نافذة

الكابتشينو والبلياردو في الشركات.. لن تخلق ثقافة تنظيمية!

من أهم العوامل التي تؤثر في قدرة المنظمة على الابتكار والمنافسة وجذب العملاء وحصد الأرباح والنجاحات هي ثقافتها التنظيمية. والثقافة التنظيمية Corporate Culture هي مجموعة من التقاليد والقيم المؤسسية غير المكتوبة في الغالب، والتي تحكم طريقة التعامل والتواصل وصنع القرار فيها. هذه المجموعة غرسها وأصّلَها قياديو المنظمة مع الزمن.

وليس هناك تعريف محدد للثقافة التنظيمية، لكنها بالتأكيد ليست عبارة عن الأثاث والديكور العصري للمكاتب، ولا مكائن الإسبريسو والكابتشينو، ولا أركان الدونات والأكلات الخفيفة، ولا طاولات التنس والبلياردو. هذه الأشياء لا يمكن أن تخلق ثقافة تنظيمية، هذه مجرد شكليات.

المنظمات التي تبنت مؤخراً – من شركات طليعية كــ «غوغل» و«زابوس» – الأجواء الترفيهية لبيئة العمل مثل صالات التسلية والألعاب وغرف الهوايات والمقاهي، تبنت مفهوم «الثقافة التنظيمية» بشكل سطحي، فالغرض ليس تقديم خدمات فندقية وترفيهية للموظفين، ولكنه أعمق من ذلك بكثير. فالغرض الأسمى هو جلب أفضل المواهب والحفاظ عليها، ودفعها نحو العمل والإنتاج بتوفير الأجواء المساعدة على الإبداع والابتكار. ويجدر التنبيه إلى أن هناك علاقة طردية أكيدة بين مستوى الثقافة التنظيمية ومعنويات الموظفين.

ولتقريب مفهوم الثقافة التنظيمية، نضرب مثلاً بمسألة صنع القرار، فهناك منظمات يكون صنع القرار الروتيني فيها بطيئاً يبوء بعبء اللجان والموافقات المطولة، وهناك منظمات لا يحتاج صنع هذا القرار فيها إلى أكثر من نقاش بسيط وإيميل وموافقة. ومثال آخر في الوصول إلى الرؤساء؛ فهناك منظمات باستطاعة أي فرد فيها مقابلة رئيسه في أي وقت بلا حواجز، وهناك منظمات لا بد من مقابلة سكرتير الرئيس وأخذ موعد والانتظار ربما لأوقات طويلة لنيل هذا الشرف. ومثال ثالث: هناك رؤساء مكاتبهم مفخمة ومضخمة، وربما مذهبة، وهناك آخرون لهم مكاتب بسيطة ومساحات عادية، وربما وُجدوا وسط الموظفين في مساحات مفتوحة. ومثال رابع: هناك منظمات القرار فيها لشخص واحد لا شريك له، والبقية متفرجون. وهناك منظمات أخرى يتم فيها تداول الأمور المهمة ونقاشها والوصول إلى قرار جماعي بشأنها يراعي الجميع. وأخيراً.. هناك منظمات تعامل موظفيها كآلات إنتاج لا أكثر، وهناك منظمات تراعي مشاعر موظفيها وتستنير بآرائهم في كل أمر. والمسألة في النهاية مجرد «اختلاف ثقافات» تنظيمية، لا أكثر!

ولكن هل وجود «الثقافة التنظيمية» مسألة مهمة؟ الأبحاث تقول نعم، لأن الثقافة التنظيمية الإيجابية هي القوة «غير المرئية» الدافعة نحو الأداء الجيد والابتكار وجلب المواهب ورفع معدلات الولاء والرضا الوظيفي وارتقاء الجودة وعلو السمعة.. وتحقيق أفضل النتائج والأرباح في نهاية المطاف. كما أن الثقافة التنظيمية القوية ميزة تنافسية صعبة التقليد! فليس من السهولة أن تقرر منظمة ما فجأة أن تصبح «غداً» منظمةً ذات ثقافة تنظيمية جاذبة، فالأمر يتطلب سنوات من العمل الجاد على المستوى القيادي للمنظمة.

