توقفت بتراجع إنتاجها العديد من مصانع السيارات حول العالم وتباطأت أُخرى عن الإنتاج، وتراجعت معدلات إنتاج الهواتف النقالة وغيرها من الأجهزة الإلكترونية، إنها الرقائق الإلكترونية أو كما يسميها البعض أدمغة الإلكترونيات أو العقل المدبر للسيارات والطائرات وكل شيء إلكتروني في الحياة من أجهزة الحاسوب ومشغلات ألعاب ولوحات التحكم والشبكات المعلوماتية والهاتفية وغيرها، فأصبحت تعتلي الرقائق الإلكترونية أهمية فائقة باعتبارها المصدر الرئيس في إنتاج كل ما هو إلكتروني.
ونظرًا لأهميتها والاحتياج الشديد لهذه الرقائق، التي تعتبر أصغر منتج يتم إنتاجه عالميًا فلا يتعدى حجمها نحو خمسة نانومتر، باتت تمثل القلب لمعادلة النظام العالمي الحالي، ووضعت صناعتها ضمن مناطق التجاذبات الخطرة التي لا أحد يستطيع التنبؤ بنتائجها، فيعتبرها العديد السلعة الاستراتيجية الأولى، بل ونفط القرن الحالي؛ إذ تُشكّل الأساس لمجالات حيوية، وتعد أساس الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة ومهد الخامسة، وأن تعزيز إنتاجها بات مسارًا استراتيجيًا وملمحًا رئيسيًا في مختلف الخطط الاقتصادية للبلدان المنتجة لها وكذلك الراغبة في العمل على إنتاجها.
تتسارع اليوم البلدان إلى تعزيز إنتاجها من هذه الرقائق، فتعتزم إنتل الأمريكية استثمار 20 مليار دولار في إنتاجها، فيما تستثمر شركة تي سي إم سي التايوانية 100 مليار دولار، وكذلك يطمح الاتحاد الأوربي لإنتاج %20 من الرقائق بحلول 2030م وهو ما يعني مضاعفة حصته الحالية من الإنتاج.
طبيعتها الفزيائية
وتقع الرقائق الإلكترونية بحسب طبيعتها الفيزيائية في المنطقة الواقعة بين المواد العازلة والمواد الموصلة، وذلك لأن كفاءتها في توصيل التيار الكهربائي متوسطة إلى حد ما، وتتكون من عدد من العناصر أبرزها مادة السيليكون (تستخرج من حجر الكوارتز الأكثر نقاءً في العالم )، وتشمل أيضًا عدة أنواع؛ وهي: أشباه الموصلات الداخلية، والخارجية، التي يندرج أسفلها كل من أشباه الموصلات السالبة والموجبة، وتُستخدم أشباه الموصلات في صناعة العديد من الأجهزة والمعدات الإلكترونية، نظرًا لأهميتها في هذا النوع من التطبيقات العملية، وعادة ما يستغرق تصنيعها أكثر من ثلاثة أشهر وتحتاج إلى مصانع ضخمة واحتياطات كبيرة تمنع تسرب الغبار فضلاً عن آلات بملايين الدولارات.
عملية تصنيع معقدة
ويمر تصنيع الرقائق الإلكترونية بعملية معقدة؛ فالشريحة الإلكترونية الواحدة يتطلب إنتاجها ما بين ألف إلى ألفين خطوة، وذلك بتحويل رقاقات السيليكون وهو عنصر يتم استخراجه من الرمال إلى شبكة تحوي المليارات من المفاتيح الإلكترونية الصغيرة، تسمى “الترانزستورات”، وهي المكوّنات الدقيقة التي تقوم بتكبير وتضخيم الإشارات الإلكترونية والكهربائية وتجري العمليات الحسابية داخل أجهزة الحاسوب، وبالتالي تمنح السيارات والهواتف وكل شيء إلكتروني القدرة على التشغيل، فهي أساس التشغيل أو العقل المدبر لكل ما هو إلكتروني.
وقد نمت صناعة أشباه الموصلات العالمية في عام 2020م بحسب جريدة الاقتصادية بما نسبته %10.4 على أساس سنوي لتصل إلى 466 مليار دولار، ومن المتوقع أن ينمو القطاع بمعدل %10 سنويًا خلال الأعوام الخمسة القادمة، ورغم تراجع حصة مبيعات شركات أشباه الموصلات، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها من %52 من إجمالي السوق العالمية خلال عام 2012م إلى %47 في عام 2019م، إلا أنها ظلّت أكبر بكثير من أقرب منافس لها، وهي الشركات الكورية الجنوبية، التي تستحوذ على %19 من السوق العالمية، وذلك بحسب وثيقة صناعة أشباه الموصلات الأمريكية والمنافسة العالمية، الصادرة عن الكونجرس الأمريكي.
