أسواق النحاس

سباق النحاس والصناعة!

النحاس يدخل في مختلف الصناعات الإلكترونية والكهربائية وتشير التقديرات إلى ارتفاع سعر طن النحاس لـ 12 ألف دولار بعد انتهاء عام 2025م.

توقعات بأن يرتفع الطلب العالمي على النحاس بمقدار 52.5 مليون طن سنويًا بحلول منتصف القرن، مقارنة بـ 30.4 مليون طن، خلال عام 2021م.

 

لم يعد خافيًا على أحد أن معدن النحاس بات من أبرز المعادن الحيوية على مستوى العالم، نتيجة تعدد وتنوع استخداماته في مختلف القطاعات، مثل الإلكترونيات، والكهرباء، والإنشاءات، والعقارات، والبنية التحتية، والنقل، وصناعة السيارات، والطاقة المتجددة.

ويُتوقع أن تزداد أهمية النحاس كخيار استثماري رئيس في الأسواق العالمية، خاصةً في ظل نمو الصناعات الإبداعية، وزيادة الاعتماد على الابتكار التكنولوجي، وتنامي التوجهات العالمية نحو الاستدامة البيئية والطاقة النظيفة.

أسباب ارتفاع الأسعار الراهن

وشهدت أسعار النحاس تقلبات ملحوظة خلال الفترة الأخيرة؛ ففي سبتمبر 2024م، ارتفعت العقود الآجلة للنحاس في بورصة لندن لتصل إلى 10.158 دولارًا للطن، ثم قفزت إلى مستوى قياسي تجاوز 11 ألف دولار للطن، مدفوعة بموجة من المضاربات، قبل أن تعاود الانخفاض نتيجة تراجع الطلب وتفاقم أزمة العقارات في الصين.

ومع بداية عام 2025م، بلغ سعر طن النحاس نحو 8.200 دولار، لكنه عاد للارتفاع في مايو من العام نفسه متجاوزًا حاجز 10 آلاف دولار، مدفوعًا بزيادة الطلب من الأسواق الكبرى.

ويرى مصرف “جولدمان ساكس” أن بطء تعافي الاقتصاد الصيني قد يؤدي إلى تأخير ارتفاع سعر النحاس، مشيرًا إلى أن سعر طن النحاس سيصل إلى 12 ألف دولار بعد انتهاء عام 2025م، وتتطابق تلك التوقعات مع تقديرات مؤسسة “ترافيجورا” وهي أكبر شركة لتجارة النحاس في العالم؛ حيث تتوقع ارتفاع سعر النحاس إلى 12 ألف دولار للطن خلال الفترة القادمة.

وبرغم أن ارتفاع الأسعار غالبًا ما يُعد مؤشرًا على زيادة الطلب ونمو النشاط الاقتصادي، فإن جزءًا كبيرًا من الارتفاع الراهن يعود إلى عوامل أخرى، أبرزها الحرب التجارية التي اندلعت منذ فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رسومًا جمركية على الواردات.

ومنذ مطلع العام الجاري 2025م، وحتى النصف الأول من العام، ارتفع سعر النحاس بعد أن تعهدت الصين بإنعاش الطلب، باعتبارها أكبر مستهلك لهذا المعدن المهم في العالم، ليعوض ذلك تأثير تعريفات الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب” التي ضغطت على المصدرين الصينيين.

وبشكل عام، فقد شهد سعر النحاس مؤخرًا تقلبات في الأسعار، سواء بالانخفاض أو الارتفاع، ويرجع ذلك لعديد من العوامل والأسباب، وعلى رأسها، التغيرات الاقتصادية الدولية، فغني عن القول أن حدوث تراجع في النمو الاقتصادي في الأسواق الكبرى مثل الصين أو الولايات المتحدة، باعتبارهما أكبر مستهلكي النحاس في العالم، كان له أثره فيما يتعلق بالتوقعات الخاصة بتراجع الطلب على النحاس، أما العكس، وهو انتعاش الاقتصاد العالمي، فمن البديهي أن يؤدي إلى زيادة الطلب على النحاس، ومن ثم ارتفاع الأسعار.

