التضخم يرسم صورة قاتمة لمستقبل النمو العالمي
الحرب الروسية الأوكرانية سوف تُسهم العام الجاري في تخفيض تنبؤات النمو لـ 143 اقتصادًا
معهد “بيترسون”: النمو العالمي سوف يتباطآ إلى %3.3 خلال 2022م و2023م وفي الولايات المتحدة إلى %3 خلال عام 2022م و%2 في عام 2023م
ارتفع معدل التضخم في المانيا إلى أعلى مستوى له منذ عام 1990م مدفوعًا بالقفزات الكبيرة في أسعار الطاقة
بفضل سلسلة من المشاريع الاستثمارية الجديدة استطاعت المملكة والإمارات تفادي حدوث تضخم مصحوب بركود
في أكتوبر عام 1929م، حدث ما أُطلق عليه الكساد العظيم أو الكبير (Great Depression)، حيث أزمة كساد اقتصادي ضربت أسواق الأسهم الأمريكية ومعظم دول العالم، أدت إلى إفلاس المساهمين والشركات وإغلاق المصانع وتسريح العمالة وتوقف الإنتاج، وانتهت في بعض الدول خلال أربعينيات القرن العشرين.
ورغم محاولات تخطي العالم بما قدمته حكوماته من تدابير التحفيز الاقتصادي لحالة الكساد العالمي الذي أذكته الجائحة الأشد حدة منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا، زاد من احتمالات عودة “شبح” أزمة الكساد الكبير.
صورة قتامة
ويشكل التضخم تهديدًا للاستقرار المالي وضريبة على من يكافحون لسد احتياجاتهم الأساسية، وفي كثير من البلدان، أصبح مصدر قلق كبير، وهناك احتمال متزايد بأن تخرج توقعاته عن ركائزه المستهدفة، مما قد يجعله أصعب في السيطرة عليه.
وتتزايد في الآونة الأخيرة مخاوف بيوت الخبرة ومراكز الأبحاث العالمية حيال مستقبل نمو الاقتصاد العالمي، لترسم له صورة أكثر قتامة، وسط مؤشرات تنبئ بتراجع محتمل بحلول نهاية عام 2022م وتزايد مخاطر التضخم والركود في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا وعمليات الإغلاق بسبب السلالة الجديدة من كورونا في الصين.
وثمة خروج شركات عديدة من الأسواق وبدء تقليص الأسر الضعيفة لاستهلاكها تقليصًا حادًا، وتفاقمت الآثار والتداعيات غير المباشرة العابرة للحدود، وكذلك حدثت اضطرابات واسعة النطاق للإنتاج، وزيادة في حالات الإفلاس على مستوى العالم، وإطلاق موجات شديدة من المصاعب المالية في الكثير من بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية.
وضع أضعف
وقد استهل الاقتصاد العالمي العام الجاري بحسب تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادر عن صندوق النقد الدولي بعنوان” إصابات متزايدة بالفيروس وتعاف معطَّل وتضخم مرتفع”، وهو في وضع أضعف مما ورد في التوقعات السابقة لاسيما مع انتشار سلالة “أوميكرون” الجديدة وتصاعد أسعار الطاقة والانقطاعات في سلاسل الإمداد وبدء ارتفاع التضخم واتساع نطاقه عن المستويات المنتظرة في الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، وباتت آفاق النمو محدودة حتى في الصين جراء الانكماش في قطاع العقارات وبطء تعافي الاستهلاك الخاص مقارنة بالتوقعات.
تضخم مرتفع
وبحسب صندوق النقد الدولي، سجل النمو العالمي تراجعًا من %5.9 في عام 2021م إلى %4.4 في عام 2022م، وتوقع أن يستمر التضخم المرتفع لفترة أطول من المتصور، وذلك مع استمرارية الانقطاعات في سلاسل الإمداد وكذلك أسعار الطاقة المرتفعة، مفترضًا بقاء توقعات التضخم على مستوى جيد من الثبات حول الركيزة المستهدفة.
