دعوني أحكي لكم من الماضي قصة ومن التقليد عِبرَة!
في أوائل عهدنا بالبترول، كانت هناك سبع شركات عالمية، أمريكية وأوربية، تتحكم في إنتاج وصناعة البترول. كانت تسمى آنذاك الأخوات السبع. وهو تعريف أطلقه عليها جنرال إيطالي لا يخلو من الطرافة والتعبير عن شراستها وقوة شكيمتها في مجال التفرد باستغلال تجارة وصناعة البترول والتحكم في إنتاجه وأسعاره. ولكن لم يكن ذلك بدون وجود شرعي لها، فقد كان لتلك الشركات العملاقة الفضل ـ بعد الله ـ في اكتشاف البترول، وكانت تدير شئون البترول بموجب عقود قانونية، ذات زمن محدد، بينها وبين أصحاب الأرض. ولذلك كان هدفها الرئيسي إنتاج أكبر كمية ممكنة وبأقل تكلفة ليتم استنزاف أكبر قدر ممكن منه قبل انتهاء مدة العقود، حتى أنها كانت تنتج البترول وتحرق الغاز لضآلة مردود استغلاله اقتصاديًّا، ولم يكن في حسابها سلامة مستقبل حقول البترول ولا ما نسميه اليوم نصيب الأجيال.
وخلال قمة سيطرتها على السوق البترولية وعنفوان استبدادها والتلاعب بالأسعار لصالح شركاتها ومساهميها، وُلِدَت منظمة الأوبك عام 1960 من أجل حماية مصالح أصحاب الأرض.
ويريد الله أن تنتهي بعد عقود مدة تلك الاتفاقيات مع الأخوات السبع، وتنتقل ملكية ومسئولية الإنتاج إلى الأيدي الوطنية، وهو أمر طبيعي بعد النضوج العلمي للعنصر الوطني واكتساب الخبرة في معظم بلاد البترول.
هنا، كان من المنطقي ان تتغير سياسات الإنتاج في البلدان التي تحررت من سيطرة الشركات الأجنبية، ويتغير الهدف من إنتاج أكبر كمية ممكنة، إلى التركيز على بناء اقتصاد وطني توطيني، يقلل من الاعتماد الكلي على دخل البترول الناضب من أجل مستقبل أفضل. لم يكن ذلك أمرًا سهلاً، فاستحب أغلب المنتجين الوطنيين التمسك بما كانت عليه شركات البترول السابقة، اختيار المنافَسَة في الإنتاج، وهو سلاح ذو حدين، لكنه يعفيهم من وجع الرأس والعمل المضني من أجل خلق اقتصاد وطني بأيدي وطنية، تحقيقه شبه مستحيل، بدون جهود غير عادية.
والأجدى لمستقبل الشعوب ـ حسب رأينا ـ أن تكون المنافسة في خفض الإنتاج وليس رفعه. فالموضوع يتعلق بمصدر قابل للنضوب، واليوم، لا يشغل بالنا أمر أكثر أهمية من الخوف على مستقبل أجيال قد تجد نفسها ـ لا قدر الله ـ في يوم ما بدون بترول وبدون اقتصاد منتِج. وفي بلادنا نترقب، وكلنا أمل، نجاح الرؤية المباركة 2030، وما يعقبها من رؤى متتالية من أجل مستقبل أجمل لأجيالنا ـ بإذن الله ـ ومن الأفضل والمنطقي ألا يعتبر منتجو البترول، السوق البترولية مجالًا للمنافسة، أيهم يكون أكثر إنتاجًا، كما هي حالنا اليوم، بل يصبحوا روافد لبعضهم، والسوق اليوم تتسع للجميع، وليس من صالح أحد الإصرار على استنزاف هذه الثروة الثمينة بأي ثمن وفي أسرع وقت ممكن.
ونود التوضيح والتأكيد على أن تخفيض الإنتاج من أجل المحافظة على السعر، ليس خسارة إنتاج كما يسوغ للبعض تسميته، أو عبئا يتحمله المنتِج كما نسمع من بعض المحللين، بل هو مكسب مضاعَف، يزيد الدخل ويحفظ فائض الثروة للمستقبل.
ومما كان سائدًا زمن الأخوات السبع، أنهم كانوا يعتبرون قيمة برميل البترول، الذي ما يزال في باطن الأرض “صِفِرا”، أي لا قيمة له. ولم نكن حينها نلومهم، لأن ذلك كان يتوافق مع مبدأهم، إنتاج أكبر كمية من البترول بأقل ثمن، إلا ما نصت عليه الاتفاقيات ورضي به الجانبان. ولكن من غير مقبول لدينا اليوم، فكرة الاستمرار في تطبيق المبدأ نفسه على الثروة التي أصبحت ملكا لنا، فسواء كانت تحت الأرض أو فوق الأرض، قيمتها واحدة. ومن حسن الحظ أن الفكرة القديمة بدأت تتلاشى لصالح اعتبار ما تحت الأرض له قيمة ويدخل في حساب دراسة الجدوى الاقتصادية لمشاريع بدائل الطاقة التي يكون البترول طرفًا فيها.