العوامل المؤثرة في تقلبات أسعار النحاس

ومن الأسباب والعوامل المؤثرة أيضًا في تقلبات أسعار النحاس، وتحديدًا في ارتفاع سعره، السياسات والقيود البيئية، فمع صدور القوانين البيئية الصارمة لتنظيم استخراج النحاس، بسبب استخدامه في عديد من الصناعات، المرتبطة بزيادة انبعاثات الكربون، أدى ذلك إلى انخفاض المعروض من النحاس، وبالتالي ارتفاع أسعاره. كذلك، فإنه مع ثورة التكنولوجيا والابتكارات الواسعة في تكنولوجيا الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ازداد الطلب على النحاس بسبب استخدامه في تصنيع الألواح الشمسية والمحولات الكهربائية، وكذلك بسبب التوسع في الصناعات الخضراء وصناعة السيارات الكهربائية، والتي تعتمد على النحاس في تصنيع البطاريات والمحركات.

من جهة أخرى، فإن أسعار النحاس ترتبط عكسياً بقيمة الدولار الأمريكي، إذ أن ارتفاع أسعار الدولار يؤدي إلى انخفاض أسعار النحاس، في حين أن العكس، وهو انخفاض أسعار الدولار، (وهو أمر محتمل، في ظل أن هناك مبالغة في تقييم الدولار بحوالي %9)، سيكون له أثره على زيادة القوة الشرائية في بقية دول العالم للسلع المسعرة بالدولار الأمريكي، مثل النحاس، مما يعزز الطلب الإجمالي ويدعم الأسعار.

ولطالما اعتبر الاقتصاديون أن أسعار النحاس بما توفره من رؤى قطاعية هي بمثابة مؤشر محوري فيما يتعلق بالاستثمارات ودورة الأعمال وتحديد الاتجاهات العامة للاقتصاد، ولكن بعد أن تسببت التهديدات التجارية إلى ارتفاع أسعار النحاس، فإن الخبراء قللوا من العلاقة بين أسعاره وبين صحة الاقتصاد العالمي على المدى القصير على الأقل، وإن كانت تلك العلاقة لا تزال مؤشرًا مهمًا على المدى الطويل.

أبرز مشاريع المملكة في إنتاج النحاس

وعلى الرغم أن المملكة ليست من كبار منتجي النحاس حتى الآن، فإن لديها إمكانات واعدة في هذا القطاع، خاصة في ظل رؤية 2030 التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط، وتطوير قطاع التعدين كمحور اقتصادي استراتيجي، فالمملكة غنية بالموارد المعدنية غير المستغلة، ومن بينها خام النحاس، وقد بدأت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية بالتعاون مع وزارة الصناعة والثروة المعدنية في إجراء مسوحات جيوفيزيائية وكيميائية واسعة كشفت عن وجود مؤشرات مبشرة لاحتياطيات من النحاس في مناطق متعددة، كمنطقة الخنيقية، وجبل صايد والذي يعد من أكبر مواقع النحاس المكتشفة، ويُشغّلها حاليًا مشروع مشترك بين شركة “معادن” السعودية و”باريك جولد” الكندية، وثمة مناطق في نجران وعسير أيضًا تحتوي على تراكيز معدنية واعدة.

ومن أبرز المشاريع في هذا المجال، منجم جبل صايد، الذي بدأ الإنتاج فيه منذ عام 2016م، ويُعد من أوائل مشاريع النحاس الحديثة في المملكة، إذ ينتج المنجم عشرات الآلاف من الأطنان من مركزات النحاس سنويًا، ويُصدر معظمه إلى الأسواق العالمية، كما وتخطط المملكة لطرح مزيدًا من الرخص التعدينية في مناطق تحتوي على نحاس وذهب ومعادن استراتيجية أخرى، ضمن ما يُعرف بـ “الجولات الترويجية الاستثمارية” التي تنظمها وزارة الصناعة لجذب شركات دولية.

