعة معدات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، إلى جانب تطوير تقنيات تخزين الطاقة، في إطار التوسع في مشروعات الطاقة النظيفة، لا سيما في مشروع “نيوم”، أحد أضخم مشاريع الطاقة في العالم. وتُولي السعودية اهتمامًا متزايدًا بتقنيات الهيدروجين الأخضر باعتباره وقود المستقبل..

 

استثمارات بمليارات الدولارات وشركات صحية وثقافية وعلمية

على الجانب المالي، أعلنت منصة “بركان وورلد إنفستمنتس” الأمريكية توقيع مذكرات تفاهم مع شركاء سعوديين بقيمة إجمالية تصل إلى 15 مليار دولار، في صورة التزامات استثمارية جديدة. كما وقّعت شركة “حصانة للاستثمار” السعودية مذكرة تفاهم مع “فرانكلين تمبلتون” الأمريكية بقيمة 150 مليون دولار، لاستكشاف فرص استثمارية في قطاع الائتمان الخاص داخل المملكة.

وتجدر الإشارة إلى أن المملكة تُصنّف في المرتبة الـ 17 بين كبار حاملي السندات الأمريكية، بإجمالي يبلغ 126.4 مليار دولار، موزعة بين 104.7 مليار دولار في سندات طويلة الأجل، و21.8 مليار دولار في سندات قصيرة الأجل.

شهد قطاع الرعاية الصحية توقيع عدد من الاتفاقيات، أبرزها استثمار شركة “شامخ” السعودية بنحو 5.8 مليار دولار في إنشاء منشأة متقدمة لإنتاج السوائل الوريدية بولاية ميشيغان الأمريكية. كما تم التوقيع على مذكرة تفاهم بين المعهد الوطني لأبحاث الصحة في السعودية والمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في الولايات المتحدة، لتعزيز التعاون في مجال البحوث الطبية المتعلقة بالأمراض المعدية.

كما تستمر الاتفاقيات السابقة بين وزارتي الصحة في البلدين، التي وُقعت منذ عام 2022م في دعم تبادل الخبرات وتوحيد الجهود لمواجهة التحديات الطبية والعلمية، بما يشمل التدريب المشترك وتطوير البحث والابتكار في القطاع الصحي.

امتدت مخرجات الزيارة لتشمل المجالين الثقافي والعلمي، حيث تم توقيع اتفاقيات بين اللجنة الملكية لمحافظة العلا وعدد من المؤسسات الأمريكية العريقة مثل المتحف الوطني للفن الآسيوي وحديقة حيوان “سميثسونيان”. وتشمل هذه الاتفاقيات شراكات في مجال البحث، وتنظيم معارض أثرية، بالإضافة إلى التعاون في جهود الحفاظ على فصائل نادرة، مثل النمر العربي المهدد بالانقراض.

وأمام هذا الكم والتنوع من الشراكات الاقتصادية، فإن زيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة إلى المملكة شكلت محطة لافتة في مسار العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية بين البلدين، وقد جاءت في توقيت تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية والاقتصادية على المستوى العالمي، مما أضفى على الزيارة طابعًا عمليًا يتجاوز الرمزية والبروتوكول إلى عمق المصالح والاستثمارات المتبادلة؛ إذ كشفت الاتفاقيات والمذكرات الموقعة عن رغبة متبادلة في تعميق الشراكات، وتوسيع آفاق التعاون في قطاعات متعددة وحيوية تمثل ركائز مستقبلية لاقتصادي البلدين.

ولقد أعادت هذه الزيارة تسليط الضوء على الأهمية المتزايدة للسوق السعودي كمركز إقليمي جاذب للاستثمار، لا سيما في ضوء رؤية 2030 التي تُشكّل خارطة طريق طموحة نحو تنويع الاقتصاد وتوطين الصناعة ونقل التكنولوجيا، وبرز ذلك بوضوح من خلال صفقات ضخمة أبرمت في مجالات التكنولوجيا والطاقة، والدفاع، والرعاية الصحية، والطاقة المتجددة، والقطاع المالي، مما يبرهن على أن الشراكة بين القطاع الخاص في البلدين لم تعد مجرد خيار، بل أصبحت مسارًا استراتيجيًا تتكامل فيه المصالح وتتشكل من خلاله تحالفات اقتصادية طويلة الأمد.

ومن المنتظر أن تنعكس هذه الاتفاقيات بشكل مباشر على تحفيز الاستثمار المحلي في المملكة، وتوفير فرص عمل نوعية، وتعزيز مكانة المملكة كمحور إقليمي لتصنيع وتطوير الحلول في مجالات التكنولوجيا والطاقة والمعادن، كما أنها توفر فرصًا مهمة للولايات المتحدة لإعادة التمركز الاقتصادي في المنطقة، من خلال تدفق رأس المال الأمريكي، وزيادة صادرات الشركات الأمريكية، وفتح مجالات تعاون تتخطى العلاقات الحكومية لتصل إلى شركات القطاع الخاص، ومؤسسات البحث والتطوير، والمجتمع الأكاديمي.

فإن هذه الزيارة، بما حملته من مبادرات وشراكات، تمثل خطوة متقدمة في مسار التحول الاقتصادي العالمي نحو نماذج أكثر توازنًا وشمولًا. وهي تعكس في جوهرها إدراكًا مشتركًا من الرياض وواشنطن بأن التعاون الاقتصادي لم يعد محصورًا في عقود تقليدية، بل أصبح قائمًا على الاستباق، والابتكار، وتوظيف فرص الاقتصاد الجديد. ولذلك، يُمكن القول إن نتائج هذه الزيارة لن تتوقف عند مجرد الأرقام أو الاتفاقيات الموقعة، بل ستمتد لتُسهم في رسم معالم مستقبل جديد من الشراكة الاستراتيجية التي توازن بين المصالح، وتدفع بعجلة التنمية في البلدين نحو آفاق أرحب وأكثر استدامة.