أزمة كبيرة
وكانت أشباه الموصلات، قد شهدت أزمة كبيرة مع جائحة كورونا وتحديدًا مع منتصف عام 2021م؛ إذ واجه المنتجون الرئيسيون لها وهم شركة تي إس إم سي في تايوان، وشركة سامسونغ وإس كاي هاينيكس في كوريا الجنوبية، وشركة إنتل في أمريكا، وعدد من الشركات الأُخرى في القارة العجوز، زيادة مفاجئة في الطلب العالمي على أجهزة الحاسوب ومشغلات الألعاب الإلكترونية، وذلك في مقابل الإغلاقات التي صاحبت الجائحة للعديد من مصانع الرقائق بسبب الإجراءات الاحترازية، وكذلك الارتفاعات الكبيرة في تكلفة الشحن التي قدّرها أوليفر تشابمان، الرئيس التنفيذي لشركة (OCI) بحسب موقع (Sky news) العربية، بحوالي عشرة أضعاف التكلفة في العام الذي سبق الجائحة، بعد زيادة تكلفة الشحن الجوي، والنقص في سائقي الشاحنات في أوروبا، فضلاً عما تواجه صناعتها منذ فترة من حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين.
تعزيز تصنيعها محليًا
ونتيجة لما تسبّب فيه نقص الرقائق الالكترونية خلال العام الماضي، من أزمة للعديد من سلاسل التوريد العالمية في الصناعات الإلكترونية، وفي محاولة لتجنب حدوث نقص مماثل مستقبلاً، اتخذت عدة دول خطوات لتعزيز تصنيعها محليًا رغم ما يكتنف عملية تصنعيها من تحديات تظهر في ضخامة التكلفة وطول الوقت وكبر حجم مصانعها التي يعادل المصنع الواحد منها مساحة ستة ملاعب كرة قدم؛ إذ يتكلف بناء مصانع جديدة من 6 إلى 10 مليار دولار، وقد تصل مدة الإنشاء إلى عام ونصف.
المبادرات الأمريكية
فبادرت الدول كالولايات المتحدة الأمريكية بتوقيع اتفاقية مع سامسونج وTSMC، لإنشاء مصانع للرقائق الإلكترونية على أراضيها، فرغم ريادتها في تصميمها إلا أنها تفتقر في تصنيعها؛ إذ تنتج الولايات المتحدة حوالي %10 فقط من الرقائق في العالم (ما يعد انخفاضًا من حوالي %40 في عام 1990م)، فقدمت دعمًا لصناعتها من خلال قانون CHIPS and Science الذي وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن، ليصبح قانونًا رسميا، وبمقتضاه سيوفر ما قيمته 280 مليار دولار كمساعدة مالية لشركات أشباه الموصلات الأمريكية، ويخصص 52.7 مليار دولار من الإعفاءات الضريبية وتمويل صانعي الرقائق الأمريكيين لتوسيع الإنتاج المحلي، ويشمل 39 مليار دولار من حوافز التصنيع، و13.2 مليار دولار في البحث والتطوير (R&D) وتطوير القوى العاملة، و500 مليون دولار لتوفير أمن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الدولية وأنشطة سلسلة توريد أشباه الموصلات. كما يوفر ائتمانًا ضريبيًا استثماريًا بنسبة %25 للنفقات الرأسمالية لتصنيع أشباه الموصلات والمعدات ذات الصلة.
المساعي الصينية
وكذلك الصين التي تعد أكبر مستهلك للرقائق الإلكترونية في العالم فيما يمثل حجم صناعتها قليلا للغاية، فاستوردت في عام 2017م شرائح إلكترونية بقيمة 260 مليار دولار، وتتطلع إلى إنتاج %70 من احتياجاتها بحلول عام 2025م، فأقرّت دعم صناعتها بما قيمته 1.4 تريليون دولار، والتي برزت مؤخرًا كمنافس استراتيجي رئيسي للولايات المتحدة، باستثمارها بكثافة في قواتها العسكرية، وقد حددت هدفًا لبناء جيش “حديث تمامًا” بحلول عام 2027م يعتمد على مجالات التكنولوجيا مثل: الذكاء الاصطناعي (AI)، والحوسبة الكمومية، وفوق الصوتيات، والإلكترونيات الدقيقة.