وبما أن المنظمة في النهاية عبارة عن أفراد يعملون معاً لتحقيق أهداف مشتركة، فإن خلق الثقافة التنظيمية هو نتيجة حتمية لتفاعل هؤلاء الأفراد مع بعضهم البعض في بيئة عملهم، من أعلاهم منصباً نزولاً حتى أدناهم.

وإذا كانت ثقافة المنظمة نتاجاً لتفاعل مجموعة من الأفراد، فإن ما يدور في عقل موظف فرد وكيف يؤثر ويتأثر بالآخرين، هو ما يسهم في الحقيقة في خلق «الثقافة التنظيمية»، إيجابية كانت أم سلبية. يقول العِلم بأن عقل الإنسان صُمم لكي يحاكي، وهنا نستذكر قصة قابيل والغراب الذي علمه دفْن أخيه هابيل. وعلى هذا المبدأ العلمي البسيط، فعقل الفرد في المنظمة يأخذ في التناغم – عبر المحاكاة – مع بقية العقول من خلال ما يراه من سلوكيات ويشعر به من روح ويحسن به من طاقة. ولنتأمل كيف لو أن مجموع الموظفين في منظمة ما متميزين سلوكياً ومهنياً ويملكون دافعاً ذاتياً قوياً نحو الإنتاج والابتكار، فإننا سنرى بلا شك ثقافةً تنظيمية قويّة تنبض بالإيجابية وتدفع المنظمة نحو التقدم والإنجازات.

وهنا يبرز الدور المهم والحاسم لقيادة المنظمة في خلق تلك البيئة المتحفزة. فالقيادي الحقيقي هو من يستطيع أن يبني فريقاً متناغماً موجهاً نحو الإنجاز، ويكون واضحاً في رؤيته وأهدافه التي يشرك الآخرين حوله فيها باستمرار، ويكون متفتحاً ومتقبلاً لمختلف الآراء، داعماً للتواصل المستمر والفاعل. ويحرص دوماً على ضخ روح الإيجابية والتفاؤل في مختلف الأحوال، ولا يحاسب الأفراد فقط لغرض المحاسبة، بل يتحمل المسؤولية ويحرص على التعلم من الأخطاء. والقيادي الحقيقي قدوة للجميع؛ فهو يغرس السلوكيات المثلى عبر تطبيقها. وهو أيضاً يشجِّع التنوُّع؛ التنوع في الأفكار والتوجهات والخلفيات، فهذا يدعم الابتكار والتعلم والتطور واكتشاف حلول غير تقليدية لمشكلات العمل. وهو كذلك يغرس قيم التعاون والتفاهم لتحقيق الأهداف المشتركة، كما يدعم التقارب بين الأقسام والموظفين لتعزيز الانسجام. ويحرص على تبني القيم الأساسية للمنظمة ولا يحيد عنها، وعلى تطبيق مبادئ الشفافية والصراحة والنزاهة والتبادل الحر للآراء.

إن ضخ دماء جديدة في المنظمة لمواهب تم استقطابها من بيئات تتسم بالثقافة التنظيمية الإيجابية، أمر له أثر كبير في الارتقاء بثقافة المنظمة. كما أن المنظمات ذات الثقافة التنظيمية الإيجابية يتسابق آلاف المتقدمين إلى الانضمام إليها. لكن من المهم أخذ حماسة المتقدِّم ومدى ملاءمته مهنياً وسلوكياً قبل دمجه في الثقافة التنظيمية، لأن الموظفين المحبطين، الذين يفتقدون للمهنية وللطاقة الإيجابية، يسهمون في خلق جو سلبي مشحون يؤثر فيمن حولهم (تأثير التفاحة الفاسدة)، فينعكس ذلك على الثقافة التنظيمية ككل، ويتدهور أداء المنظمة بشكل عام.

لكن المهم هنا هو إدراك قيادة المنظمة لضرورة استقطاب الأفراد الطموحين والإيجابيين، ومن ثم معرفة ماهية المحفزات التي تشعل حماسهم وتلائم تفكيرهم، ومزواجة هذه المحفزات مع نوع العمل المطلوب وأهدافه، وأيضاً مع السلوكيات العملية المفضلة لدى هؤلاء، مع تدريبهم وتطويرهم للاحتفاظ بهم كأصول قيّمة متنامية للمنظمة، وهذا هو أسلوب القياديين الأمثل لخلق ثقافة تنظيمية مثلى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.