نافذة

“معايير الحب”!

قواعد الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، أو باسم آخر اكثر شيوعًا “المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة” يتم اختصارها اليوم في عالم الاعمال بـ “ESG” وهي الأحرف الأولى من الكلمات الإنجليزية المقابلة، هذه المعايير ستكون قريبًا من مستلزمات أي شركة أو عمل، وربما نراها مفروضة من المشرعين في بعض الدول قبل أن تعمم على معظم دول العالم.

سيكون على أصحاب الشركات ومدرائها وأصحاب المصلحة فيها الاعتياد على هذا المصطلح، وإنشاء أقسام تُعنى بهذا المجال ضمن إدارات الاتصال المؤسسي أو علاقات المستثمرين أو إدارات الحوكمة إن وجدت لأن هذه المجالات اليوم هي إحدى أهم أدوات تقييم الشركات، وإحدى ملامح قرارات مدراء الاستثمار أو الصناديق، وربما قريبًا ستكون من متطلبات التقدم لإنجاز المشاريع أو الفوز بالعطاءات.

هذه المعايير الثلاثة البيئة، والمجتمع، والحوكمة هي المجالات الرئيسة ذات الاهتمام التي تم تطويرها لتكون العوامل الرئيسة لقياس الاستدامة والتأثير الأخلاقي للاستثمار في الشركة أو الأعمال التجارية، ورغم وجود سوابق تاريخية لأعمال تقترب من مفاهيمها إلا أنها كانت متفرقة ومتباعدة زمنيًا، لكن العقد الأخير شهد تصاعدًا في الاهتمام، وتزايدًا في التطبيق مما يجعلنا في المنطقة الخليجية في سباق مع الزمن لتطبيقها والعمل بها.

شخصيًا أرى في هذه المعايير نوعًا من تحقيق المصالح الخاصة من زاوية أو بوابة المصالح العامة، ولعل فلسفتي المتواضعة والخاصة هنا أن زيادة تحقيق الصالح العام تزيد من قوة المجتمع والاقتصاد جزء من هذه القوة، فتزدهر الأعمال، ويزداد تحقق المصلحة الخاصة وهكذا في عملية تفاعلية يتم فيها تدوير المصالح بين العام والخاص بطريقة فعالة يستفيد منها الجميع، صاحب العمل، والمجتمع الذي يعمل فيه، وبالتالي أو بالطبع الحكومة التي تحفز أو تصنع البيئة المناسبة، وتبدأ بنفسها في تطبيق هذه المعايير.

إضافة إلى التفوق الاقتصادي المأمول على المديين المتوسط والطويل من تحقيق هذه المعايير على أرض الواقع سيتحقق للمنشأة ولأصحاب المصلحة فيها من الملاك والموظفين وحتى العملاء نوعًا من التفوق الأخلاقي المتأتي من الإحساس بأداء الواجب تجاه المجتمع، والكوكب، وتجاه العمل المتقن الذي هو جزء من ثقافتنا الدينية، وهو اليوم وفق معايير الحوكمة جزء من بناء الأعمال وتنميتها على أسس صحيحة تحقق النمو المستدام.

في كل فرد رغبة غريزية في تحقيق الخير وصنع الجمال والقيام بالأفضل، وهنا يمكن الجانب الذي يخص تعظيم الولاء للعلامة التجارية التي يثبت مع الأيام أنها تحقق هذه المعايير بجدية واستدامة ورغبة حقيقية في تنفيذ متطلباتها وتحقيق تأثير هذا التنفيذ، وليس فقط الالتزام بالحد الأدنى الذي يفرضه المشرع في حال كان في بلد تفرض ذلك، أو الحد الأدنى الذي يورده في تقارير إعلامية استعراضية بغرض الدعاية المؤقتة أو حتى “مواكبة” الموضة.

المهم والجميل أن رؤية المملكة 2030 تضمنت في كثير من مبادراتها ومستهدفاتها أشياء ذات علاقة مباشرة بهذه المعايير، ففي مجال الحوكمة هناك تطوُّر كبير وعميق في حوكمة العمل الحكومي، وزيادة الحوكمة في القطاع الخاص، وفي المجال الاجتماعي هناك ما يمكنني تسميته تحرير نصف طاقة المجتمع المعطلة عبر تمكين المرأة، وهناك أهداف تطوعية، وأخرى تتعلق بالقطاع الثالث غير الربحي، ثم هناك مشاريع ضخمة ومبادرات جادة وصارمة تجاه البيئة، بيئة المملكة، والمنطقة ككل، والتفاصيل كثيرة ويعرفها كل متابع أو مهتم.

الموضوع شيق نظريًا، ومليء بالتحديات عمليًا، وسيتصل الحديث عنه كثيرًا بالنسبة لي، ولعل أول الخواطر بالنسبة لي أن هذه المعايير على جدية مجالاتها الثلاث إلا أن فيها جانبًا وجدانيًا إنسانيًا لا يمكن تجاهله، فالحوكمة تفضي إلى الطمأنينة والثقة، والاهتمام بالبيئة يقود إلى الجمال من حولنا وإلى عودة الطبيعة إلى زهوها وازدهارها، والمسؤولية الاجتماعية تذكير للإنسان بأخيه الانسان، وبواجباته تجاه عمارة الأرض، إنها تبدو كمعايير للحب أكثر منها معايير لتقييم الشركات وتوجيه الاستثمارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.