نكسة هائلة
وكانت كريستالينا غورغييفا، المدير العام لصندوق النقد الدولي، التي قالت أثناء الجائحة إن العالم يواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير، تقول اليوم “إنه للمرة الأولى ومنذ سنوات عديدة، أصبح التضخم خطرًا واضحًا وحاضرًا بالنسبة لكثير من البلدان حول العالم، إنها نكسة هائلة في مسيرة التعافي العالمي، وبلغة الاقتصاد أقول: “إن النمو انخفض والتضخم ارتفع”.
وأكدت أن الحرب الروسية الأوكرانية سوف تُسهم في تخفيض تنبؤات 143 اقتصادًا هذا العام، أي ما يمثل %86 من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وأشارت إلى أن الآفاق العالمية تشهد تدهورًا شديدًا، وذلك في الأساس بسبب الحرب وتداعياتها، وأيضًا بسبب أعباء التضخم والتشديد المالي وتكرار الإغلاقات العامة واسعة النطاق في الصين، مما ينشئ اختناقات جديدة في سلاسل الإمداد العالمية.
إنفاق المستهلك
فيما يقول تقرير حديث أصدره معهد “بيترسون” للاقتصاد الدولي، إن مجموعة من العوامل تدفع بهذا الاتجاه التشاؤمي بما في ذلك ارتفاع أسعار النفط في أعقاب اندلاع الحرب بأوروبا، وتراجع إنفاق المستهلك وسط أعلى موجة لارتفاع الأسعار في أربعة عقود، كما أن تباطؤ النمو الصيني يزيد من فرص الانكماش في ظل حالة من عدم اليقين.
سيظل أعلى
وقد ذهبت توقعات المعهد إلى أبعد من صندوق النقد الدولي، الذي تنبأ بانخفاض النمو العالمي إلى %4.4 خلال العام الجاري؛ إذ توقع المعهد، بتباطؤ النمو العالمي بشكل عام إلى ما نسبته %3.3 خلال 2022م و2023م، وذلك مقارنة بـ %5.8 في عام 2021م، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص إلى ما نسبته %3 خلال عام 2022م و%2 في عام 2023م، وتوقع كذلك بأن يتراجع التضخم الأساسي في الولايات المتحدة إلى %4.1 خلال 2022م وإلى %3 في عام 2023م؛ ومع ذلك فإن التضخم سيظل أعلى من مستهدف مجلس الاحتياطي الفيدرالي البالغ %2.
موجة الإغلاق
وتواجه الاقتصادات صعوبات جمة بعد الانتعاش مع إعادة فتح الاقتصادات إثر موجة الإغلاق بسبب الوباء، فيما أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تفاقم هذه المشاكل، في حين أغلقت الصين العديد من المناطق الرئيسية حيث تكافح الحكومة تفشي فيروس كورونا، وهي عوامل من المتوقع أن تؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي هناك.
أسعار الفائدة
وباستثناء الطاقة والغذاء ارتفعت أسعار المستهلكين بشكل حاد بنسبة %6.6 في مارس الماضي على أساس سنوي، ورفع صانعو السياسة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة وتوقعوا إقرار سبع زيادات أخرى هذا العام وحتى أبريل المقبل في خطوة تستهدف السيطرة على ارتفاع الأسعار وسط مخاوف من أن تشديد السياسة النقدية قد يرفع معدلات البطالة.
وكانت قد قفزت أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة خلال شهر مارس بأكبر معدلاتها منذ أواخر عام 1981م لتعزز بذلك التوقعات بأن يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة أخرى قريبًا.
وأظهرت بيانات وزارة العمل ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين بـنسبة %8.5 عن عام سبق، بعد أن زاد %7.9 على أساس سنوي في فبراير، وصعد مقياس التضخم المتبع على نطاق واسع بنسبة %1.2 عن الشهر السابق، وهو أكبر ارتفاع منذ 2005م وقادت تكاليف البنزين نصف الزيادة الشهرية.
