تحليل

سنغافورة … قلب المركز المالي لآسيا

معروف أن سنغافورة بلد غني جداً، ولكن هل كل أهل البلد أغنياء؟ الجواب طبعاً هو لا، بل هناك فجوة كبيرة جداً بين الأغنياء والطبقات الأخرى، فمن ناحية يعيش هناك 184 ألف مليونير، وبسهولة ترى السيارات الفارهة، رغم أنها تُعد أغلى مكان في العالم لشراء سيارة، إلى جانب التكاليف العالية جداً بكل ما يختص بالسيارة من صيانة وأسعار وقود وضرائب طرق ورسوم تسجيل مركبات ومواقف سيارات، لكن في المقابل توجد شبكة مواصلات متطورة للنقل العام يغنيك عن اقتناء السيارة وتكاليفها المرتفعة.

مطار «تشانجي» المميَّز مع حديقته المشهورة، يلفت أنظار المسافرين ويجعلك لا تشعر بساعات الانتظار الطويلة، وكأنه مركز سياحي ثابت ضمن جولة المدينة. وعندما تصل إلى الحي المالي تشاهد غابة من الأبراج الشاهقة للبنوك إلى درجة أن معظم هذه المصارف لم تكتف فقط بمسألة التواجد فقط بمكتب من طابقين، بل جعلت مقرها برجاً كاملاً مع مئات الموظفين، وهذا يلعب دوراً كبيراً في المركز المالي للمدينة التي استطاعت أن تجتذب كبرى المصارف العالمية إليها، وعلى هذا المستوى الكبير من التواجد.

وفي المجال الإعلامي تُعد سنغافورة مركزاً مهماً ومقراً لعدد كبير من القنوات العالمية، إضافة إلى الفنادق الفخمة المنتشرة بشكل ملحوظ، والبعض منها يقع في مبان تاريخية أصبحت بحد ذاتها مقصداً سياحياً.

وإذا قمت بزيارة البلد، يتضح لك مستوى الأمان الكبير، وفي المقابل لديها لقب أغلى مدينة في العالم لعدة مرات ومستوى المعيشة وتكاليف العيش مرتفع جداً، ويزداد بشكل مستمر مع المستويات العالية من الرواتب.

وكما أن الحي المالي هو تجمع كبير من البنوك العالمية، هناك تجمع آخر في شارع التسوق الشهير «أورشارد» الذي يضم كبرى العلامات التجارية للمنتجات الفاخرة، إضافة إلى الكافيهات المهمة والمجمعات التجارية، وتتسابق المتاجر على إبراز فن معماري غير مسبوق بالنسبة لمبانيها، والشارع طويل جداً ومزدحم خلال النهار، ويتحول إلى شارع مهجور في الليل بعد ساعات الإقفال.

تاريخياً شهدت سنغافورة تحولاً جذرياً على 3 مراحل في اقتصادها، وعلى مدى عقود عندما انتقلت من دولة يسيطر القطاع الزرعي على اقتصادها بشكل كاسح، إلى دولة أصبح قطاع الصناعة هو قائد ناتجها المحلي الإجمالي، ومتفوقاً على الزراعة، وفي المرحلة الأخيرة كان التحوُّل الكبير الذي حصل معها لتصبح مركزاً مالياً إقليمياً، عندما أصبح قطاع الخدمات وتحديداً الخدمات المالية هو رافعة الاقتصاد والنسبة الأكثر تأثيراً فيه، وبات هذا القطاع يشكِّل %70 من الناتج المحلي الإجمالي بعدما كان في السابق عند %25.

كانت هناك بطالة عند حدود %14، وخلال 10 سنوات تراجعت إلى مستويات الـ %4، وكما هو معروف يُعد ذلك من الأمور الصعبة جداً في الاقتصاد، ولتحقيق ذلك أنت بحاجة إلى معدلات نمو مرتفعة ومستمرة لتستوعب أولاً هذه النسبة العالية، ومن ثم الداخلين الجدد إلى سوق العمل ويُعد ذلك إنجازاً كبيراً في الاقتصاد.

كما أن فكرة بناء المساكن الشعبية للمواطنين من قبل الدولة لعبت دوراً كبيراً في انهيار معدلات البطالة، فهذه الورشة الكبيرة أسهمت بإشراك نسبة كبيرة جداً من العاطلين عن العمل وبطريقة حماسية، خصوصاً أنهم سيسكنون هذه الأبنية، وبالتالي كانت فكرة ممتازة. اليوم %80 من مواطني الجزيرة يسكنون في هذه البيوت بعدما كانت النسبة عند %8، ويتملكونها بواسطة قروض من الدولة تصل إلى 99 عاماً، وبإمكانك ملاحظة كل هذه الأبنية عندما تسلك الطريق متوجهاً إلى المطار، فترى المجمعات التي بنيت من أجل ذلك.

موقع جزيرة سنغافورة لعب دوراً مهماً في نهضتها، فكان أهم العوامل التي أتت بالاستثمارات والأموال الأجنبية بسبب الموقع الاستراتيجي بالنسبة للتجارة، وهنا أعتقد رغم العمل الشاق الذي قام به المؤسس «لي كوان يو» والاحترام الواسع الذي يكنه له الشعب السنغافوري من قِبل جميع فئات المجتمع هناك، ورغم المكانة الكبيرة له، إلا أن كل ذلك ما كان ليحصل لو لم تأت هذه الاستثمارات الأجنبية إلى البلد، وهو الذي لعب الدور الرئيس بتهيئة المناخ المناسب لها، والبيئة الجذابة المهمة لفتت أنظار كبار المستثمرين، فاجتمعت هذه العوامل مع الجهود الجبارة للمؤسس لتسهم في صعود سنغافورة وجعلها تخطف الأضواء.

إذا ألقينا نظرة حالياً على نمور آسيا الأربعة، وهي كما هو معروف تتألف من سنغافورة، هونج كونج، تايوان وكوريا الجنوبية. العامل المشترك لهذه الدول هو أنها جميعها كانت شبه منسية وتعتمد على الزراعة بشكل كبير بالنسبة لاقتصادياتها، ثم حققت معدلات نمو كبيرة بدخول الاستثمارات الأجنبية إليها، واعتمدت بشكل كبير على قطاع الصناعة الذي أصبح فيما بعد القائد الأول للناتج المحلي الإجمالي في كل من هذه البلدان، ومن ثم لفتت الأنظار بشكل متزايد بعد نهوضها من الأزمات الاقتصادية المتتالية ومعاودة تسجيل النمو.

هنا تجدر الإشارة إلى أن سنغافورة وهونج كونج قامتا بنقلة نوعية كبيرة عندما انتزع قطاع الخدمات، القيادة من التصنيع وبات يطلق على سنغافورة لقب المركز المالي مثلها مثل هونج كونج، والتي عندما نأتي إلى ذكر اسمها، فوراً وبدون تردد تكون الإجابة على أنها مركز مالي.

أما بالنسبة لتايوان وكوريا الجنوبية فما زال يطغى بشكل أساسي لقب «القوة الصناعية» على كل من الدولتين وخصوصاً في مجال الإلكترونيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.