ويبلغ الطلب المحلي على النحاس نحو 365 ألف طن سنويًا، ووفقًا للتقديرات، فإنه من المتوقع أن يتضاعف الطلب بحلول عام 2035م، وهناك عديد من العوامل، التي تدفع في اتجاه زيادة الطلب على النحاس في المملكة، وعلى رأس تلك العوامل، النمو الاقتصادي والتوسع في القطاع الصناعي، وكذلك زيادة عدد السكان، وهو ما يؤدي لزيادة الطلب على السلع والمنتجات، التي تعتمد على النحاس، مثل الأجهزة الكهربائية والمنزلية.

دعم وتشجيع إنتاج النحاس بالمملكة

ويرى الرئيس التنفيذي لشركة التعدين العربية السعودية “معادن”، “روبرت ويلت” أن الحاجة للنحاس في العقد القادم ستفوق ما تم استخدامه في التاريخ البشري، ويضيف أن المملكة تسعى لتقصير مدة عملية استخراج النحاس من خلال الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والروبوتات، مشيرًا إلى أن عمليات الاستكشاف والاستخراج والإنتاج تستغرق 20 سنة، ولكن من المستهدف تقليلها إلى 9 سنوات.

وإذا كانت المملكة حاليًا تستوعب هذا الطلب من خلال الواردات، إلا أنها تستهدف، في إطار سعيها لجذب الاستثمارات، دعم وتشجيع إنتاج النحاس بالمملكة، وفي هذا السياق، فقد تم الإعلان في ديسمبر 2024م عن توقيع شركة “فيدانتا المحدودة الهندية”، لمذكرة تفاهم مع وزارتي الاستثمار والصناعة السعودية للاستثمار في منطقة رأس الخير الصناعية، بهدف إنتاج النحاس وأسلاكه، باستثمارات بقيمة ملياري دولار.

وتشمل الاستثمارات إنشاء مصنع صهر وتكرير نحاس جديد بطاقة 400 ألف طن سنويًا، بالإضافة إلى مشروع أسلاك نحاس بطاقة 300 طن ألف سنويًا، وذلك في إطار سعي المملكة لتلبية احتياجات السوق المحلية وتحقيق رؤية 2030 واستراتيجية النمو الصناعي في المملكة.

وفيما يتعلق بالاستثمار في النحاس خارجيًا، فقد استحوذت المملكة، على %15 من مشروع “ريكو ديك” الواقع في باكستان، وهو المشروع المصنف باعتباره أحد أكبر المناجم المطورة للذهب والنحاس عالميًا، مقابل 540 مليون دولار، وسيصل حجم الاستثمارات السعودية في هذا المشروع إلى حوالي مليار دولار، كما أعلن الصندوق السعودي للتنمية عن استثمار نحو 150 مليون دولار لدعم تطوير الموارد المعدنية في إقليم بلوشستان بباكستان.

ولا شك أن قلة المعروض من النحاس مقارنةً بالطلب المتزايد في الأسواق أصبح يثير المخاوف، في ظل أن هذا الخلل بين العرض والطلب سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النحاس، الذي أصبح مادة أساسية تدخل في مختلف الصناعات، ووفقًا لبعض التقديرات، فإنه من المتوقع ارتفاع الطلب على النحاس عالميًا بنسبة %40 بحلول عام 2040م.

وفيما تشير التوقعات إلى ارتفاع إجمالي إنتاج النحاس عالميًا إلى 30 مليون طن في عام 2036م مقابل 22 مليون طن في عام 2023م فإن شركة “بي إتش بي” تتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على النحاس بمقدار 52.5 مليون طن سنويًا بحلول منتصف القرن، مقارنة بـ30.4 مليون طن، خلال عام 2021م.

ولذلك؛ فإنه من المرجح ألا تكفي إمدادات النحاس الطلب العالمي المتوقع خلال السنوات المقبلة؛ ما يتطلّب مزيدًا من عمليات الاستكشاف وتطوير المناجم، باستخدام الذكاء الاصطناعي وتقنيات التحول الرقمي وغيرها، ومن جهةً أخرى، فإن هناك ضرورة لتحسين كفاءة استخدام النحاس، من خلال تقليل الهدر وتطوير منتجات تستخدم كميات أقل من النحاس، ودعم البحث في تطوير مواد بديلة، فضلاً عن تطوير إعادة تدوير المخلفــــات الإلكترونية، التي تعتمد على كميات كبيرة من النحاس.