ذروة التضخم
وتمثل قراءة مؤشر أسعار المستهلكين لشهر مارس 2022م ما توقعه العديد من الاقتصاديين ليكون ذروة فترة التضخم الحالية، والذي يعكس تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما يتحول بنك الاحتياطي الفيدرالي على هذا النحو إلى سياسة أكثر تشدداً، ليس من المرجح أن يتراجع التضخم إلى هدف البنك المركزي البالغ %2 في أي وقت قريباً لاسيما في ظل الحرب والإغلاقات المرتبطة بفيروس كورونا في الصين وزيادة الطلب على الخدمات مثل السفر.
الإيرادات الكبيرة
بينما تشير القراءات الاقتصادية أن اقتصادات المملكة والإمارات، وهي من كبرى اقتصادات المنطقة تمكنت حتى الآن من تفادي حدوث تضخم مصحوب بركود بفضل سلسلة من المشاريع الاستثمارية الجديدة، واستفادت دول الخليج من الإيرادات الكبيرة التي جنتها من الارتفاع الكبير في أسعار النفط كما نجحت في جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، إذ نجحت المملكة وحدها أن تُسجل تقدمًا قياسيًا في تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر خلال عام 2021م، ببلوغه نحو 19.3 مليار دولار (72.3 مليار ريال) بارتفاع نسبته %257.2، مقارنة بـ 2020م البالغ 5.4 مليارات دولار (20.25 مليار ريال).
كما أن المملكة خصيصًا على موعد تفاؤلي كبير مع النمو، إذ كشف صندوق النقد الدولي منتصف أبريل الماضي عن توقعاته خلال العام الجاري 2022م لنمو الاقتصاد السعودي بنسبة تصل إلى %7.6 بدلاً من %4.8 في تقريره عن شهر يناير السابق، وكذلك توقعاته للعام 2023م إلى %3.6 مقابل %2.8، وذلك أمام التطورات الكبيرة التي يشهدها الاقتصاد الوطني في إطار تنفيذ مستهدفات رؤية 2030م والنجاحات الحكومية في تخطي أزمة الجائحة، وأيضًا تلك الارتفاعات الأخيرة في أسعار النفط العالمية.
أوروبا والأنباء السلبية
أما في أوروبا توالت الأنباء السلبية بشأن التضخم؛ إذ سجلت فرنسا وهي ثاني أكبر اقتصادات منطقة اليورو بأكثر من المتوقع ليصل إلى مستوى قياسي جديد، وقفزت أسعار المستهلكين بنسبة %5.1 في مارس على أساس سنوي، وهي الوتيرة الأكبر في سلسلة البيانات التي بدأت عام 1997م في حين كان من المتوقع ارتفاعها %4.9، وفي المانيا ارتفع معدل التضخم خلال شهر مارس الماضي إلى أعلى مستوى له منذ عام 1990م مدفوعا بالقفزات الكبيرة في أسعار الطاقة، كما أظهرت هيئة الإحصاء الدنماركية بيانات ارتفاع التضخم في أسعار المستهلكين في البلاد في مارس الماضي، ليصل إلى أعلى مستوى منذ مايو من عام 1985م، وكذلك أظهرت بيانات نشرها مكتب الإحصاءات الإسباني تسارع التضخم في أسعار المستهلكين في مارس، ليصل إلى أعلى مستوى منذ مايو 1985م.
الصين تكافح
وفيما يتعلق بثاني أقوى اقتصادات العالم خفض صندوق النقد الدولي التوقعات بنمو الاقتصاد الصيني بمقدار 0.8 نقطة مئوية بسبب اضطرابات الجائحة المتعلقة بسياسة عدم التهاون المطلق مع أي حالات عدوى، بالإضافة إلى استمرار الضغط المالي الواقع على المطوّرين العقاريين لفترة ممتدة، فضلاً عما أظهرته بيانات رسمية بأن معدل التضخم في الصين فاق التوقعات في شهر مارس، حيث يكافح الاقتصاد ضغوط ازدياد التكاليف الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية وسلاسل التوريد وكانت الزيادة الشهرية في الأسعار حوالي %1.1، الأسرع في 5 أشهر.