الرقائق أمن قومي
في حين أن النقص المحتمل المرتبط بالرقائق في الإلكترونيات الاستهلاكية في جميع أنحاء الولايات المتحدة في المستقبل قد يكون مشكلة كبيرة للبلاد، إلا أن هناك مشكلة أكبر في ذلك وهي الأمن القومي. هذا لأن جميع أنظمة ومنصات الدفاع الأمريكية الرئيسية تعتمد اليوم على أشباه الموصلات لأدائها. أنظمة الرادار، والأقمار الصناعية، والطائرات المقاتلة، والطائرات بدون طيار، والصواريخ، وأنظمة الاتصالات، كلها تعتمد على الرقائق. بدون الوصول الموثوق إلى أحدث أشباه الموصلات، ستتعرض قدرة البلاد على الدفاع عن نفسها وحلفائها للخطر. لذا، فإن الاعتماد على تايوان في الرقائق يمثل مخاطرة حقيقية من منظور دفاعي.
الجهود الأوروبية واليابانية
وأعلنت أوروبا ـ التي تعتمد بشكل كبير على إنتاج الرقائق لقطاعات السيارات والصناعة ـ عن قانون الرقائق الأوروبي في محاولة لمعالجة نقص أشباه الموصلات ومساعدة الكتلة على أن تصبح رائدة في مجال التكنولوجيا. سيوجه هذا أكثر من 43 مليار يورو نحو تصنيع الرقائق من الآن وحتى عام 2030م، وتهدف أوروبا إلى تشجيع الشركات على بناء مصانع في جميع أنحاء القارة.
وفي الوقت نفسه قررت الحكومة اليابانية تقديم الدعم لبناء مصنع جديد للرقائق بقيمة 7 مليارات دولار، الذي من المقرّر أن يبدأ الإنتاج بحلول نهاية عام 2024م، ليوفر هذا المصنع الرقائق لشركات تصنيع الأجهزة الإلكترونية وشركات السيارات اليابانية.
المملكة وصناعة الرقائق
وكذلك أطلقت المملكة برنامجًا يستهدف توطين تكنولوجيا صناعة الرقائق الإلكترونية؛ وهو البرنامج السعودي لأشباه الموصلات الذي يُعدّ الأول من نوعه في المنطقة، لدعم البحث والتطوير وتأهيل الكوادر البشرية في مجال تصميم الرقائق الإلكترونية وتوطينها.
ويهدف البرنامج إلى توطين صناعة الرقائق الإلكترونية إلى إجراء الأبحاث العلمية في تقنيات الرقائق، وتأهيل الكوادر البشرية في مجال تصميمها وإنتاجها لدعم توطين صناعة أشباه الموصلات في المملكة، كما يمنح البرنامج الباحثين في الجامعات داخل المملكة فرصة تصنيع الرقائق بأحدث التقنيات، من خلال توفير الأدوات المطلوبة لتصميمها، ودعم تكلفة تصنيعها المرتفعة.
وضمن مجهوداتها نحو إنتاج الرقائق الإلكترونية، كانت شركة “سابك” قد وقعت عام 2018م مذكرة تفاهم مع شركتي “شميد الألمانية” و”رواق للتطوير الصناعي” لإنشاء مصانع في مدينة الجبيل الصناعية تختص بإنتاج مادة السيليكون المستخدمة في الرقائق الإلكترونية وسبائك خلايا إنتاج الطاقة الشمسية، بالإضافة إلى تصنيع بطاريات الفناديوم لتطبيقات تخزين الطاقة المتجددة.
وكان وزير الاتصالات وتقنية المعلومات، المهندس عبد الله بن عامر السواحة، قد أعلن في أغسطس 2021م عن تصنيع أول رقائق ذكية داخل المملكة بأيدٍ وعقول سعودية ستستخدم في تطبيقات عسكرية وتجارية ومدنية، وأوضح أن هذه الرقائق الذكية لديها قوة معالجية بأكثر من 60 ألف ضعف من تلك المستخدمة في رحلة الإنسان للقمر، وفي الهواتف الذكية وما تستخدمه الشركات العملاقة، مثل أبل وغوغل ومايكروسوفت وأمازون و”أي بي أم” وسيكسو وأوراكل وعلي بابا التي تمثل %60 من القوة الضاربة الابتكارية والقيمة الاسمية لأكبر 10 شركات تكنولوجية عملاقة في العالم.
ويرى الخبراء أن المملكة من أكثر الدول تأهيلاً لإنتاج الرقائق الإلكترونية فمن ناحية تمتلك مساحات شاسعة من الرمال الغنية بمادة السيليكا (الكوارتز) وفي منطقة حائل تعد مادة السليكا هي الأنقى في العالم بنسبة تصل إلى %99.99، ومن ناحية أُخرى ثمة إرادة سياسية تجسدت في رؤية 2030م الهادفة إلى التنويع الاقتصادي والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية ووفورات نقدية ضخمة.